تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمۡۖ وَلَا يَرۡضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلۡكُفۡرَۖ وَإِن تَشۡكُرُواْ يَرۡضَهُ لَكُمۡۗ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرۡجِعُكُمۡ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (7)

بعد هذا البيان ببيان استحقاقه تعالى للإخلاص وحده إلى عبادة الأوثان ، التي لا تدبر شيئا ، وليس لها من الأمر شيء .

{ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ } لا يضره كفركم ، كما لا ينتفع بطاعتكم ، ولكن أمره ونهيه لكم محض فضله وإحسانه عليكم .

{ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } لكمال إحسانه بهم ، وعلمه أن الكفر يشقيهم شقاوة لا يسعدون بعدها ، ولأنه خلقهم لعبادته ، فهي الغاية التي خلق لها الخلق ، فلا يرضى أن يدعوا ما خلقهم لأجله .

{ وَإِنْ تَشْكُرُوا } للّه تعالى بتوحيده ، وإخلاص الدين له { يَرْضَهُ لَكُمْ } لرحمته بكم ، ومحبته للإحسان عليكم ، ولفعلكم ما خلقكم لأجله .

وكما أنه لا يتضرر بشرككم ولا ينتفع بأعمالكم وتوحيدكم ، كذلك كل أحد منكم له عمله ، من خير وشر { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ } في يوم القيامة { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } إخبارا أحاط به علمه ، وجرى عليه قلمه ، وكتبته عليكم الحفظة الكرام ، وشهدت به عليكم الجوارح ، فيجازي كلا منكم ما يستحقه .

{ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : بنفس الصدور ، وما فيها من وصف برٍّ أو فجور ، والمقصود من هذا ، الإخبار بالجزاء بالعدل التام .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{إِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمۡۖ وَلَا يَرۡضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلۡكُفۡرَۖ وَإِن تَشۡكُرُواْ يَرۡضَهُ لَكُمۡۗ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرۡجِعُكُمۡ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (7)

ولما ظهرت الأدلة وبهرت الحجج ، بين ما على من غطاها بالإصرار ، وما لمن تاب ورجع التذكار ، فقال مستأنفاً لما هو نتيجة ما مضى ، معرفاً لهم نعمته عليهم بأنه ما تعبد لشيء يخصه من نفع أو ضر ، وإنما هو لمصالحهم خاصة بادئاً بما هو من درء المفاسد : { إن تكفروا } أي تستروا الأدلة فتصروا على الانصراف عنه بالإشراك { فإن الله } لأنه جامع لصفات الكمال { غني عنكم } أي فلا يضره كفركم ولا تنفعه طاعتكم ، وأما أنتم فلا غنى لكم عنه بوجه ، ولا بد أن يحكم بينكم فلم تضروا إلا أنفسكم { ولا يرضى } لكم - هكذا كان الأصل بدليل ما سبقه ولحقه ، وإنما أظهر ليعم وليذكرهم بما يجدونه في أنفسهم من أن أحداً منهم لا يرضى لعبده أن يؤدي خرجه إلى غيره بغير إذنه فقال : { لعباده } أي الذين تفرد بإيجادهم وتربيتهم { الكفر } بالإقبال على سواه وأنتم لا ترضون ذلك لعبيدكم مع أن ملككم لهم في غاية الضعف ، ومعنى عدم الرضى أنه لا يفعل فعل الراضي بأن يأذن فيه ويقر عليه أو يثيب فاعله ويمدحه ، بل يفعل فعل الساخط بأن ينهى عنه ويذم عليه ويعاقب مرتكبه { وإن تشكروا } أي بالعبادة والإخلاص فيها { يرضه } أي الشكر الدال عليه فعله { لكم } أي الرضى اللائق بجنابه سبحانه بأن يقركم عليه أو يأمركم به ويثيبكم على فعله ، والقسمان بإرادته ، واختلاف القراء في هائه دال على مراتب الشكر - والله أعلم ، فالوصل للواصلين إلى النهاية على اختلاف مراتبهم في الوصول والاختلاس للمتوسطين والإسكان لمن في الدرجة الأولى منه .

ولما كان في سياق الحكم والقهر ، وكانت عادة القهارين أن يكلفوا بعض الناس ببعض ويأخذوهم بجرائرهم لينتظم لهم العلو على الكل لعدم إحاطة علمهم بكل مخالف لأمرهم ، بين أنه سبحانه على غير ذلك فقال : { ولا تزر وازرة } أي وازرة كانت { وزر أخرى } بل وزر كل نفس عليها لا يتعداها يحفظ عليها مدة كونها في دار العمل ، والإثم الذي يكتب على الإنسان بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس وزر غيره ، وإنما هو وزر نفسه ، فوزر الفاعل على الفعل ، ووزر الساكت على الترك لما لزمه من الأمر والنهي { ثم إلى ربكم } أي وحده لا إلى أحد ممن أشركتموه به { مرجعكم } أي بالبعث بعد الموت إلى دار الجزاء . ولما كان الجزاء تابعاً للعلم ، قال معبراً عنه به : { فينبئكم } أي فيتسبب عن البعث أنه يخبركم إخباراً عظيماً { بما كنتم تعملون } أي بما كان في طبعكم العمل به سواء عملتموه بالفعل أم لا ثم يجازيكم عليه إن شاء .

ولما كان المراد - كما أشار إليه بكان - الإخبار بجميع الأعمال الكائنة بالفعل أو القوة ، حسن التعليل بقوله : { إنه عليم } أي بالغ العلم { بذات الصدور * } أي بصاحبتها من الخواطر والعزوم ، وذلك بما دلت عليه الصحبة - كل ما لم يبرز إلى الخارج ، فهو بما برز أعلم .