{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }
يخبر تعالى عن أكلة الربا وسوء مآلهم وشدة منقلبهم ، أنهم لا يقومون من قبورهم ليوم نشورهم { إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أي : يصرعه الشيطان بالجنون ، فيقومون من قبورهم حيارى سكارى مضطربين ، متوقعين لعظيم النكال وعسر الوبال ، فكما تقلبت عقولهم و { قالوا إنما البيع مثل الربا } وهذا لا يكون إلا من جاهل عظيم جهله ، أو متجاهل عظيم عناده ، جازاهم الله من جنس أحوالهم فصارت أحوالهم أحوال المجانين ، ويحتمل أن يكون قوله : { لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أنه لما انسلبت عقولهم في طلب المكاسب الربوية خفت أحلامهم وضعفت آراؤهم ، وصاروا في هيئتهم وحركاتهم يشبهون المجانين في عدم انتظامها وانسلاخ العقل الأدبي عنهم ، قال الله تعالى رادا عليهم ومبينا حكمته العظيمة { وأحل الله البيع } أي : لما فيه من عموم المصلحة وشدة الحاجة وحصول الضرر بتحريمه ، وهذا أصل في حل جميع أنواع التصرفات الكسبية حتى يرد ما يدل على المنع { وحرم الربا } لما فيه من الظلم وسوء العاقبة ، والربا نوعان : ربا نسيئة كبيع الربا بما يشاركه في العلة نسيئة ، ومنه جعل ما في الذمة رأس مال ، سلم ، وربا فضل ، وهو بيع ما يجري فيه الربا بجنسه متفاضلا ، وكلاهما محرم بالكتاب والسنة ، والإجماع على ربا النسيئة ، وشذ من أباح ربا الفضل وخالف النصوص المستفيضة ، بل الربا من كبائر الذنوب وموبقاتها { فمن جاءه موعظة من ربه } أي : وعظ وتذكير وترهيب عن تعاطي الربا على يد من قيضه الله لموعظته رحمة من الله بالموعوظ ، وإقامة للحجة عليه { فانتهى } عن فعله وانزجر عن تعاطيه { فله ما سلف } أي : ما تقدم من المعاملات التي فعلها قبل أن تبلغه الموعظة جزاء لقبوله للنصيحة ، دل مفهوم الآية أن من لم ينته جوزي بالأول والآخر { وأمره إلى الله } في مجازاته وفيما يستقبل من أموره { ومن عاد } إلى تعاطي الربا ولم تنفعه الموعظة ، بل أصر على ذلك { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } اختلف العلماء رحمهم الله في نصوص الوعيد التي ظاهرها تخليد أهل الكبائر من الذنوب التي دون الشرك بالله ، والأحسن فيها أن يقال هذه الأمور التي رتب الله عليها الخلود في النار موجبات ومقتضيات لذلك ، ولكن الموجب إن لم يوجد ما يمنعه ترتب عليه مقتضاه ، وقد علم بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن التوحيد والإيمان مانع من الخلود في النار ، فلولا ما مع الإنسان من التوحيد لصار عمله صالحا للخلود فيها بقطع النظر عن كفره .
لما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات ، المخرجين الزكوات ، المتفضلين بالبر والصلات لذوي الحاجات والقرابات في جميع الأحوال والآنات - شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات ، فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم ، فقال : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } أي : لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له ؛ وذلك أنه يقوم قياما منكرًا . وقال ابن عباس : آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يُخْنَق . رواه ابن أبي حاتم ، قال : وروي عن عوف بن مالك ، وسعيد بن جبير ، والسدي ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان ، نحو ذلك .
وحكي عن عبد الله بن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان أنهم قالوا في قوله : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } يعني : لا يقومون يوم القيامة . وكذا قال ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، والضحاك ، وابن زيد .
وروى ابن أبي حاتم ، من حديث أبي بكر بن أبي مريم ، عن ضمرة بن حبيب ، عن ابن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه أنه كان يقرأ : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس يوم القيامة "
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا ربيعة بن كلثوم ، حدثنا أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : يقال يوم القيامة لآكل الربا : خذ سلاحك للحرب . وقرأ : { لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } قال : وذلك حين يقوم من قبره .
وفي حديث أبي سعيد في الإسراء ، كما هو مذكور في سورة سبحان : أنه ، عليه السلام{[4547]} مر ليلتئذ بقوم لهم أجواف مثل البيوت ، فسأل عنهم ، فقيل : هؤلاء أكلة الربا . رواه البيهقي مطولا .
وقال ابن ماجة : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا الحسن بن موسى ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أبي الصلت ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت ، فيها الحيات ترى من خارج بطونهم . فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء أكلة الربا " .
ورواه الإمام أحمد ، عن حسن وعفان ، كلاهما عن حماد بن سلمة ، به{[4548]} . وفي إسناده ضعف .
وقد روى البخاري ، عن سَمُرَة{[4549]} بن جندب في حديث المنام الطويل : " فأتينا على نهر - حسبت أنه كان يقول : أحمر مثل الدم - وإذا في النهر رجل سابح يسبح ، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة ، وإذا ذلك السابح يسبح ، [ ما يسبح ]{[4550]} ثم يأتي ذلك الذي قد جمع الحجارة عنده فيفغر له فاه فيلقمه{[4551]} حجرًا " وذكر في تفسيره : أنه آكل الربا{[4552]} .
وقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } أي : إنما جُوزُوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه ، وليس هذا قياسًا منهم للربا على البيع ؛ لأن المشركين لا يعترفون{[4553]} بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن ، ولو كان هذا من باب القياس لقالوا : إنما الربا مثل البيع ، وإنما قالوا : { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } أي : هو نظيره ، فلم حرم هذا وأبيح هذا ؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع ، أي : هذا مثل هذا ، وقد أحل هذا وحرم هذا !
وقوله تعالى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } يحتمل أن يكون من تمام الكلام{[4554]} ردًا عليهم ، أي : قالوا : ما قالوه من الاعتراض ، مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكما ، وهو الحكيم العليم الذي لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها ، وما ينفع عباده فيبيحه لهم ، وما يضرهم فينهاهم عنه ، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل ؛ ولهذا قال : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ } أي : من بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه . فله ما سلف من المعاملة ، لقوله : { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } [ المائدة : 95 ] وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : " وكل ربًا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين ، وأول ربا أضع ربا العباس " {[4555]} ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية ، بل عفا عما سلف ، كما قال
تعالى : { فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ }
قال سعيد بن جبير والسدي : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } فإنه{[4556]} ما كان أكل من الربا قبل التحريم .
وقال ابن أبي حاتم : قرئ على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني جرير بن حازم ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن أم يونس - يعني امرأته العالية بنت أيفع - أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لها أم محبة{[4557]} أم ولد لزيد بن أرقم - : يا أم المؤمنين ، أتعرفين زيد بن أرقم ؟ قالت : نعم . قالت : فإني بعته عبدًا إلى العطاء بثمانمائة ، فاحتاج إلى ثمنه ، فاشتريته قبل محل الأجل بستمائة . فقالت : بئس ما شريت ! وبئس ما اشتريت ! أبلغي زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب قالت : فقلت : أرأيت إن تركت المائتين وأخذت الستمائة ؟ قالت : نعم ، { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ }{[4558]} .
وهذا الأثر مشهور ، وهو دليل لمن حرم مسألة العينة ، مع ما جاء فيها من الأحاديث المقررة في كتاب الأحكام ، ولله الحمد والمنة .
ثم قال تعالى : { وَمَنْ عَادَ } أي : إلى الربا ففعله بعد بلوغ نهي الله له عنه ، فقد استوجب العقوبة ، وقامت عليه الحجة ؛ ولهذا قال : { فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
وقد قال أبو داود : حدثنا يحيى بن معين ، أخبرنا عبد الله بن رجاء المكي ، عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : لما نزلت : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يذر المخابرة ، فليأذن بحرب من الله ورسوله " {[4559]} .
ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث ابن خثيم ، وقال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجه{[4560]} {[4561]} .
وإنما حرمت المخابرة وهي : المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض ، والمزابنة وهي : اشتراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض ، والمحاقلة وهي : اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض - إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها ، حسمًا لمادة الربا ؛ لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف . ولهذا قال الفقهاء : الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة . ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا ، والوسائل الموصلة إليه ، وتفاوت{[4562]} نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم ، وقد قال تعالى : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يوسف : 76 ] .
وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم ، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد{[4563]} إلينا فيهن عهدًا ننتهي إليه : الجد ، والكلالة ، وأبواب من أبواب الربا{[4564]} ، يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا والشريعة شاهدة بأن كل
حرام فالوسيلة إليه مثله ؛ لأن ما أفضى إلى الحرام حرام ، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . وقد ثبت في الصحيحين ، عن النعمان بن بشير ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الحلال بين وإن الحرام بين ، وبين ذلك أمور مشتبهات ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه {[4565]} " {[4566]} .
وفي السنن عن الحسن بن علي ، رضي الله عنهما ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " {[4567]} . وفي الحديث الآخر : " الإثم ما حاك في القلب وترددت فيه النفس ، وكرهت أن يطلع عليه الناس " . وفي رواية : " استفت قلبك ، وإن أفتاك الناس وأفتوك " {[4568]} .
وقال الثوري : عن عاصم ، عن الشعبي ، عن ابن عباس قال : آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا . رواه [ البخاري ]{[4569]} عن قبيصة ، عنه{[4570]} .
وقال أحمد ، عن{[4571]} يحيى ، عن سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب أن عمر قال : من آخر ما نزل آية الربا {[4572]} وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا ، فدعوا الربا والريبة .
رواه{[4573]} ابن ماجه{[4574]} وابن مردويه .
وروى ابن مَرْدويه من طريق هياج بن بسطام ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة{[4575]} عن أبي سعيد الخدري قال : خطبنا عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فقال : إني لعلي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم وآمركم بأشياء لا تصلح لكم ، وإن من آخر القرآن نزولا آية الربا ، وإنه قد مات رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينه لنا ، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم .
وقد قال ابن ماجة : حدثنا عمرو بن علي الصيرفي ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن زبيد ، عن إبراهيم ، عن مسروق ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الربا ثلاثة وسبعون بابا " {[4576]} .
ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث عمرو بن علي الفلاس ، بإسناد مثله ، وزاد : " أيسرها أن ينكح الرجل أمه ، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم " . وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه{[4577]} .
وقال ابن ماجة : حدثنا عبد الله بن سعيد ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن أبي معشر ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الربا سبعون حوبا ، أيسرها أن ينكح الرجل أمه " {[4578]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم ، عن عباد بن راشد ، عن سعيد بن أبي خَيرة{[4579]} حدثنا الحسن - منذ نحو من أربعين أو خمسين سنة - عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا " قال : قيل له : الناس كلهم ؟ قال : " من لم يأكله منهم ناله من غباره " وكذا رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة من غير وجه ، عن سعيد بن أبي خيرة{[4580]} عن الحسن ، به{[4581]} .
ومن هذا القبيل ، وهو تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن مسلم بن صبيح ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ، فقرأهُن ، فحرم التجارة في الخمر .
وقد أخرجه الجماعة سوى الترمذي ، من طرق ، عن الأعمش به {[4582]} وهكذا لفظ رواية البخاري ، عند تفسير الآية : فحرم التجارة ، وفي لفظ له ، عن عائشة قالت : لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس ، ثم حرم التجارة في الخمر . قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الأئمة : لما حرم الربا ووسائله حرم الخمر وما يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك ، كما قال ، عليه السلام{[4583]} في الحديث المتفق عليه : " لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها " {[4584]} .
وقد تقدم في حديث علي وابن مسعود وغيرهما ، عند لعن المحلل في تفسير قوله : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَه } [ البقرة : 230 ] قوله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله آكل الربا وموكله ، وشاهديه وكاتبه " . قالوا : وما يشهد عليه ويكتب إلا إذا أظهر في صورة عقد شرعي ويكون داخله فاسدا ، فالاعتبار بمعناه لا بصورته ؛ لأن الأعمال بالنيات ، وفي الصحيح : " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " {[4585]} .
وقد صنف الإمام ، العلامة أبو العباس ابن تيمية كتابا في " إبطال التحليل " {[4586]} تضمن النهي عن تعاطي الوسائل المفضية إلى كل باطل ، وقد كفى في ذلك وشفى ، فرحمه الله ورضي عنه .
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 275 )
وقوله عز وجل : { الذين يأكلون الربا } الآية ، { الربا } هوالزيادة وهو مأخوذ من ربا يربو إذا نما وزاد على ما كان ، وغالبه ما كانت العرب تفعله من قولها للغريم أتقضي أم تربي ؟ فكان الغريم يزيد في عدد المال ، ويصبر الطالب عليه( {[2705]} ) ، ومن الربا البين التفاضل في النوع الواحد لأنها زيادة ، وكذلك أكثر البيوع الممنوعة إنما تجد منعها لمعنى زيادة إما في عين مال ، وإما في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه( {[2706]} ) ، ومن البيوع ما ليس فيه معنى الزيادة كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها ، وكالبيع ساعة النداء يوم الجمعة ، فإن قيل لفاعلها : آكل ربا فبتجوز وتشبيه ، والربا من ذوات الواو ، وتثنيته ربوان عند سيبويه ، ويكتب الألف . قال الكوفيون : يكتب( {[2707]} ) ويثنى بالياء لأجل الكسرة التي في أوله . وكذلك يقولون في الثلاثية من ذوات الواو إذا انكسر الأول أو انضم ، نحو ضحى ، فإن كان مفتوحاً نحو صفا فكما قال البصري .
ومعنى هذه الآية : الذين يكسبون الربا ويفعلونه ، وقصد إلى لفظة الأكل لأنها أقوى مقاصد الإنسان في المال ، ولأنها دالة على الجشع ، فأقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كله ، فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال وغير ذلك داخل كله في قوله : { الذي يأكلون }( {[2708]} ) ، وقال ابن عباس رضي الله عنه مجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد : معنى قوله : { لا يقومون } من قبورهم في البعث يوم القيامة ، قال بعضهم : يجعل معه شيطان يخنفه ، وقالوا كلهم يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتاً عند جمع المحشر ، ويقوي هذا التأويل المجمع عليه في أن قراءة عبد الله بن مسعود «لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم » .
قال القاضي أبو محمد : وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون ، لأن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه ، وهذا كما تقول لمسرع في مشيه ، مخلط في هيئة حركاته ، إما من فزع أو غيره ، قد جن هذا ، وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله : [ الطويل ]
وَتُصْبِحُ مِنْ غِبّ السُّرى وَكَأَنَّما . . . أَلَم بِهَا مِنْ طَائِفِ الْجِنِّ أَوْلَق( {[2709]} )
لكن ما جاءت( {[2710]} ) به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل { ويتخبطه } «يتفعله » من خبط يخبط كما تقول : تملكه وتعبده وتحمله . و { المس } الجنون ، وكذلك الأولق والألس والزؤْد( {[2711]} ) ، وقوله تعالى : { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا } معناه عند جميع المتأولين في الكفار( {[2712]} ) ، وأنه قول تكذيب للشريعة ورد عليها .
والآية كلها في الكفار المربين نزلت ولهم قيل { فله ما سلف } ولا يقال ذلك لمؤمن عاص( {[2713]} ) ، ولكن يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد هذه الآية ، ثم جزم تعالى الخبر في قوله : { وأحل الله البيع وحرم الربا }( {[2714]} ) وقال بعض العلماء في قوله : { وأحل الله البيع } هذا من عموم القرآن ، لأن العرب كانت تقدر على إنفاذه ، لأن الأخذ والإعطاء عندها بيع ، وكل ما عارض العموم فهو تخصيص منه ، وقال بعضهم : هو من مجمل القرآن الذي فسر بالمحلل من البيع وبالمحرم ، والقول الأول عندي أصح( {[2715]} ) ، قال جعفر بن محمد الصادق : حرم الله الربا ليتقارض الناس . وقال بعض العلماء : حرمه الله لأنه متلفة للأموال مهلكة للناس . وسقطت علامة التأنيث في قوله : { فمن جاءه } لأن تأنيث الموعظة غير حقيقي وهو بمعنى وعظ ، وقرأ الحسن «فمن جاءته » بإثبات العلامة ، وقوله : { فله ما سلف } أي من الربا لا تباعة( {[2716]} ) عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة قاله السدي وغيره ، وهذا حكم من الله تعالى لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ومن كان يتجر هناك ، و { سلف } معناه تقدم في الزمن وانقضى .
وفي قوله تعالى : { وأمره إلى الله } أربع تأويلات : أحدها أن الضمير عائد على الربا بمعنى : وأمر الربا إلى الله في إمرار( {[2717]} ) تحريمه أو غير ذلك . الثاني أن يكون الضمير عائداً على { ما سلف } . أي أمره إلى الله في العفو عنه وإسقاط التبعية فيه . والثالث أن يكون الضمير عائداً على ذي الربا بمعنى أمره إلى الله في أن يثيبه على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية في الربا . والرابع أن يعود الضمير على المنتهي ولكن بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير . كما تقول وأمره إلى طاعة وخير وموضع رجاء . وكما تقول وأمره في نمو أو إقبال إلى الله وإلى طاعته ، ويجيء الأمر هاهنا( {[2718]} ) ليس في الربا خاصة بل وجملة أموره ، وقوله تعالى : { ومن عاد } يعني إلى فعل الربا والقول { إنما البيع مثل الربا } وإن قدرنا الآية في كافر فالخلود خلود تأبيد حقيقي ، وإن لحظناها في مسلم عاصٍ فهذا خلود مستعار على معنى المبالغة . كما تقول العرب : ملك خالد ، عبارة عن دوام ما ، لا على التأبيد الحقيقي .