{ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ *وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ }
يقول تعالى مشجعا لعباده المؤمنين ، ومقويا لعزائمهم ومنهضا لهممهم : { ولا تهنوا ولا تحزنوا } أي : ولا تهنوا وتضعفوا في أبدانكم ، ولا تحزنوا في قلوبكم ، عندما أصابتكم المصيبة ، وابتليتم بهذه البلوى ، فإن الحزن في القلوب ، والوهن على الأبدان ، زيادة مصيبة عليكم ، وعون لعدوكم عليكم ، بل شجعوا قلوبكم وصبروها ، وادفعوا عنها الحزن وتصلبوا على قتال عدوكم ، وذكر تعالى أنه لا ينبغي ولا يليق بهم الوهن والحزن ، وهم الأعلون في الإيمان ، ورجاء نصر الله وثوابه ، فالمؤمن المتيقن ما وعده الله من الثواب الدنيوي والأخروي لا ينبغي منه ذلك ، ولهذا قال [ تعالى ] : { وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين }
ثم نهى عز وجل المؤمنين عن الوهن لما أصابهم بأحد ، والحزن على من فقد ، وعلى مذمة الهزيمة ، وآنسهم بأنهم { الأعلون } أصحاب العاقبة ، والوهن : الضعف ، واللين والبلى ، ومنه : { وهن العظم مني } [ مريم : 4 ] ومنه قول زهير : [ البسيط ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فَأَصْبَحَ الْحَبْلُ مِنْها واهِناً خلقَا{[3554]}
ومن كرم الخلق ألا يهن الإنسان في حربه وخصامه ، ولا يلين إذا كان محقاً ، وأن يتقصى جميع قدرته ولا يضرع ولو مات ، وإنما يحسن اللين في السلم والرضى ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «المؤمن هين لين ، والمؤمنون هينون لينون »{[3555]} ومنه قول الشاعر{[3556]} : [ المنخل الهذلي ] : [ المتقارب ] .
لَعَمْرُكَ مَا إنْ أَبُو مالِكِ . . . بِوَاهٍ ولا بِضَعِيفٍ قواه
إذا سُدْتَه سُدْتَه مِطْواعَةً . . . وَمَهْما وَكلْتَ إلَيْهِ كَفَاه
وفي هذا الأسلوب الذي ذكرته يجري قول النابغة :
ومن عصاك فعاقبه معاقبة تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد
إلاّ لِمِثْلِكَ أَوْ مَنْ أَنْتَ سَابِقُهُ سبق الجواد إذا استولى على الأمد{[3557]}
وفيه يجري قول العرب : إذا لم تغلب فاخلب{[3558]} ، على من تأوله من المخلب ، أي حارب ولو بالأظافر ، وهذا هو فعل عبد الله بن طارق{[3559]} وهو من أصحاب عاصم بن عدي{[3560]} حين نزع يده من القرآن{[3561]} وقاتل حتى قتل ، وفعل المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح{[3562]} في يوم بئر معونة ، ومن رآه من معنى الخلب والخلابة الذي هو الخديعة والمكر ، فهو رأي دهاة العرب ، وليس برأي جمهورها ، ومنه فعل عمر بن سعيد الأشدق{[3563]} مع عبد الملك بن مروان عند قتله إياه ، والأمثلة في ذلك كثيرة ، وأيضاً فليس المكر والخديعة بذل محض ، ولذلك رآه بعضهم ، وأما قولهم إذا عز أخوك فهن{[3564]} ، فالرواية الصحيحة المعنى فيه بكسر الهاء بمعنى : لن واضعف ضعف المطواع ، وأما الرواية بضم الهاء فهي أمر بالهوان ، وما أعرف ذلك في شيء من مقاطع العرب ، وأما الشرع فقد قال النبي عليه السلام :< لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه>{[3565]} ، ورأيت لعاصم أن المثل على ضم الهاء إنما هو من الهون الذي هو الرفق ، وليس من الهوان ، قال منذر بن سعيد : يجب بهذه الآية أن لا يوادع العدو ما كانت للمسلمين قوة ، فإن كانوا في قطر ما على غير ذلك فينظر الإمام لهم بالأصلح ، وقوله تعالى : { وأنتم الأعلوْن } إخبار بعلو كلمة الإسلام .
هذا قول الجمهور وظاهر اللفظ ، وقاله ابن إسحاق : وروي عن ابن عباس وابن جريج : إنما قال الله لهم ذلك بسبب علوهم في الجبل ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انحاز في نفر يسير من أصحابه إلى الجبل ، فبينما هو كذلك إذ علا خالد بن الوليد عليهم الجبل فقال رسول الله عليه السلام : ( اللهم لا يعلوننا ) {[3566]} ، ثم قام وقام من معه فقاتل أصحابه وقاتل حينئذ عمر بن الخطاب حتى أزالوا المشركين عن رأس الجبل ، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيه ، فأنزل الله تعالى عليه ، { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون } وقوله تعالى : { إن كنتم مؤمنين } يحتمل أن يتعلق الشرط بقوله { ولا تهنوا ولا تحزنوا } فيكون المقصد هز النفوس وإقامتها ، ويحتمل أن يتعلق بقوله { وأنتم الأعلون } فيكون الشرط على بابه دون تجوز ، ويترتب من ذلك الطعن على من نجم نفاقه في ذلك اليوم ، وعلى من تأود{[3567]} إيمانه واضطرب يقينه ، ألا لا يتحصل الوعد إلا بالإيمان ، فالزموه .
ثم قال تعالى ، تسلية للمؤمنين : { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } والأسوة مسلاة للبشر ، ومنه قول الخنساء : [ الوافر ]
ولَوْلاَ كَثْرَةُ البَاكِينَ حَوْلي . . . عَلَى إخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخي ولكنْ . . . أعزّي النَّفْسَ عَنْهُ بالتأَسِّي{[3568]}
والسلو بالتأسي هو النفع الذي يجره إلى نفسه الشاهد المحدود ، فلذلك ردت شهادته فيما حد فيه وإن تاب وحسنت حاله ، و «القرح » : القتل والجراح ، قاله مجاهد والحسن والربيع وقتادة وغيرهم ، والمعنى : إن مسكم في أحد فقد مس كفار قريش ببدر بأيديكم ، وقرا نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص : «قَرْح » بفتح القاف ، وقرأ حمزة الكسائي وعاصم في رواية أبي بكر : «قُرْح » بضم القاف ، وكلهم سكن الراء ، قال أبو علي : هما لغتان كالضَّعف والضُّعف والكَره والكُره ، والفتح أولى لأنها لغة أهل الحجاز والأخذ بها أوجب لأن القرآن عليها نزل .
قال القاضي أبو محمد : هذه القراءات لا يظن إلا أنها مروية عن النبي عليه السلام : وبجميعها عارض جبريل عليه السلام مع طول السنين توسعة على هذه الأمة ، وتكملة للسبعة الأحرف حسب ما بيناه في صدر هذا التعليق ، وعلى هذا لا يقال : هذه أولى من جهة نزول القرآن بها ، وإن رجحت قراءة فبوجه غير وجه النزول ، قال أبو الحسن الأخفش : «القَرح » و «القُرح » مصدران بمعنى واحد ، ومن قال القَرح بالفتح الجراحات بأعيانها ، والقُرح بضم القاف ألم الجراحات قبل منه إذا أتى برواية ، لأن هذا مما لا يعلم بقياس ، وقال بهذا التفسير الطبري ، وقرأ الأعمش «إن تمسسكم » : بالتاء من فوق ، «قروح » بالجمع ، «فقد مس القوم قرح مثله » ، وقرأ محمد بن السميفع اليماني «قَرَح » بفتح القاف والراء ، قال أبو الفتح{[3569]} : هي لغة في القرح كالشل والشلل والطرد والطرد . هذا مذهب البصريين ، وليس هذا عندهم من تأثير حرف الحلق ، وأنا أميل في هذا إلى قول أصحابنا البغداديين ، في أن لحرف الحلق في مثل هذا أثراً معتمداً ، وقد سمعت بعض بني عقيل يقول : نحوه بفتح الحاء ، يريد نحوه ، ولو كانت الكلمة مبنية على فتح الحاء لأعلت الواو كعصاة وقناة ، وسمعت غيره يقول : أنا محموم بفتح الحاء قال ابن جني : ولا قرابة بيني وبين البصريين ولكنها بيني وبين الحق ، والحمد الله .
قوله : { ولا تهنوا ولا تحزنوا } نهي للمسلمين عن أسباب الفشل . والوهن : الضعف ، وأصله ضعف الذات : كالجسم في قوله تعالى : { ربِّ إنِّي وهَن العظم منِّي } [ مريم : 4 ] ، والحبْل في قول زهير :
وهو هنا مجاز في خور العزيمة وضعف الإرادة وانقلاب الرجاء يأساً ، والشَّجاعة جبناً ، واليقين شكّاً ، ولذلك نهوا عنه . وأمَّا الحزن فهو شدّة الأسف البالغة حدّ الكآبة والانكسار . والوهنُ والحزن حالتان للنفس تنشآن عن اعتقاد الخيبة والرزء فيترتّب عليهما الاستسلام وترك المقاومة . فالنهي عن الوهن والحزن في الحقيقة نهي عن سببهما وهو الاعتقاد ، كما يُنهى عن النسيان ، وكما يُنهى أحد عن فعل غيره في نحو لا أرَيَنّ فلاناً في موضع كذا أي لا تَتْركْه يحلّ فيه ، ولذلك قدّم على هذا النَّهي قوله : { قد خلت من قبلكم سنن } [ آل عمران : 137 ] إلخ . . . وعقب بقوله : { وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } .
وقوله : { وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } ، الواو للعطف وهذه بشارة لهم بالنَّصر المستقبل ، فالعلوّ هنا علوّ مجازيّ وهو علوّ المنزلة .
والتَّعليق بالشرط في قوله : { إن كنتم مؤمنين } قصد به تهييج غيرتهم على الإيمان إذ قد علِم الله أنَّهم مؤمنون ولكنَّهم لمّا لاح عليهم الوهن والحزن من الغلبة ، كانوا بمنزلة من ضعف يقينه فقيل لهم : إن علمتم من أنفسكم الإيمان ، وجيء بإن الشرطية الَّتي من شأنها عدم تحقيق شرطها ، إتماماً لِهذا المقصد .