تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَجَآءَتۡهُ إِحۡدَىٰهُمَا تَمۡشِي عَلَى ٱسۡتِحۡيَآءٖ قَالَتۡ إِنَّ أَبِي يَدۡعُوكَ لِيَجۡزِيَكَ أَجۡرَ مَا سَقَيۡتَ لَنَاۚ فَلَمَّا جَآءَهُۥ وَقَصَّ عَلَيۡهِ ٱلۡقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفۡۖ نَجَوۡتَ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (25)

فأرسل أبوهما إحداهما إلى موسى ، فجاءته { تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ } وهذا يدل على كرم عنصرها ، وخلقها الحسن ، فإن الحياء من الأخلاق الفاضلة ، وخصوصا في النساء .

ويدل على أن موسى عليه السلام ، لم يكن فيما فعله من السقي بمنزلة الأجير والخادم الذي لا يستحى منه عادة ، وإنما هو عزيز النفس ، رأت من حسن خلقه ومكارم أخلاقه ، ما أوجب لها الحياء منه ، ف { قَالَتِ } له : { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } أي : لا لِيمُنَّ عليك ، بل أنت الذي ابتدأتنا بالإحسان ، وإنما قصده أن يكافئك على إحسانك ، فأجابها موسى .

{ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ } من ابتداء السبب الموجب لهربه ، إلى أن وصل إليه { قَالَ } مسكنا روعه ، جابرا قلبه : { لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي : ليذهب خوفك وروعك ، فإن اللّه نجاك منهم ، حيث وصلت إلى هذا المحل ، الذي ليس لهم عليه سلطان .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَجَآءَتۡهُ إِحۡدَىٰهُمَا تَمۡشِي عَلَى ٱسۡتِحۡيَآءٖ قَالَتۡ إِنَّ أَبِي يَدۡعُوكَ لِيَجۡزِيَكَ أَجۡرَ مَا سَقَيۡتَ لَنَاۚ فَلَمَّا جَآءَهُۥ وَقَصَّ عَلَيۡهِ ٱلۡقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفۡۖ نَجَوۡتَ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (25)

لما رجعت المرأتان سراعا{[22246]} بالغنم إلى أبيهما ، أنكر حالهما ومجيئهما سريعا ، فسألهما عن خبرهما ، فقصتا عليه ما فعل موسى ، عليه السلام . فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها قال الله تعالى : { فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ } أي : مشي الحرائر ، كما روي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، أنه قال : كانت مستتَرة بكم درْعها .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا [ أبي ، حدثنا ]{[22247]} أبو نعيم ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمر بن ميمون قال : قال عمر رضي الله عنه : جاءت تمشي على استحياء ، قائلة بثوبها على وجهها ، ليست بسلفع{[22248]} خَرَّاجة ولاجة . هذا إسناد صحيح .

قال الجوهري : السلفع من الرجال : الجسور ، ومن النساء : الجريئة السليطة ، ومن النوق : الشديدة .

{ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } ، وهذا تأدب في العبارة ، لم تطلبه طلبا مطلقا لئلا يوهم ريبة ، بل قالت : { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } يعني : ليثيبك ويكافئك على سقيك لغنمنا ، { فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ } أي : ذكر له ما كان من أمره ، وما جرى له من السبب الذي خرج من أجله من بلده ، { قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } . يقول : طب نفسا وَقرّ عينا ، فقد خرجتَ من مملكتهم فلا حُكْم لهم في بلادنا . ولهذا قال : { نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } .

وقد اختلف المفسرون في هذا الرجل : مَنْ هو ؟ على أقوال : أحدها أنه شعيب النبي عليه السلام{[22249]} الذي أرسل إلى أهل مدين . وهذا هو المشهور عند كثيرين ، وقد قاله الحسن البصري وغير واحد . ورواه ابن أبي حاتم .

حدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز الأويسي ، حدثنا مالك بن أنس ؛ أنه بلغه أن شعيبا هو الذي قص عليه موسى القصص قال : { لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } .

وقد روى الطبراني عن سلمة بن سعد العنزي أنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : " مرحبا بقوم شعيب وأَخْتان موسى ، هُديت " {[22250]} .

وقال آخرون : بل كان ابن أخي شعيب . وقيل : رجل مؤمن من قوم شعيب . وقال آخرون : كان شعيب قبل زمان موسى ، عليه{[22251]} السلام ، بمدة طويلة ؛ لأنه قال لقومه : { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ } [ هود : 95 ] . وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل ، عليه السلام{[22252]} بنص القرآن ، وقد علم أنه كان بين موسى والخليل ، عليهما السلام ، مدة طويلة تزيد على أربعمائة سنة ، كما ذكره غير واحد . وما قيل : إن شعيبا عاش مدة طويلة ، إنما هو - والله أعلم - احتراز من هذا الإشكال ، ثم من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه في القرآن هاهنا . وما جاء في{[22253]} بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى{[22254]} لم يصح إسناده ، كما سنذكره قريبا إن شاء الله . ثم من الموجود في كتب بني إسرائيل أن هذا الرجل اسمه : " ثبرون " ، والله أعلم .

وقال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود : وأثرون{[22255]} وهو ابن أخي شعيب عليه السلام .

وعن أبي حمزة{[22256]} عن ابن عباس : الذي استأجر موسى يثرى صاحب مدين . رواه ابن جرير ، ثم قال : الصواب أن هذا لا يدرك إلا بخبر ، ولا خبر تجب به الحجة في ذلك .


[22246]:- في أ : "سريعا".
[22247]:- زيادة من ف ، أ.
[22248]:- في ف : "تستلفع".
[22249]:- في ف : "صلى الله عليه وسلم" وفي أ : "صلى الله عليه".
[22250]:- المعجم الكبير (7/55) من طريق حفص بن سلمة عن شيبان بن قيس عن سلمة بن سعد به ، وقال الهيثمي : "فيه من لم أعرفهم".
[22251]:- في ت : "عليهما".
[22252]:- في ت : "صلى الله عليه وسلم".
[22253]:- في ت : "من".
[22254]:- في أ : "لموسى".
[22255]:- في أ : "يثرون".
[22256]:- في ف ، أ : "أبي هريرة".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَجَآءَتۡهُ إِحۡدَىٰهُمَا تَمۡشِي عَلَى ٱسۡتِحۡيَآءٖ قَالَتۡ إِنَّ أَبِي يَدۡعُوكَ لِيَجۡزِيَكَ أَجۡرَ مَا سَقَيۡتَ لَنَاۚ فَلَمَّا جَآءَهُۥ وَقَصَّ عَلَيۡهِ ٱلۡقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفۡۖ نَجَوۡتَ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (25)

{ فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى استحيآء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } .

عرفت أن الفاء تؤذن بأن الله استجاب له فقيّض شعيباً أن يرسل وراء موسى ليضيفه ويزوجه بنته ، فذلك يضمن له أنساً في دار غربة ومأوى وعشيراً صالحاً . وتؤذن الفاء أيضاً بأن شعيباً لم يتريث في الإرسال وراءه فأرسل إحدى البنتين اللتين سقى لهما وهي ( صفورة ) فجاءته وهو لم يزل عن مكانه في الظل .

وذكر { تمشي } ليبني عليه قوله { على استحياء } وإلا فإن فعل ( جاءته ) مغن عن ذكر { تمشي } .

و { على } للاستعلاء المجازي مستعارة للتمكن من الوصف . والمعنى : أنها مستحيية في مشيها ، أي تمشي غير متبخترة ولا متثنية ولا مظهرة زينة . وعن عمر بن الخطاب أنها كانت ساترة وجهها بثوبها ، أي لأن ستر الوجه غير واجب عليها ولكنه مبالغة في الحياء . والاستحياء مبالغة في الحياء مثل الاستجابة قال تعالى { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن إلى قوله ليعلم ما يخفين من زينتهن } [ النور : 31 ] .

وجملة { قالت } بدل من ( جاءته ) . وإنما بيّنت له الغرض من دعوته مبادرة بالإكرام .

والجزاء : المكافأة على عمل حسن أو سيّىء بشيء مثله في الحسن أو الإساءة ، قال تعالى { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } [ الرحمن : 60 ] وقال تعالى { ذلك جزيناهم بما كفروا } [ سبأ : 17 ] .

وتأكيد الجملة في قوله { إن أبي يدعوك } حكاية لما في كلامها من تحقيق الخبر للاهتمام به وإدخال المسرة على المخبر به .

والأجر : التعويض على عمل نافع للمعوض ، ومنه سمي ثواب الطاعات أجراً ، قال تعالى { وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم } [ محمد : 36 ] . وانتصب { أجر ما سقيت لنا } على المفعول المطلق لبيان نوع الجزاء أنه جزاء خير ، وهو أن أراد ضيافته ، وليس هو من معنى إجارة الأجير لأنه لم يكن عن تقاول ولا شرط ولا عادة .

والجزاء : إكرام ، والإجارة : تعاقد . ويدل لذلك قوله عقبه { قالت إحداهما يا أبت استأجره } [ القصص : 26 ] فإنه دليل على أن أباها لم يسبق منه عزم على استئجار موسى . وكان فعل موسى معروفاً محضاً لا يطلب عليه جزاء لأنه لا يعرف المرأتين ولا بيتهما ، وكان فعل شعيب كرماً محضاً ومحبة لقري كل غريب ، وتضييف الغريب من سُنة إبراهيم فلا غرو أن يعمل بها رجلان من ذرية إبراهيم عليه السلام .

و { ما } في قوله { ما سقيت لنا } مصدرية ، أي سقيك ، ولام { لنا } لام العلة .

{ فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين } .

كانت العوائد أن يفاتح الضيف بالسؤال عن حاله ومقدمه فلذلك قصّ موسى قصة خروجه ومجيئه على شعيب . وذلك يقتضي أن شعيباً سأله عن سبب قدومه ، و { القصص } : الخبر . و { قص عليه } أخبره .

والتعريف في { القصص } عوض عن المضاف إليه ، أي قصصه ، أو للعهد ، أي القصص المذكور آنفاً . وتقدم نظيره في أول سورة يوسف .

فطمأنه شعيب بأنه يزيل عن نفسه الخوف لأنه أصبح في مأمن من أن يناله حكم فرعون لأن بلاد مدْين تابعة لملك الكنعانيين وهم أهل بأس ونجدة . ومعنى نهيه عن الخوف نهيه عن ظن أن تناله يد فرعون .

وجملة { نجوت من القوم الظالمين } تعليل للنهي عن الخوف . ووصف قوم فرعون بالظالمين تصديقاً لما أخبره به موسى من رومهم قتله قصاصاً عن قتل خطأ . وما سبق ذلك من خبر عداوتهم على بني إسرائيل .