{ وَأَمَّا الْجِدَارُ ْ } الذي أقمته { فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ْ } أي : حالهما تقتضي الرأفة بهما ورحمتهما ، لكونهما صغيرين عدما أباهما ، وحفظهما الله أيضا بصلاح والدهما .
{ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا ْ } أي : فلهذا هدمت الجدار ، واستخرجت ما تحته من كنزهما ، وأعدته مجانا .
{ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ْ } أي : هذا الذي فعلته رحمة من الله ، آتاها الله عبده الخضر { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ْ } أي : أتيت{[495]} شيئا من قبل نفسي ، ومجرد إرادتي ، وإنما ذلك من رحمة الله وأمره .
{ ذَلِكَ ْ } الذي فسرته لك { تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ْ } وفي هذه القصة العجيبة الجليلة ، من الفوائد والأحكام والقواعد شيء كثير ، ننبه على بعضه بعون الله . فمنها فضيلة العلم ، والرحلة في طلبه ، وأنه أهم الأمور ، فإن موسى عليه السلام رحل مسافة طويلة ، ولقي النصب في طلبه ، وترك القعود عند بني إسرائيل ، لتعليمهم وإرشادهم ، واختار السفر لزيادة العلم على ذلك .
ومنها : البداءة بالأهم فالأهم ، فإن زيادة العلم وعلم الإنسان أهم من ترك ذلك ، والاشتغال بالتعليم من دون تزود من العلم ، والجمع بين الأمرين أكمل .
ومنها : جواز أخذ الخادم في الحضر والسفر لكفاية المؤن ، وطلب الراحة ، كما فعل موسى .
ومنها : أن المسافر لطلب علم أو جهاد أو نحوه ، إذا اقتضت المصلحة الإخبار بمطلبه ، وأين يريده ، فإنه أكمل من كتمه ، فإن في إظهاره فوائد من الاستعداد له عدته ، وإتيان الأمر على بصيرة ، وإظهارًا لشرف هذه العبادة الجليلة ، كما قال موسى : { لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ْ }
وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حين غزا تبوك بوجهه ، مع أن عادته التورية ، وذلك تبع للمصلحة .
ومنها : إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان ، على وجه التسويل والتزيين ، وإن كان الكل بقضاء الله وقدره ، لقول فتى موسى : { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ْ }
ومنها : جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى طبيعة النفس ، من نصب أو جوع ، أو عطش ، إذا لم يكن على وجه التسخط وكان صدقا ، لقول موسى : { لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ْ }
ومنها : استحباب كون خادم الإنسان ، ذكيا فطنا كيسا ، ليتم له أمره الذي يريده .
ومنها : استحباب إطعام الإنسان خادمه من مأكله ، وأكلهما جميعا ، لأن ظاهر قوله : { آتِنَا غَدَاءَنَا ْ } إضافة إلى الجميع ، أنه أكل هو وهو جميعا .
ومنها : أن المعونة تنزل على العبد على حسب قيامه بالمأمور به ، وأن الموافق لأمر الله ، يعان ما لا يعان غيره لقوله : { لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ْ } والإشارة إلى السفر المجاوز ، لمجمع البحرين ، وأما الأول ، فلم يشتك منه التعب ، مع طوله ، لأنه هو السفرعلى الحقيقة . وأما الأخير ، فالظاهر أنه بعض يوم ، لأنهم فقدوا الحوت حين أووا إلى الصخرة ، فالظاهر أنهم باتوا عندها ، ثم ساروا من الغد ، حتى إذا جاء وقت الغداء قال موسى لفتاه { آتِنَا غَدَاءَنَا ْ } فحينئذ تذكر أنه نسيه في الموضع الذي إليه منتهى قصده .
ومنها : أن ذلك العبد الذي لقياه ، ليس نبيا ، بل عبدا صالحا ، لأنه وصفه بالعبودية ، وذكر منة الله عليه بالرحمة والعلم ، ولم يذكر رسالته ولا نبوته ، ولو كان نبيا ، لذكر ذلك كما ذكره غيره .
وأما قوله في آخر القصة : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ْ } فإنه لا يدل على أنه نبي وإنما يدل على الإلهام والتحديث ، كما يكون لغير الأنبياء ، كما قال تعالى { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ْ } { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ْ }
ومنها : أن العلم الذي يعلمه الله [ لعباده ]{[496]} نوعان :
علم مكتسب يدركه العبد بجده واجتهاده . ونوع علم لدني ، يهبه الله لمن يمن عليه من عباده لقوله { وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ْ }
ومنها : التأدب مع المعلم ، وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب ، لقول موسى عليه السلام :
{ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ْ } فأخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة ، وأنك هل تأذن لي في ذلك أم لا ، وإقراره بأنه يتعلم منه ، بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكبر ، الذي لا يظهر للمعلم افتقارهم إلى علمه ، بل يدعي أنه يتعاون هم وإياه ، بل ربما ظن أنه يعلم معلمه ، وهو جاهل جدا ، فالذل للمعلم ، وإظهار الحاجة إلى تعليمه ، من أنفع شيء للمتعلم .
ومنها تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه ، فإن موسى -بلا شك- أفضل من الخضر .
ومنها : تعلم العالم الفاضل للعلم الذي لم يتمهر فيه ، ممن مهر فيه ، وإن كان دونه في العلم بدرجات كثيرة .
فإن موسى عليه السلام من أولي العزم من المرسلين ، الذين منحهم الله وأعطاهم من العلم ما لم يعط سواهم ، ولكن في هذا العلم الخاص كان عند الخضر ، ما ليس عنده ، فلهذا حرص على التعلم منه .
فعلى هذا ، لا ينبغي للفقيه المحدث ، إذا كان قاصرا في علم النحو ، أو الصرف ، أو نحوه من العلوم ، أن لا يتعلمه ممن مهر فيه ، وإن لم يكن محدثا ولا فقيها .
ومنها : إضافة العلم وغيره من الفضائل لله تعالى ، والإقرار بذلك ، وشكر الله عليها لقوله : { تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ ْ } أي : مما علمك الله تعالى .
ومنها : أن العلم النافع ، هو العلم المرشد إلى الخير ، فكل علم يكون فيه رشد وهداية لطرق{[497]} الخير ، وتحذير عن طريق الشر ، أو وسيلة لذلك ، فإنه من العلم النافع ، وما سوى ذلك ، فإما أن يكون ضارا ، أو ليس فيه فائدة لقوله : { أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ْ }
ومنها : أن من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم ، وحسن الثبات على ذلك ، أنه يفوته بحسب عدم صبره كثير من العلم{[498]} فمن لا صبر له لا يدرك العلم ، ومن استعمل الصبر ولازمه ، أدرك به كل أمر سعى فيه ، لقول الخضر -يعتذر من موسى بذكر المانع لموسى في الأخذ عنه- إنه لا يصبر معه .
ومنها : أن السبب الكبير لحصول الصبر ، إحاطة الإنسان علما وخبرة ، بذلك الأمر ، الذي أمر بالصبر عليه ، وإلا فالذي لا يدريه ، أو لا يدري غايته ولا نتيجته ، ولا فائدته وثمرته ليس عنده سبب الصبر لقوله : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ْ } فجعل الموجب لعدم صبره ، وعدم إحاطته خبرا بالأمر .
ومنها : الأمر بالتأني والتثبت ، وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء ، حتى يعرف ما يراد منه وما هو المقصود .
ومنها : تعليق الأمور المستقبلية التي من أفعال العباد بالمشيئة ، وأن لا يقول الإنسان للشيء : إني فاعل ذلك في المستقبل ، إلا أن يقول { إِنْ شَاءَ اللَّهُ ْ }
ومنها : أن العزم على فعل الشيء ، ليس بمنزلة فعله ، فإن موسى قال : { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ْ } فوطن نفسه على الصبر ولم يفعل .
ومنها : أن المعلم إذا رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء ، حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها ، فإن المصلحة تتبع ، كما إذا كان فهمه قاصرا ، أو نهاه عن الدقيق في سؤال الأشياء التي غيرها أهم منها ، أو لا يدركها ذهنه ، أو يسأل سؤالا ، لا يتعلق في موضع البحث .
ومنها : جواز ركوب البحر ، في غير الحالة التي يخاف منها .
ومنها : أن الناسي غير مؤاخذ بنسيانه لا في حق الله ، ولا في حقوق العباد لقوله : { لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ْ }
ومنها : أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم ، العفو منها ، وما سمحت به أنفسهم ، ولا ينبغي له أن يكلفهم ما لا يطيقون ، أو يشق عليهم ويرهقهم ، فإن هذا مدعاة إلى النفور منه والسآمة ، بل يأخذ المتيسر ليتيسر له الأمر .
ومنها : أن الأمور تجري أحكامها على ظاهرها ، وتعلق بها الأحكام الدنيوية ، في الأموال ، والدماء وغيرها ، فإن موسى عليه السلام ، أنكر على الخضر خرقه السفينة ، وقتل الغلام ، وأن هذه الأمور ظاهرها ، أنها من المنكر ، وموسى عليه السلام لا يسعه السكوت عنها ، في غير هذه الحال ، التي صحب عليها الخضر ، فاستعجل عليه السلام ، وبادر إلى الحكم في حالتها العامة ، ولم يلتفت إلى هذا العارض ، الذي يوجب عليه الصبر ، وعدم المبادرة إلى الإنكار .
ومنها : القاعدة الكبيرة الجليلة وهو أنه " يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير " ويراعي أكبر المصلحتين ، بتفويت أدناهما ، فإن قتل الغلام شر ، ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما ، أعظم شرا منه ، وبقاء الغلام من دون قتل وعصمته ، وإن كان يظن أنه خير ، فالخير ببقاء دين أبويه ، وإيمانهما خير من ذلك ، فلذلك قتله الخضر ، وتحت هذه القاعدة من الفروع والفوائد ، ما لا يدخل تحت الحصر ، فتزاحم المصالح والمفاسد كلها ، داخل في هذا .
ومنها : القاعدة الكبيرة أيضا وهي أن " عمل الإنسان في مال غيره ، إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة ، أنه يجوز ، ولو بلا إذن حتى ولو ترتب على عمله إتلاف بعض مال الغير " كما خرق الخضر السفينة لتعيب ، فتسلم من غصب الملك الظالم . فعلى هذا لو وقع حرق ، أو غرق ، أو نحوهما ، في دار إنسان أو ماله ، وكان إتلاف بعض المال ، أو هدم بعض الدار ، فيه سلامة للباقي ، جاز للإنسان بل شرع له ذلك ، حفظا لمال الغير ، وكذلك لو أراد ظالم أخذ مال الغير ، ودفع إليه إنسان بعض المال افتداء للباقي جاز ، ولو من غير إذن .
ومنها : أن العمل يجوز في البحر ، كما يجوز في البر لقوله : { يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ْ } ولم ينكر عليهم عملهم .
ومنها : أن المسكين قد يكون له مال لا يبلغ كفايته ، ولا يخرج بذلك عن اسم المسكنة ، لأن الله أخبر أن هؤلاء المساكين ، لهم سفينة .
ومنها : أن القتل من أكبر الذنوب لقوله في قتل الغلام { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ْ }
ومنها : أن القتل قصاصا غير منكر لقوله { بِغَيْرِ نَفْسٍ ْ }
ومنها : أن العبد الصالح يحفظه الله في نفسه ، وفي ذريته .
ومنها : أن خدمة الصالحين ، أو من يتعلق بهم ، أفضل من غيرها ، لأنه علل استخراج كنزهما ، وإقامة جدارهما ، أن أباهما صالح .
ومنها : استعمال الأدب مع الله تعالى في الألفاظ ، فإن الخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه بقوله { فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ْ } وأما الخير ، فأضافه إلى الله تعالى لقوله : { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ْ } كما قال إبراهيم عليه السلام { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ْ } وقالت الجن : { وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ْ } مع أن الكل بقضاء الله وقدره .
ومنها : أنه ينبغي للصاحب أن لا يفارق صاحبه في حالة من الأحوال ، ويترك صحبته ، حتى يعتبه ، ويعذر منه ، كما فعل الخضر مع موسى .
ومنها : أن موافقة الصاحب لصاحبه ، في غير الأمور المحذورة ، مدعاة وسبب لبقاء الصحبة وتأكدها ، كما أن عدم الموافقة سبب لقطع المرافقة .
ومنها : أن هذه القضايا التي أجراها الخضر هي قدر محض أجراها الله وجعلها على يد هذا العبد الصالح ، ليستدل العباد بذلك على ألطافه في أقضيته ، وأنه يقدر على العبد أمورا يكرهها جدا ، وهي صلاح دينه ، كما في قضية الغلام ، أو وهي صلاح دنياه كما في قضية السفينة ، فأراهم نموذجا من لطفه وكرمه ، ليعرفوا ويرضوا غاية الرضا بأقداره المكروهة .
{ وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة } قيل اسمهما أصرم وصريم ، واسم المقتول جيسور . { وكان تحته كنز لهما } من ذهب وفضة ، روي ذلك مرفوعا والذم على كنزهما في قوله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة } لمن لا يؤدي زكاتهما وما تعلق بهما من الحقوق . وقيل من كتب العلم . وقيل كان لوح من ذهب مكتوب فيه : عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب ، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلا الله محمد رسول الله . { وكان أبوهما صالحا } تنبيه على أن سعيه ذلك كان لصلاحه . قيل كان بينهما وبين الأب الذي حفظا فيه سبعة آباء وكان سياحا واسمه كاشح . { فأراد ربك أن يبلُغا أشدّهما } أي الحلم وكمال الرأي . { ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك } مرحومين من ربك ، ويجوز أن يكون علة أو مصدرا لأراد فإن إرادة الخير رحمة . وقيل متعلق بمحذوف تقديره فعلت ما فعلت رحمة من ربك ، ولعل إسناد الإرادة أولا إلى نفسه لأنه المباشر للتعييب وثانيا إلى الله وإلى نفسه لأن التبديل بإهلاك الغلام وإيجاد الله بدله ، وثالثا إلى الله وحده لأنه لا مدخل له في بلوغ الغلامين . أو لأن الأول في نفسه شر ، والثالث خير ، والثاني ممتزج . أو لاختلاف حال العارف في الإلتفات إلى الوسائط . { وما فعلتُه } وما فعلت ما رأيته . { عن أمري } عن رأي وإنما فعلته بأمر الله عز وجل ، ومبنى ذلك على أنه إذا تعارض ضرران يجب تحمل أهونهما لدفع أعظمهما ، وهو أصل ممهد غير أن الشرائع في تفاصيله مختلفة . { ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا } أي ما لم تستطع فحذف التاء تخفيفا .
ومن فوائد هذه القصة أن لا يعجب المرء بعلمه ولا يبادر إلى إنكار ما لم يستحسنه ، فلعل فيه سرا لا يعرفه ، وأن يداوم على التعلم ويتذلل للمعلم ، ويراعي الأدب في المقابل وأن ينبه المجرم على جرمه ويعفو عنه حتى يتحقق إصراره ثم يهاجر عنه .
وقوله { وأما الجدار فكان لغلامين } هذان الغلامان صغيران ، بقرينة وصفهما باليتم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم «لا يتم بعد بلوغ »{[7877]} هذا الظاهر ، وقد يحتمل أن يبقى عليهما اسم اليتم بعد البلوغ أي كانا يتيمين على معنى التشفق عليهما ، واختلف الناس في «الكنز » : فقال عكرمة وقتادة كان مالاً جسيماً ، وقال ابن عباس كان علماً في مصحف مدفونة ، وقال عمر مولى غفرة{[7878]} كان لوحاً من ذهب قد كتب فيه عجباً للموقن بالرزق كيف يتعب ، وعجباً للموقن بالحساب كيف يغفل ، وعجباً للموقن بالموت كيف يفرح ، وروي نحو هذا مما هو في معناه ، قوله { وكان أبوهما صالحاً } ظاهر اللفظ والسابق منه أن والدهما دنيّة{[7879]} ، وقيل هو الأب السابع ، وقيل العاشر ، فحفظا فيه وإن لم يذكرا بصلاح ، وفي الحديث «إن الله تعالى يحفظ الرجل الصالح في ذريته »{[7880]} ، وجاء في أنباء الخضر عليه السلام في أول قصة { فأردت أن أعيبها } [ الكهف : 79 ] وفي الثانية { فأردنا أن يبدلهما } وفي الثالثة { فأراد ربك أن يبلغا } وإنما انفرد أولاً في الإرادة لأنها لفظة عيب ، فتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه ، كما تأدب إبراهيم عليه السلام في قوله { وإذا مرضت فهو يشفيني }{[7881]} [ الشعراء : 80 ] ، فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله تعالى ، وأسند المرض إلى نفسه ، إذ هو معنى نقص ومصيبة ، وهذا المنزع يطرد في فصاحة القرآن كثيراً ، ألا ترى إلى تقديم فعل البشر في قوله تعالى : { فلما زاغوا أزاغ الله }{[7882]} [ الصف : 5 ] ، وتقديم فعل الله تعالى في قوله { ثم تاب عليهم ليتوبوا }{[7883]} [ التوبة : 118 ] ، وإنما قال الخضر في الثانية { فأردنا } لأنه أمل قد كان رواه{[7884]} هو وأصحابه الصالحون ، وتكلم فيه في معنى الخشية على الوالدين ، وتمنى البديل لهما ، وإنما أسند الإرادة في الثالثة إلى الله تعالى . لأنها في أمر مستأنف في الزمن طويل غيب من الغيوب ، فحسن إفادة هذا الموضع بذكر الله تعالى ، وإن كان الخضر قد أراد أيضاً ذلك الذي أعلمه الله أنه يريده ، فهذا توجيه فصاحة هذه العبارة بحسب فهمنا المقصر ، والله أعلم ، و «الأشد » كما الخلق والعقل واختلف الناس في قدر ذلك من السن ، فقيل خمس وثلاثون ، وقيل ست وثلاثون ، وقيل أربعون ، وقيل غير هذا مما فيه ضعف ، وقول الخضر { وما فعلته عن أمري } يقتضي أن الخضر نبي ، وقد اختلف الناس فيه : فقيل هو نبي ، وقيل هو عبد صالح وليس بنبي ، وكذلك جمهور الناس على أن الخضر مات صلى الله عليه وسلم ، وتقول فرقة إنه حي ، لأنه شرب من عين الحياة ، وهو باق في الأرض ، وأنه يحج البيت ، وغير هذا ، وقد أطنب النقاش في هذا المعنى ، وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره ، كلها لا يقوم على ساق ، ولو كان الخضر عليه السلام حياً يحج لكان له في ملة الإسلام ظهور والله العليم بتفاصيل الأشياء لا رب غيره ، ومما يقضي بموت الخضر الآن قول النبي صلى الله عليه وسلم «أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد »{[7885]} ، وقوله ذلك تأويل أي مآل ، وقرأت فرقة «تستطع » ، وقرأ الجمهور «تسطع » قال أبو حاتم كذا نقرأ «نتبع » المصحف ، وانتزع الطبري من اتصال هذه القصة بقوله تعالى : { وربك الغفور ذو الرحمة لو يأخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً } [ الكهف : 58 ] إن هذه القصة إنما جلبت على معنى المثل للنبي صلى الله عليه وسلم في قومه ؛ أي لا تهتم بإملاء الله لهم وإجراء النعم لهم على ظاهرها ، فإن البواطن سائرة إلى الانتقام منهم ، ونحو هذا مما هو محتمل لكن بتعسف ما فتأمله .
أما قضية الجدار فالخضر تصرف في شأنها عن إرادة الله اللطف باليتيمين جزاء لأبيهما على صلاحه ، إذ علم الله أن أباهما كان يَهمّه أمر عيشهما بعده ، وكان قد أودع تحت الجدار مالاً ، ولعله سأل الله أن يلهم ولديه عند بلوغ أشدهما أن يبحثا عن مدفن الكنز تحت الجدار بقصد أو بمصادفة ، فلو سقط الجدار قبل بلوغهما لتناولت الأيدي مكانه بالحفر ونحوه فعثر عليه عاثر ، فذلك أيضاً لطف خارق للعادة . وقد أسند الإرادة في قصة الجدار إلى الله تعالى دون القصتين السابقتين لأن العمل فيهما كان من شأنه أن يسعى إليه كل من يقف على سرّه لأن فيهما دفع فساد عن الناس بخلاف قصة الجدار فتلك كرامة من الله لأبي الغلامين .
وقوله : { رحمةً من ربّك وما فعلتُهُ عن أمري } تصريح بما يزيل إنكار موسى عليه تصرفاته هذه بأنها رحمة ومصلحة فلا إنكار فيها بعد معرفة تأويلها .
ثم زاد بأنه فعلها عن وحي من الله لأنه لما قال { وما فعلته عن أمري } علم موسى أنّ ذلك بأمر من الله تعالى لأنّ النبي إنما يتصرف عن اجتهاد أو عن وَحي ، فلما نفى أن يكون فعله ذلك عن أمر نفسه تعيّن أنه عن أمر الله تعالى . وإنما أوثر نفي كون فعله عن أمر نفسه على أن يقول : وفعلته عن أمر ربّي ، تكملة لكشف حيرة موسى وإنكاره ، لأنه لما أنكر عليه فعلاته الثلاث كان يؤيد إنكاره بما يقتضي أنه تصرفٌ عن خطأ .
وانتصب { رحْمَةً } على المفعول لأجله فينازعه كل من ( أردتُ ) ، و ( أردنَا ) ، و ( أراد ربّك ) .
وجملة { ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً } فَذْلَكَةٌ للجمل التي قبلها ابتداء من قوله { أمَّا السَّفِينةُ فَكَانَتْ لمساكين } ، فالإشارة بذلك إلى المذكور في الكلام السابق وهو تلخيص للمقصود كحوصلة المدرس في آخر درسه .
و { تَسْطِعْ } مضارع ( اسطاع ) بمعنى ( استطاع ) . حذف تاء الاستفعال تخفيفاً لقربها من مخرج الطاء ، والمخالفةُ بينه وبين قوله { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً } للتفنن تجنباً لإعادة لفظ بعينه مع وجود مرادفه . وابتدىء بأشهرهما استعمالاً وجيء بالثانية بالفعل المخفف لأنّ التخفيف أولى به لأنه إذا كرر { تَسْتَطِع } يحصل من تكريره ثقل .
وأكد الموصول الأول الواقع في قوله { سأُنَبِئُكَ بتأويل ما لم تستَطِعْ عليهِ صَبْراً } تأكيداً للتعريض باللوم على عدم الصبر .
واعلم أن قصة موسى والخضر قد اتخذتها طوائف من أهل النحل الإسلامية أصلاً بنوا عليه قواعد موهومة .
فأول ما أسسوه منها أنّ الخضر لم يكن نبيئاً وإنما كان عبداً صالحاً ، وأن العِلم الذي أوتيه ليس وحياً ولكنه إلهام ، وأن تصرفه الذي تصرفه في الموجودات أصل لإثبات العلوم الباطنية ، وأن الخضر منحهُ الله البقاء إلى انتهاء مدة الدنيا ليكون مرجعاً لتلقي العلوم الباطنية ، وأنه يظهر لأهل المراتب العليا من الأولياء فيفيدهم من علمه ما هم أهل لتلقّيه .
وبَنوا على ذلك أن الإلهام ضرب من ضروب الوحي ، وسموه الوحي الإلهامي ، وأنه يجيء على لسان ملك الإلهام ، وقد فصله الشيخ محيي الدين ابن العربي في الباب الخامس والثمانين من كتابه « الفتوحات المكية » ، وبيّن الفرق بينه وبين وحي الأنبياء بفروق وعلامات ذكرها منثورةً في الأبواب الثالث والسبعين ، والثامن والستين بعد المائتين ، والرابع والستين بعد ثلاثمائة ، وجزم بأن هذا الوحي الإلهامي لا يكون مخالفاً للشريعة ، وأطال في ذلك ، ولا يخلو ما قاله من غموض ورموز ، وقد انتصب علماء الكلام وأصول الفقه لإبطال أن يكون ما يسمى بالإلهام حجّة . v وعرفوه بأنه إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر ، وأبطلوا كونه حجّة لعدم الثقة بخواطر من ليس معصوماً ولتفاوت مراتب الكشف عندهم . وقد تعرض لها النسفي في « عقائده » ، وكل ما قاله النسفي في ذلك حق ، ولا يقام التشريع على أصول موهومة لا تنضبط .
والأظهر أن الخضر نبيء عليه السلام وأنه كان موحىً إليه بما أوحي ، لقوله { وما فعلته عن أمري } ، وأنه قد انقضى خبره بعد تلك الأحوال التي قصّت في هذه السورة ، وأنه قد لحقه الموت الذي يلحق البشر في أقصى غاية من الأجل يمكن أن تفرض ، وأن يحمل ما يعْزى إليه من بعض الصوفية الموسومين بالصدق أنه محوك على نسج الرمز المعتاد لديهم ، أو على غشاوة الخيال التي قد تخيم عليهم .