فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ أي : الماء الكثير الذي أغرق أشجارهم وزروعهم ، وأضر بهم ضررا كثيرا وَالْجَرَادَ فأكل ثمارهم وزروعهم ، ونباتهم وَالْقُمَّلَ قيل : إنه الدباء ، أي : صغار الجراد ، والظاهر أنه القمل المعروف وَالضَّفَادِعَ فملأت أوعيتهم ، وأقلقتهم ، وآذتهم أذية شديدة وَالدَّمَ إما أن يكون الرعاف ، أو كما قال كثير من المفسرين ، أن ماءهم الذي يشربون انقلب دما ، فكانوا لا يشربون إلا دما ، ولا يطبخون إلا بدم .
آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ أي : أدلة وبينات على أنهم كانوا كاذبين ظالمين ، وعلى أن ما جاء به موسى ، حق وصدق فَاسْتَكْبَرُوا لما رأوا الآيات وَكَانُوا في سابق أمرهم قَوْمًا مُجْرِمِينَ فلذلك عاقبهم اللّه تعالى ، بأن أبقاهم على الغي والضلال .
قال الله تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ }
اختلفوا في معناه ، فعن ابن عباس في رواية : كثرة الأمطار المغرقة المتلفة للزروع والثمار . وبه قال الضحاك بن مُزَاحِم .
وقال ابن عباس في رواية أخرى : هو كثرة الموت . وكذا قال عطاء .
وقال مجاهد : { الطُّوفَانَ } الماء ، والطاعون على كل حال .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو هشام الرفاعي ، حدثنا يحيى بن يَمان ، حدثنا المِنْهَال بن{[12031]} خليفة ، عن الحجاج ، عن الحكم بن مِيناء ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الطوفان الموت " .
وكذا رواه ابن مردويه ، من حديث يحيى بن يمان ، به وهو حديث غريب .
وقال ابن عباس في رواية أخرى : هو أمر من الله طاف بهم ، ثم قرأ : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ . [ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ]{[12032]} } [ القلم : 19 ، 20 ] وأما الجراد فمعروف مشهور ، وهو مأكول ؛ لما ثبت في الصحيحين عن أبي يعفُور{[12033]} قال : سألت عبد الله بن أبي أَوْفَى عن الجراد ، فقال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد{[12034]}
وروى الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أحلت لنا ميتتان ودمان : الحوت والجراد ، والكبد والطحال " {[12035]}
ورواه أبو القاسم البغوي ، عن داود بن رُشَيْد ، عن سُوَيْد بن عبد العزيز ، عن أبي تمام الأيليّ ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر مرفوعا مثله{[12036]}
وروى أبو داود ، عن محمد بن الفرج ، عن محمد بن الزِّبْرِقان الأهوازي ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن سلمان قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجراد فقال : " أكثر جنود الله ، لا آكله ، ولا أحرمه " {[12037]}
وإنما تركه ، عليه السلام{[12038]} لأنه كان يعافه ، كما عافت نفسه الشريفة أكل الضب ، وأذن فيه .
وقد روى الحافظ ابن عساكر في جزء جمعه في الجراد ، من حديث أبي سعيد الحسن بن علي العدوي ، حدثنا نصر بن يحيى بن سعيد ، حدثنا يحيى بن خالد ، عن ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل الجراد ، ولا الكلوتين ، ولا الضب ، من غير أن يحرمها . أما الجراد : فرجز وعذاب . وأما الكلوتان : فلقربهما من البول . وأما الضب فقال : " أتخوف أن يكون مسخا " ، ثم قال{[12039]} غريب ، لم أكتبه إلا من هذا الوجه{[12040]}
وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، يشتهيه ويحبه ، فروى عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : أن عمر سُئل عن الجراد فقال : ليت أن عندنا منه قَفْعَة أو قفعتين نأكله{[12041]}
وروى ابن ماجة : حدثنا أحمد بن مَنِيع ، عن سفيان بن عيينة ، عن أبي سعد سعيد بن المرزبان البقال ، سمع أنس بن مالك يقول : كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يَتَهادَيْن الجراد على الأطباق{[12042]}
وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا داود بن رُشَيْد ، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد ، عن نُمَيْر بن يزيد القَيْني{[12043]} حدثني أبي ، عن صُدَيّ بن عَجْلان ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن مريم بنت عمران ، عليها السلام ، سألت ربها [ عز وجل ]{[12044]} أن يطعمها لحما لا دم له ، فأطعمها الجراد ، فقالت : اللهم أعشه بغير رضاع ، وتابع بَيْنَه بغير شياع " {[12045]} وقال نُمَير : " الشَيَاع " : الصوت .
وقال أبو بكر بن أبي داود : حدثنا أبو تقي هشام بن عبد الملك اليَزَني{[12046]} حدثنا بقية بن الوليد ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن ضَمْضَم بن زُرْعَة ، عن شُرَيْح بن عبيد ، عن أبي زُهَيْر النميري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقاتلوا الجراد ، فإنه جند الله الأعظم " . غريب جدًا{[12047]}
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، في قوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ } قال : كانت تأكل مسامير أبوابهم ، وتَدَع الخشب .
وروى ابن عساكر من حديث علي بن زيد الخرائطي ، عن محمد بن كثير ، سمعت الأوزاعي يقول : خرجت إلى الصحراء ، فإذا أنا برِجْل من جراد في السماء ، وإذا برَجل راكب على جَرَادة منها ، وهو شاك في الحديد ، وكلما قال بيده هكذا ، مال الجراد مع يده ، وهو يقول : الدنيا باطل باطل ما فيها ، الدنيا باطل باطل ما فيها ، الدنيا باطل باطل ما فيها .
وروى الحافظ أبو الفرج{[12048]} المعافي بن زكريا الحريري ، حدثنا محمد بن الحسن بن زياد ، حدثنا أحمد بن عبد الرحيم ، أخبرنا وَكِيع ، عن الأعمش ، أنبأنا عامر قال : سئل شُرَيْح القاضي عن الجراد ، فقال : قبح الله الجرادة . فيها خلقة سبعة جبابرة : رأسها رأس فرس ، وعنقها عنق ثور ، وصدرها صدر أسد ، وجناحها جناح نسر ، ورجلاها رجلا جمل . وذنبها ذنب حية ، وبطنها بطن عقرب .
و[ قد ]{[12049]} قدمنا عند قوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } [ المائدة : 96 ] حديث حماد بن سلمة ، عن أبي المُهزَم ، عن أبي هريرة ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حج أو عمرة ، فاستقبلنا{[12050]} رجْلُ جراد ، فجعلنا نضربه بالعِصِيِّ ، ونحن محرمون ، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ عن ذلك ]{[12051]} فقال : " لا بأس بصيد البحر " {[12052]}
وروى ابن ماجه ، عن هارون الحمال{[12053]} عن هاشم بن القاسم ، عن زياد بن عبد الله بن عُلاثة ، عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أنس وجابر [ رضي الله عنهما ]{[12054]} عن رسول الله{[12055]} صلى الله عليه وسلم ؛ أنه كان إذا دعا على الجراد قال : " اللهم أهلك كباره ، واقتل صغاره ، وأفسد بيضه ، واقطع دابره ، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا ، إنك سميع الدعاء " . فقال له جابر : يا رسول الله ، أتدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره ؟ فقال : " إنما هو نثرة حوت{[12056]} في البحر " قال هاشم{[12057]} أخبرني زياد أنه أخبره من رآه ينثره الحوت{[12058]} قال : من حقق ذلك إن السمك إذا باض في ساحل البحر فنضب الماء عنه وبدا للشمس ، أنه يفقس كله جرادًا طيارًا .
وقدمنا عند قوله : { إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } [ الأنعام : 38 ] حديث عُمَر ، رضي الله عنه : " إن الله خلق ألف أمة ، ستمائة في البحر وأربعمائة في البر ، وإن أولها هلاكًا الجراد " {[12059]}
وقال أبو بكر بن أبي داود : حدثنا يزيد بن المبارك ، حدثنا عبد الرحمن بن قَيْس ، حدثنا سالم بن سالم ، حدثنا أبو المغيرة الجوزجاني محمد بن مالك ، عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا وَباء مع السيف ، ولا نجاء مع الجراد " . حديث غريب{[12060]}
وأما { الْقُمَّلَ } فعن ابن عباس : هو{[12061]} السوس الذي يخرج من الحنطة . وعنه أنه الدبى{[12062]} - وهو الجراد الصغار الذي لا أجنحة له . وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة .
وعن الحسن وسعيد بن جبير : { الْقُمَّلَ } دواب سود صغار .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { الْقُمَّلَ } البراغيث .
وقال ابن جرير { الْقُمَّل } جمع واحدتها " قُمَّلة " ، وهي دابة تشبه القَمْل ، تأكلها الإبل ، فيما بلغني ، وهي التي عناها الأعشى بقوله :
قوم تعالج{[12063]} قُمَّلا أبناؤهم وسلاسلا أجُدا وبابًا مؤصدا{[12064]}
قال : وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يزعم أن القمل عند العرب " الحمنان " ، واحدتها " حمنانة " ، وهي صغار القردان فوق القمقامة .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن حميد الرازي ، حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير قال : لما أتى موسى ، عليه السلام ، فرعون قال له : أرسل معي بني إسرائيل ، فأرسل الله عليهم الطوفان - وهو المطر - فصب عليهم منه شيئا ، خافوا أن يكون عذابا ، فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا المطر ، فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل . فدعا ربه ، فلم يؤمنوا ، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل . فأنبت لهم في تلك السنة شيئا لم ينبته قبل ذلك من الزرع والثمر{[12065]} والكلأ فقالوا : هذا ما كنا نتمنى . فأرسل الله عليهم الجراد ، فسلطه على الكلأ فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقي الزرع ، فقالوا : يا موسى ، ادع لنا ربك ليكشف{[12066]} عنا الجراد فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل . فدعا ربه ، فكشف عنهم الجراد ، فلم يؤمنوا ، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل ، فداسوا وأحرزوا في البيوت ، فقالوا : قد أحرزنا . فأرسل الله عليهم القمل - وهو السوس الذي يخرج منه - فكان الرجل يخرج عشرة{[12067]} أجربة إلى الرحى ، فلم يرد منها إلا ثلاثة أقفزة{[12068]} فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا القمل ، فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل . فدعا ربه ، فكشف عنهم ، فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل . فبينما هو جالس عند فرعون ، إذ سمع نقيق ضفدع ، فقال لفرعون : ما تلقى أنت وقومك من هذا . قال{[12069]} وما عسى أن يكون كيد هذا ؟ فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذَقْنه في الضفادع ، ويهم أن يتكلم فتثب{[12070]} الضفدع في فيه . فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع ، فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه ، فكشف{[12071]} عنهم فلم يؤمنوا . وأرسل{[12072]} الله عليهم الدم ، فكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار ، وما كان في أوعيتهم ، وجدوه دمًا عبيطًا ، فشكوا إلى فرعون ، فقالوا : إنا قد ابتلينا بالدم ، وليس لنا شراب . فقال : إنه قد سحركم ! ! فقالوا : من أين سحرنا ، ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئا من الماء إلا وجدناه دمًا عَبِيطًا ؟ فأتوه وقالوا : يا موسى ، ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن بك{[12073]} ونرسل معك بني إسرائيل . فدعا ربه ، فكشف عنهم ، فلم يؤمنوا ، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل{[12074]}
وقد روي نحو هذا عن ابن عباس ، والسدي ، وقتادة وغير واحد من علماء السلف{[12075]}
وقال محمد بن إسحاق بن يسار ، رحمه الله : فرجع عدو الله فرعون حين آمنت السحرة مغلوبا مغلولا ثم أبى إلا الإقامة على الكفر ، والتمادي في الشر ، فتابع الله عليه الآيات ، وأخذه بالسنين ، فأرسل عليه الطوفان ، ثم الجراد ، ثم القمل ، ثم الضفادع ، ثم الدم ، آيات مفصلات . فأرسل الطوفان - وهو الماء - ففاض على وجه الأرض ثم ركد ، لا يقدرون على أن يحرثوا ولا يعملوا شيئا ، حتى جهدوا جوعًا ، فلما بلغهم ذلك { قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } فدعا موسى ربه ، فكشف{[12076]} عنهم ، فلم يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم الجراد ، فأكل الشجر ، فيما بلغني ، حتى إن كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد ، حتى تقع دورهم ومساكنهم ، فقالوا مثل ما قالوا ، فدعا ربه فكشف عنهم ، فلم يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم القمل ، فذكر لي أن موسى ، عليه السلام ، أمر أن يمشي إلى كثيب حتى يضربه بعصاه ، فمشى إلى كثيب أهيل عظيم ، فضربه بها ، فانثال عليهم قملا حتى غلب على البيوت والأطعمة ومنعهم النوم والقرارة ، فلما جهدهم قالوا له مثل ما قالوا له ، فدعا ربه ، فكشف عنهم ، فلم يفوا له بشيء مما قالوا . فأرسل الله عليهم الضفادع ، فملأت البيوت والأطعمة والآنية ، فلا يكشف أحد ثوبًا ولا طعامًا إلا وجد فيه الضفادع ، قد غلبت عليه . فلما جهدهم ذلك ، قالوا له مثل ما قالوا ، فسأل ربه{[12077]} فكشف عنهم ، فلم يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم الدم ، فصارت مياه آل فرعون دمًا ، لا يستقون من بئر ولا نهر ، ولا يغترفون من إناء ، إلا عاد دما عبيطا{[12078]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور المروزي ، أنبأنا النضر ، أنبأنا إسرائيل ، أنبأنا جابر ابن يزيد{[12079]} عن عكرمة ، قال عبد الله بن عَمْرو : لا تقتلوا الضفادع ، فإنها لما أرسلت على قوم فرعون{[12080]} انطلق ضفدع منها فوقع في تنور فيه نار ، يطلب بذلك مرضات الله ، فأبدلهن الله من هذا أبرد شيء يعلمه من الماء ، وجعل نقيقهن التسبيح . وروي من طريق عكرمة ، عن ابن عباس ، نحوه{[12081]}
وقال زيد بن أسلم : يعني بالدم : الرعاف . رواه ابن أبي حاتم .
الفاء في قوله : { فأرسلنا } لتفريع إصابتهم بهذه المصائب على عتوهم وعنادهم .
والإرسال : حقيقته توجيه رسول أو رسالة فيعدى إلى المفعول الثاني ( بإلى ) ويضمّن معنى الإرسال من فوق ، فيعدى إلى المفعول الثاني ( بعَلى ) ، قال تعالى : { وأرسل عليهم طيراً أبابيل } [ الفيل : 3 ] ، { وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم } [ الذاريات : 41 ] فحرف ( على ) دل على أن جملة أرسلنا مفرعة تفريع العقاب لا تفريغ زيادة الآيات .
والطوفان : السَيْح الغالب من الماء الذي يغمر جهات كثيرة ويطغى على المنازل والمزارع ، قيل هو مشتق من الطواف لأن الماء يطوف بالمنازل ، أي : تتكرر جريته حولها ، ولم يدخل الطوفان الأرض التي كان بها بنو إسرائيل وهي أرض ( جاسان ) .
والجراد : الحشرة الطائرة من فصيلة الصرصر والخنافس له أجنحة ستة ذات ألوان صفر وحمر تنتشر عند طيرانه ، يكون جنوداً كثيرة يسمى الجند منها رِجْلا . وهو مهلك للزرع والشجر ، يأكل الورق والسنبل ووَرَق الشجر وقشره ، فهو من أسباب القحط . أصاب أرض قوم فرعون ولم يصب أرض بني إسرائيل .
والقُمّلُ : بضم القاف وتشديد الميم المفتوحة في القراءات المشهورة اسم نوع من القراد عظيم يسمى الحُمْنان بضم الحاء المهملة وميم ساكنة ونونين واحدته حمنانة وهو يمتص دم الإنسان ( وهو غير القَمْل بفتح القاف وسكون الميم الذي هو من الحشرات الدقيقة التي تكون في شعر الرأس وفي جلد الجسد يتكون من تعفن الجلد لوسخه ودسومته ومن تعفن جلد الرأس كثيراً ) ، أصاب القبط جند كثير من الحمنان عسر الاحتراز عنه ولعله أصاب مواشيَهم .
والضفادع : جمع ضَفْدَع وهو حيوان يمشي على أرجل أربع ويسحب بطنه على الأرض ويسبح في المياه ، ويكون في الغدران ومناقع المياه ، صوته مثل القراقر يسمى نقيقاً ، أصابهم جند كثير منه يقع في طعامهم يرتمي إلى القدور ، ويقع في العيون والأسقية وفي البيوت فيفسد ما يقع فيه وتطؤه أرْجُل الناس فتتقذر به البيوت ، وقد سلمت منه بلاد ( جاسان ) منزل بني إسرائيل .
والدم معروف ، قيل : أصابهم رعاف متفش فيهم ، وقيل : صارت مياه القبط كالدم في اللون ، كما في التوراة ، ولعل ذلك من حدوث دود أحمر في الماء فشبه الماء بالدم ، وسلمت مياه ( جاسان ) قرية بني إسرائيل .
وسمى الله هاته { آيات } لأنها دلائل على صدق موسى لاقترانها بالتحدي ، ولأنها دلائل على غضب الله عليهم لتظافرها عليهم حين صمموا الكفر والعناد .
وانتصب { آيات } على الحال من الطوفان وما عطف عليه ، و { مفصّلات } اسم مفعول من فصّل المضاعف الدال على قوة الفصل . والفصل حقيقته التفرقة بين الشيئين بحيث لا يختلط أحدهما بالآخر ، ويستعار الفصل لإزالة اللبس والاختلاط في المعاني ف { مفصلات } وصف ل { آيات } ، فيكون مراداً منه معنى الفصل المجازي وهو إزالة اللبس ، لأن ذلك هو الأنسب بالآيات والدلائل ، أي : هي آيات لا شبهة في كونها كذلك لمن نَظر نَظر اعتبار .
وقيل : المراد أنها مفصول بعضها عن بعض في الزمان ، أي لم تحدث كلها في وقت واحد ، بل حدث بعضها بعد بعض ، وعلى هذا فصيغة التفعيل للدلالة على تراخي المدة بين الواحدة والأخرى ، ويجيء على هذا أن العذاب كان أشد وأطول زمناً كما دل عليه قوله تعالى : { وما نريهم من آية إلاّ هي أكبر من أختها } [ الزخرف : 48 ] ، قيل : كان بين الآية منها والأخرى مدة شهر أو مدة ثمانية أيام ، وكانت تدوم الواحدة منها مدة ثمانية أيام وأكثر ، وعلى هذا الوجه فالأنسب أن يجعل { مفصلات } حالاً ثانية من الطوفان والجراد ، وأن لا يجعل صفة { آيات } .
والفاء في قوله : { فاستكبروا } للتفريع والترتب ، أي : فتفرع على إرسال الطوفان وما بعده استكبارهم ، كما تفرع على أخذهم بالسنين غرورُهم بأن ذلك من شؤم موسى ومن معه ، فعُلم أن من طبع تفكيرهم فسادَ الوضع ، وهو انتزاع المدلولات من أضداد أدلتها ، وذلك دليل على انغماسهم في الضلالة والخذلان ، وبعدهم عن السعادة والتوفيق ، فلا يزالون مورطين في وحل الشقاوة .
فالاستكبار : شدة التكبر كما دلت عليه السين والتاء ، أي : عدَ أنفسهم كبراء ، أي تعاظمهم عن التصديق بموسى وإبطال دينهم إذ أعرضوا عن التصديق بتلك الآيات المفصلات .
وجملة : { وكانوا قوماً مجرمين } معطوفة على جملة { فاستكبروا } ، فالمعنى : فاستكبروا عن الاعتراف بدلالة تلك الآيات وأجرموا ، وإنما صيغ الخبر عن إجرامهم بصيغة الجملة الاسمية للدلالة على ثبات وصف الإجرام فيهم ، وتمكنه منهم ، ورسوخه فيهم من قبل حدوث الاستكبار ، وفي ذلك تنبيه على أن وصف الإجرام الراسخ فيهم هو علة للاستكبار الصادر منهم ، ف ( كان ) دالةٌ على استمرار الخبر وهو وصف الإجرام . والإجرام : فعل الجرم وقد تقدم عند قوله تعالى : { وكذلك نجزي المجرمين } في هذه السورة ( 40 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فأرسلنا}، فلما قالوا ذلك أرسل الله {عليهم} السنين، ونقص من الثمرات، والنبات و {الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات}، يعني بائنات بعضها من بعض {فاستكبروا}، يعني فتكبروا عن الإيمان، {وكانوا قوما مجرمين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في معنى الطوفان، فقال بعضهم: هو الماء... فأرسل الله عليهم السماء... عن ابن عباس، قال: الطوفان: الغرق...
وقال آخرون: بل هو الموت... قال مجاهد: الموت على كلّ حال...
وقال آخرون: بل ذلك كان أمرا من الله طاف بهم... وقال بعضهم: هو كثرة المطر والريح...
والصواب من القول في ذلك عندي...أنه أمر من الله طاف بهم... وإذا كان ذلك كذلك، جاز أن يكون الذي طاف بهم المطر الشديد، وجاز أن يكون الموت الذريع... وأما "القُمّل"، فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه، فقال بعضهم: هو السوس الذي يخرج من الحنطة...
وقال آخرون: بل هو الدّبَى، وهو صغار الجراد الذي لا أجنحة له... وقال آخرون: بل القمل: البراغيث...
وقال بعضهم: هي دوابّ سود صغار... وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يزعم أن "القمل"، عند العرب: الحَمْنان، والحمنان ضرب من القِرْدان واحدتها: "حَمْنانة"، فوق القَمقامة. و "القمَّل" جمع، واحدتها "قملة"، وهي دابة تشبه القَمْل تأكلها الإبل فيما بلغني...
وأما قوله: "آياتٍ مُفَصّلاتٍ" فإن معناه: علامات ودلالات على صحة نبوّة موسى، وحقية ما دعاهم إليه "مفصلات"، قد فُصِل بينها، فجعل بعضها يتلو بعضا، وبعضها في إثر بعض...
عن ابن عباس، قال: فكانت آيات مفصلات بعضها في إثر بعض، ليكون لله الحجة عليهم، فأخذهم الله بذنوبهم فأغرقهم في اليم.
قال ابن إسحاق: آياتٍ مُفَصّلاتٍ: أي آية بعد آية يتبع بعضها بعضا.
وكان مجاهد يقول... «آيات مفصلات»، قال: معلومات.
"فاسْتَكْبَرُوا وكانُوا قَوْما مُجْرِمِينَ".
يقول تعالى ذكره: فاستكبر هؤلاء الذين أرسل الله عليهم ما ذكر في هذه الآيات من الآيات والحجج عن الإيمان بالله، وتصديق رسوله موسى صلى الله عليه وسلم، واتباعه على ما دعاهم إليه، وتعظموا على الله وعتوا عليه وكانُوا قَوْما مُجْرِمِينَ يقول: كانوا قوما يعملون بما يكرهه الله من المعاصي والفسق عتوّا وتمرّدا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقيل: {مفصّلات} أي بينات واضحات ما علم كل أحد أنها ليست من أحد، وليست من عمل السحر، ولكن آيات سماوية؛ فلو كانت سحرا لتكلّفوا في دفعه، واشتغلوا بالسحر على ما اشتغلوا بسحر العصا والحبال. فإذا لم يتكلّفوا في ذلك لم يشتغلوا بدفع ذلك، بل فزعوا إلى موسى ليكشف ذلك عنهم، ووعدوا له الإيمان به وإرسال بني إسرائيل معه...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله "فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين "معناه إنهم مع مشاهدتهم لهذه الآيات العظيمة والمعجزات الظاهرة، أنفوا من الحق وتكبروا عن الاذعان والانقياد له، وكانوا قوما عصاة مرتكبين للإجرام والآثام.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
جَنَّسَ عليهم العقوباتِ لمَّا نوَّعُوا وجَنَّسوا فنونَ المخالفات، فلا إلى التكفير عادوا، ولا إلى التطهير تصدوا، وعوقبوا بِصَرْفِ قلوبهم عن شهود الحقائق وذلك أبلغُ مما اتصل بظواهرهم من فنون البلايا...
ونعوذُ بالله من السقوط عن عين الله.
.. الأكثرون على أن هذا الطوفان هو المطر الكثير على ما رويناه عن ابن عباس.. وأما قوله تعالى: {آيات مفصلات} ففيه وجوه: أحدها: {مفصلات} أي مبينات ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، وثانيها: {مفصلات} أي فصل بين بعضها وبعض بزمان يمتحن فيه أحوالهم وينظر أيقبلون الحجة والدليل أو يستمرون على الخلاف والتقليد..
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{آيات مفصلات} على الحال والذي دلّت عليه الآية أنه أرسل عليهم ما ذكر فيها وأما كيفية الإرسال ومكث ما أرسل عليهم من الأزمان والهيئات فمرجعه إلى النّقل عن الأخبار الإسرائيليات إذ لم يثبت من ذلك في الحديث النبوي شيء...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بارزوا بهذه العظيمة، استحقوا النكال فسبب عن ذلك قوله: {فأرسلنا عليهم} أي عذاباً لهم -لما يفهمه حرف الاستعلاء {الطوفان} أي الرعد والبرق والنار مع المطر والبرد الكُبار الذي يقتل البقر فما دونها، والظلمة والريح الشديدة التي عمت أرضهم وطافت بها؛ ولما كان ذلك ربما أخصبت به الأرض، أخبر أنه أرسل ما يفسد ذلك فقال: {والجراد}. ولما كان الجراد ربما طار وقد أبقى شيئاً، أخبر بما يستمر لازقاً في الأرض حتى لا يدع بها شيئاً فقال: {والقمل}... ولما كان ربما كان عندهم شيء مخزوناً لم يصل إليه ذلك، أخبر بما يسقط نفسه في الأكل فيفسده أو ينقصه فقال: {والضفادع} فإنها عمت جميع أماكنهم... ولما تم ما يضر بالمأكل، أتبعه ما أفسد المشرب فقال: {والدم} فإن مياههم انقلبت كلها دماً منتناً... ولما ذكر تعالى هذه الآيات العظيمة، نبه على عظمتها بذكر حالها فقال: {آيات} أي علامات على صدقه عظميات {مفصلات} أي يتبع بعضها بعضاً، وبين كل واحدة وأختها حين يختبرون فيه مع أن مغايرة كل واحدة لأختها في غاية الظهور، وكذا العلم بأنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره. ولما كانت حقيقة بأن يتسبب عنها الإيمان عند سلامة القلب، سبب عنها قوله: {فاستكبروا} مبيناً أن الذي منعهم من الإيمان مرض القلب بالكبر والطغيان {وكانوا قوماً مجرمين} أي في جبلتهم قطع ما ينبغي وصله مع قوتهم على ما يحاولونه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
.. أي فأنزلنا عليهم هذه المصائب والنكبات حال كونها آيات بينات على صدق رسالة عبدنا موسى، بأن توعدهم بها قبل وقوع كل واحدة منها تفصيلا لا إجمالا، لتكون دلالتها على صدقه واضحة لا تحتمل التأويل بأنها وقعت بأسباب لها لا دخل لرسالته فيها – فاستكبروا عن الإيمان به استكبارا، مع اعتقاد صحة رسالته وصدق دعوته باطنا، وكانوا قوما راسخين في الإجرام والذنوب مصرين عليها فلا يهون عليهم تركها.
جاء في سورة الإسراء – أو بني إسرائيل- أن الله تعالى أعطى موسى تسع آيات بينات وقد عد هنا منها خمسا وهي مذكورة في التوراة على غير هذا الترتيب وهو غير مراد وعطف بعضها على بعض بالواو لا يقتضيه...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وأرسلنا: بمعنى أنزلنا قاصدين كأن هذه مرسلة من عندنا وبعد البلاء في زرعهم وحرثهم ونسلهم كان البلاء في أجسامهم والاستكبار عن الحق سبيل الضلال والوقوع في الذل، وقوله تعالى: {وكانوا قوما مجرمين} فيه تسجيل الإجرام والعتو، عليهم، وقد أكد – سبحانه وتعالى – إجرامهم واستمرارهم على الإجرام، وسيطرة الأخلاق الفرعونية عليهم، وإنها فساد كلها، يصيب النفس، فلا تنخلع منه، والنوازل تصيب نفوسهم، ولا تصل إلى أعماقها ولا تجتث الشر منها، ككل من امتلأت نفوسهم بالشر، فإنه يكون لونا من ألوانها لا تمحوه عظة ولا يدفعه بلاء.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
فهذه جملة المصائب التي نزلت بفرعون وقومه على التتابع والتوالي دون أن يتوبوا من شركهم وكفرهم، ولا أن يتراجعوا عن عتوهم وكبرهم، ثم جاءت القاصمة – قاصمة ظهر فرعون وقومه – فأغرق الله فرعون وجنده، ونصر عبده، وهذه المصائب لا تزال تنزل بمختلف الأمم حتى الآن، ولا يحمي منها إلا التقوى والاستقامة والإيمان.
والآيات المفصلات.. هي عجائب؛ كل منها عجيبة يسلطها الله على مَن يريد إذلاله، ويبتلي الله بها نوعا من الناس ولا يبتلي بها قوما آخرين.فماذا كان موقفهم من الآيات والعجائب؟ نجد الحق يذيل الآية: {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}. إنهم لم يؤمنوا، بل تكبروا وأجرموا في حق أنفسهم وقطعوا ما بينهم وبين الإيمان.