{ 19 } { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ }
العلم لا بد فيه من إقرار القلب ومعرفته ، بمعنى ما طلب منه علمه ، وتمامه أن يعمل بمقتضاه .
وهذا العلم الذي أمر الله به -وهو العلم بتوحيد الله- فرض عين على كل إنسان ، لا يسقط عن أحد ، كائنا من كان ، بل كل مضطر إلى ذلك . والطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا هو أمور : أحدها بل أعظمها : تدبر أسمائه وصفاته ، وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلالته{[787]} فإنها توجب بذل الجهد في التأله له ، والتعبد للرب الكامل الذي له كل حمد ومجد وجلال وجمال .
الثاني : العلم بأنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير ، فيعلم بذلك أنه المنفرد بالألوهية .
الثالث : العلم بأنه المنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة ، الدينية والدنيوية ، فإن ذلك يوجب تعلق القلب به ومحبته ، والتأله له وحده لا شريك له .
الرابع : ما نراه ونسمعه من الثواب لأوليائه القائمين بتوحيده من النصر والنعم العاجلة ، ومن عقوبته لأعدائه المشركين به ، فإن هذا داع إلى العلم ، بأنه تعالى وحده المستحق للعبادة كلها .
الخامس : معرفة أوصاف الأوثان والأنداد التي عبدت مع الله ، واتخذت آلهة ، وأنها ناقصة من جميع الوجوه ، فقيرة بالذات ، لا تملك لنفسها ولا لعابديها نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، ولا ينصرون من عبدهم ، ولا ينفعونهم بمثقال ذرة ، من جلب خير أو دفع شر ، فإن العلم بذلك يوجب العلم بأنه لا إله إلا هو وبطلان إلهية ما سواه .
السادس : اتفاق كتب الله على ذلك ، وتواطؤها عليه .
السابع : أن خواص الخلق ، الذين هم أكمل الخليقة أخلاقا وعقولا ، ورأيا وصوابا ، وعلما -وهم الرسل والأنبياء والعلماء الربانيون- قد شهدوا لله بذلك .
الثامن : ما أقامه الله من الأدلة الأفقية والنفسية ، التي تدل على التوحيد أعظم دلالة ، وتنادي عليه بلسان حالها بما أودعها من لطائف صنعته ، وبديع حكمته ، وغرائب خلقه .
فهذه الطرق التي أكثر الله من دعوة الخلق بها إلى أنه لا إله إلا الله ، وأبداها في كتابه وأعادها عند تأمل العبد في بعضها ، لا بد أن يكون عنده يقين وعلم بذلك ، فكيف إذا اجتمعت وتواطأت واتفقت ، وقامت أدلة التوحيد من كل جانب ، فهناك يرسخ الإيمان والعلم بذلك في قلب العبد ، بحيث يكون كالجبال الرواسي ، لا تزلزله الشبه والخيالات ، ولا يزداد -على تكرر الباطل والشبه- إلا نموا وكمالا .
هذا ، وإن نظرت إلى الدليل العظيم ، والأمر الكبير -وهو تدبر هذا القرآن العظيم ، والتأمل في آياته- فإنه الباب الأعظم إلى العلم بالتوحيد ويحصل به من تفاصيله وجمله ما لا يحصل في غيره .
وقوله : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } أي : اطلب من الله المغفرة لذنبك ، بأن تفعل أسباب المغفرة من التوبة والدعاء بالمغفرة ، والحسنات الماحية ، وترك الذنوب والعفو عن الجرائم .
{ و } استغفر أيضا { للمؤمنين وَالْمُؤْمِنَات } فإنهم -بسبب إيمانهم- كان لهم حق على كل مسلم ومسلمة .
ومن جملة حقوقهم أن يدعو لهم ويستغفر لذنوبهم ، وإذا كان مأمورا بالاستغفار لهم المتضمن لإزالة الذنوب وعقوباتها عنهم ، فإن من لوازم ذلك النصح لهم ، وأن يحب لهم من الخير ما يحب لنفسه ، ويكره لهم من الشر ما يكره لنفسه ، ويأمرهم بما فيه الخير لهم ، وينهاهم عما فيه ضررهم ، ويعفو عن مساويهم ومعايبهم ، ويحرص على اجتماعهم اجتماعا تتألف به قلوبهم ، ويزول ما بينهم من الأحقاد المفضية للمعاداة والشقاق ، الذي به تكثر ذنوبهم ومعاصيهم .
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ } أي : تصرفاتكم وحركاتكم ، وذهابكم ومجيئكم ، { وَمَثْوَاكُمْ } الذي به تستقرون ، فهو يعلمكم في الحركات والسكنات ، فيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه .
{ فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك } أي إذا علمت سعادة المؤمنين وشقاوة الكافرين فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية وتكميل النفس بإصلاح أحوالها وأفعالها وهضمها بالاستغفار { لذنبك } . { وللمؤمنين والمؤمنات } ولذنوبهم بالدعاء لهم والتحريض على ما يستدعي غفرانهم ، وفي إعادة الجار وحذف المضاف إشعار بفرط احتياجهم وكثرة ذنوبهم وأنها جنس آخر ، فإن الذنب له ماله تبعة ما بترك الأولى . { والله يعلم متقلبكم } في الدنيا فإنها مراحل لا بد من قطعها . { ومثواكم } في العقبى فإنها دار إقامتكم فاتقوا الله واستغفروه وأعدوا لمعادكم .
فرع على جميع ما ذكر من حال المؤمنين وحال الكافرين ومن عواقب ذلك ووعده أو وعيده أن أمَر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالثبات على ما له من العلم بوحدانية الله وعلى ما هو دأبه من التواضع لله بالاستغفار لذنبه ومن الحرص على نجاة المؤمنين بالاستغفار لهم لأن في ذلك العلم وذلك الدأب استمطار الخيرات له ولأمته والتفريع هذا مزيد مناسبة لقوله آنفاً { ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم } [ محمد : 11 ] الآية .
فالأمر في قوله : { فاعلم } كناية عن طلب العلم وهو العمل بالمعلوم ، وذلك مستعمل في طلب الدوام عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم ذلك وعلمه المؤمنون ، وإذا حصل العلم بذلك مرة واحدة تقرر في النفس لأن العلم لا يحتمل النقيض فليس الأمر به بعد حصوله لطلب تحصيله بل لطلب الثبات فهو على نحو قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله ورسوله } [ النساء : 136 ] . وأما الأمر في قوله : { واستغفر لذنبك } فهو لطلب تجديد ذلك إن كان قد علمه النبي صلى الله عليه وسلم من قبل وعَمِله أو هو لطلب تحصيله إن لم يكن فعَلَه من قبل .
وذكر { المؤمنات } بعد { المؤمنين } اهتمام بهن في هذا المقام وإلا فإن الغالب اكتفاء القرآن بذكر المؤمنين وشموله للمؤمنات على طريقة التغليب للعلم بعموم تكاليف الشريعة للرجال والنساء إلا ما استثني من التكاليف .
ومن اللطائف القرآنية أن أمر هنا بالعلم قبل الأمر بالعمل في قوله : { واسغفر لذنبك } . قال ابن عيينة لما سئل عن فضل العلم : ألم تسمع قوله حين بدأ به { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك } . وترجم البخاري في كتاب العلم من « صحيحه » باب العلم قبل القول والعمل لقول الله تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله } فبدأ بالعلم .
وما يستغفر منه النبي صلى الله عليه وسلم ليس من السيئات لعصمته منها ، وإنما هو استغفار من الغفلات ونحوها ، وتسميته بالذنب في الآية إما مُحاكاة لما كان يُكثر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله : ( اللهم اغفر لي خطيئتي ) وإنما كان يقوله في مقام التواضع ، وإما إطلاق لاسم الذنب على ما يفوت من الازدياد في العبادة مثل أوقات النوم والأكل ، وإطلاقه على ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " إنه ليغان{[385]} على قلبي وإني أستغفر الله في اليوم مائة مرة " {[386]}
واللام في قوله : { لذنبك } لام التعيين بينت مفعولاً ثانياً لفعل { استَغْفِرْ } واللام في قوله { وللمؤمنين } لام العلة ، أو بمعنى ( عن ) والمفعول محذوف ، أي استغفر الذنوب لأجل المؤمنين ، وفي الكلام حذف ، تقديره : وللمؤمنين لذنوبهم .
وجملة { والله يعلم متقلبكم ومثواكم } تذييل جامع لأحوال ما تقدم . فالمَتَقلَّبُ : مصدر بمعنى التقلب ، أوثر جلبه هنا لمزاوجة قوله : { ومثواكم } . والتقلب : العمل المختلف ظاهراً كانَ كالصلاة ، أو باطناً كالإيمان والنصح .
والمثوى : المرجع والمئال ، أي يعلم الله أحوالكم جميعاً من مؤمنين وكافرين ، وقدر لها جزاءها على حسب علمه بمراتبها ويعلم مصائركم وإنما أمركم ونهاكم وأمركم بالاستغفار خاصة لإجراء أحكام الأسباب على مسبباتها فلا تيأسوا ولا تُهملوا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.