{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا }
ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل ، وهذا يشمل أكلها بالغصوب والسرقات ، وأخذها بالقمار والمكاسب الرديئة . بل لعله يدخل في ذلك أكل مال نفسك على وجه البطر والإسراف ، لأن هذا من الباطل وليس من الحق .
ثم إنه -لما حرم أكلها بالباطل- أباح لهم أكلها بالتجارات والمكاسب الخالية من الموانع ، المشتملة على الشروط من التراضي وغيره .
{ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } أي : لا يقتل بعضكم بعضًا ، ولا يقتل الإنسان نفسه . ويدخل في ذلك الإلقاءُ بالنفس إلى التهلكة ، وفعلُ الأخطار المفضية إلى التلف والهلاك { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } ومن رحمته أن صان نفوسكم وأموالكم ، ونهاكم عن إضاعتها وإتلافها ، ورتب على ذلك ما رتبه من الحدود .
وتأمل هذا الإيجاز والجمع في قوله : { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ } { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } كيف شمل أموال غيرك ومال نفسك وقتل نفسك وقتل غيرك بعبارة أخصر من قوله : " لا يأكل بعضكم مال بعض " و " لا يقتل بعضكم بعضًا " مع قصور هذه العبارة على مال الغير ونفس الغير فقط .
مع أن إضافة الأموال والأنفس إلى عموم المؤمنين فيه دلالة على أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ومصالحهم كالجسد الواحد ، حيث كان الإيمان يجمعهم على مصالحهم الدينية والدنيوية .
ولما نهى عن أكل الأموال بالباطل التي فيها غاية الضرر عليهم ، على الآكل ، ومن أخذ ماله ، أباح لهم ما فيه مصلحتهم من أنواع المكاسب والتجارات ، وأنواع الحرف والإجارات ، فقال : { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } أي : فإنها مباحة لكم .
وشرط التراضي -مع كونها تجارة- لدلالة أنه يشترط أن يكون العقد غير عقد ربا لأن الربا ليس من التجارة ، بل مخالف لمقصودها ، وأنه لا بد أن يرضى كل من المتعاقدين ويأتي به اختيارًا .
ومن تمام الرضا أن يكون المعقود عليه معلوما ، لأنه إذا لم يكن كذلك لا يتصور الرضا مقدورًا على تسليمه ، لأن غير المقدور عليه شبيه ببيع القمار ، فبيع الغرر بجميع أنواعه خال من الرضا فلا ينفذ عقده .
وفيها أنه تنعقد العقود بما دل عليها من قول أو فعل ، لأن الله شرط الرضا فبأي طريق حصل الرضا انعقد به العقد . ثم ختم الآية بقوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } ومن رحمته أن عصم دماءكم وأموالكم وصانها ونهاكم عن انتهاكها .
نهى{[7167]} تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضا بالباطل ، أي : بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية ، كأنواع الربا والقمار ، وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل ، وإن ظهرت في غالب الحكم الشرعي مما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا ، حتى قال ابن جرير :
حدثني ابن المثنى ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس - في الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول : إن رضيته أخذته وإلا رددته ورددت معه درهما - قال : هو الذي قال الله عز وجل : { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا ابن فضيل ، عن داود الأودي عن عامر ، عن علقمة ، عن عبد الله [ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } ] {[7168]} قال : إنها [ كلمة ]{[7169]} محكمة ، ما نسخت ، ولا تنسخ إلى يوم القيامة .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : لما أنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، والطعام هو أفضل الأموال ، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد ، فكيف{[7170]} للناس{[7171]} ! فأنزل الله بعد ذلك : { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ } [ النور : 61 ] الآية ، [ وكذا قال قتادة بن دعامة ]{[7172]} .
وقوله : { إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ }{[7173]} قرئ : تجارة بالرفع وبالنصب ، وهو استثناء منقطع ، كأنه يقول : لا تتعاطوا الأسباب المحرمة في اكتساب الأموال ، لكن المتاجر{[7174]} المشروعة التي تكون عن تراض من البائع والمشتري فافعلوها وتسببوا بها في تحصيل الأموال . كما قال [ الله ]{[7175]} تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ } [ الأنعام : 151 ] ، وكقوله { لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى } [ الدخان : 56 ] .
ومن هذه الآية الكريمة احتج الشافعي [ رحمه الله ]{[7176]} على أنه لا يصح البيع إلا بالقبول ؛ لأنه يدل على التراضي نَصا ، بخلاف المعاطاة فإنها قد لا تدل على الرضا ولا بد ، وخالف{[7177]} الجمهورَ في ذلك مالك وأبو حنيفة وأحمد وأصحابهم ، فرأوا أن الأقوال كما تدل على التراضي ، وكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعا ، فصححوا بيع المعاطاة مطلقا ، ومنهم من قال : يصح في المحقَّرات ، وفيما يعده الناس بيعا ، وهو احتياط نظر من محققي المذهب ، والله أعلم .
قال مجاهد : { إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } بيعا{[7178]} أو عطاء يعطيه أحد أحدًا . ورواه ابن جرير [ ثم ]{[7179]} قال :
وحدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن القاسم ، عن{[7180]} سليمان الجُعْفي ، عن أبيه ، عن ميمون بن مهران قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البَيْعُ عن تَراض والخِيارُ بعد الصَّفقة ولا يحل لمسلم أن يغش{[7181]} مسلمًا " . هذا حديث مرسل{[7182]} .
ومن تمام التراضي إثبات خيار المجلس ، كما ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " البيعان بالخيار ما لم يَتَفَرقا " وفي لفظ البخاري : " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا " {[7183]} .
وذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث الشافعي ، وأحمد [ بن حنبل ]{[7184]} وأصحابهما ، وجمهورُ السلف والخلف . ومن ذلك مشروعية خيار الشرط بعد العقد إلى ثلاثة أيام ، [ كما هو متفق عليه بين العلماء إلى ما هو أزيد من ثلاثة أيام ]{[7185]} بحسب ما يتبين فيه مال البيع ، ولو إلى سنة في القرية ونحوها ، كما هو المشهور عن مالك ، رحمه الله . وصححوا{[7186]} بيع المعاطاة مطلقا ، وهو قول في مذهب الشافعي ، ومنهم من قال : يصح بيع المعاطاة في المحقرات فيما يعده الناس بيعا ، وهو اختيار طائفة من الأصحاب .
وقوله : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } أي : بارتكاب محارم الله وتعاطي معاصيه وأكل أموالكم بينكم بالباطل { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } أي : فيما أمركم به ، ونهاكم عنه .
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن{[7187]} بن موسى ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا يزيد بن أبي حبيب ، عن عمْران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جُبَير ، عن عمرو بن العاص ، رضي الله عنه ، أنه قال لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل قال : احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح ، قال : فلما قدمتُ على رسول الله صلى عليه وسلم ذكرت ذلك له ، فقال : " يا عمرو صَلَّيت بأصحابك وأنت جُنُبٌ ! " قال : قلت يا رسول الله{[7188]} إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد ، فأشفقت إن اغتسلت{[7189]} أن أهلكَ ، فذكرت{[7190]} قول الله [ عز وجل ]{[7191]} { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } فتيممت ثم صليت . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا .
وهكذا رواه أبو داود من حديث يحيى بن أيوب ، عن يزيد بن أبي حبيب ، به . ورواه أيضا عن محمد بن أبي سلمة ، عن ابن وهب ، عن ابن لهيعة وعمر بن الحارث ، كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جبير المصري ، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص ، عنه ، فذكر نحوه . وهذا ، والله أعلم ، أشبه بالصواب{[7192]} .
وقال أبو بكر بن مَرْدُوَيه : حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد البَلْخِي ، حدثنا محمد بن صالح بن سهل البلخي ، حدثنا عُبَيد{[7193]} عبد الله بن عمر القواريري ، حدثنا يوسف بن خالد ، حدثنا زياد بن سعد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن عمرو بن العاص صلى بالناس وهو جُنُب ، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له ، فدعاه فسأله عن ذلك ، فقال : يا رسول الله ، خفْتُ أن يقتلني البرد ، وقد قال الله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ] }{[7194]} قال : فسكت عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم{[7195]} .
ثم أورد ابن مَرْدُويه عند هذه الآية الكريمة من حديث الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَتَل نَفْسَه بِحَدِيدَةٍ فحديدته في يَدِهِ ، يَجَأ بها بَطْنه يوم القيامة في نار جَهَنَّمَ خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن قتل نفسه بسم ، فسمه في يده ، يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن تردى من جبل فقتل نفسه ، فهو مُتَرد{[7196]} في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا " .
وهذا الحديث{[7197]} ثابت في الصحيحين{[7198]} وكذلك رواه أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ، وعن أبي قِلابة ، عن ثابت بن الضحاك ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قتل نَفْسَه بشيء عُذِّبَ به يوم القيامة " . وقد أخرجه الجماعَةُ في كُتُبهم من طريق أبي قلابة{[7199]} وفي الصحيحين من حديث الحسن ، عن{[7200]} جُنْدب بن عبد الله البَجَلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان رَجُلٌ ممن{[7201]} كان قبلكم وكان به جُرْح ، فأخذ سكينًا نَحَر بهَا يَدَهُ ، فما رَقأ الدَّمُ حتى ماتَ ، قال الله عز وجل : عَبْدِي بادرنِي بِنَفْسه ، حرَّمت{[7202]} عليه الْجَنَّة " {[7203]} . ولهذا قال الله تعالى : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا }
هذا استثناء ليس من الأول ، والمعنى : لكن إن كانت تجارة فكلوها{[3968]} .
وقرأ المدنيون وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو : «تجارةٌ » بالرفع على تمام «كان » وأنها بمعنى : وقع ، وقرأت فرقة ، هي الكوفيون حمزة وعاصم والكسائي : «تجارةً » بالنصب على نقصان «كان » ، وهو اختيار أبي عبيد .
قال القاضي أبو محمد : وهما قولان قويان ، إلا أن تمام «كان » يترجح عند بعض ، لأنها صلة «أن » فهي محطوطة عن درجتها إذا كانت سليمة من صلة وغيرها ، وهذا ترجيح ليس بالقوي ولكنه حسن ، و { أن } في موضع نصب ، ومن نصب «تجارة » جعل اسم كان مضمراً ، تقديره الأموال أموال تجارة ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، أو يكون التقدير : إلا أن تكون التجارة تجارة ، ومثل ذلك قول الشاعر : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** إذا كان يوماً ذا كواكبَ أشنعا{[3969]}
أي : إذا كان اليوم يوماً ، والاستثناء منقطع في كل تقدير وفي قراءة الرفع . فأكل الأموال بالتجارة جائز بإجماع الأمّة ، والجمهور على جواز الغبن في التجارة ، مثال ذلك : أن يبيع الرجل ياقوتة بدرهم وهي تساوي مائة ، فذلك جائز ، ويعضده حديث النبي صلى الله عليه وسلم «لا يبع حاضر لبادٍ »{[3970]} لأنه إنما أراد بذلك أن يبيع البادي باجتهاده ، ولا يمنع الحاضر الحاضر من رزق الله في غبنه ، وقالت فرقة : الغبن إذا تجاوز الثلث مردود ، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات ، وأما المتفاحش الفادح فلا ، وقاله ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله . و { عن تراض } معناه عن رضا ، إلا أنها جاءت من المفاعلة ، إذ التجارة من اثنين ، واختلف أهل العلم في التراضي ، فقالت طائفة : تمامه وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقدة البيع ، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه : اختر فيقول : قد اخترت ، وذلك بعد العقدة أيضاً ، فينجزم حينئذ ، هذا هو قول الشافعي وجماعة من الصحابة ، وحجته حديث النبي صلى الله عليه وسلم «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار »{[3971]} وهو حديث ابن عمر وأبي برزة ، ورأيهما - وهما الراويان - أنه افتراق الأبدان .
قال القاضي أبو محمد : والتفرق لا يكون حقيقة إلا بالأبدان ، لأنه من صفات الجواهر ، وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله : تمام التراضي أن يعقد البيع بالألسنة فتنجزم العقدة بذلك ويرتفع الخيار ، وقالا في الحديث المتقدم : إنه التفرق بالقول ، واحتج بعضهم بقوله تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلاًّ من سعته }{[3972]} فهذه فرقة بالقول لأنها بالطلاق ، قال من احتج للشافعي : بل هي فرقة بالأبدان ، بدليل تثنية الضمير ، والطلاق لا حظّ للمرأة فيه ، وإنما حظها في فرقة البدن التي هي ثمرة الطلاق ، قال الشافعي : ولو كان معنى قوله : يتفرقا بالقول الذي هو العقد لبطلت الفائدة في قوله : البيعان بالخيار ، لأنه لا يشك في أن كل ذي سلعة مخير ما لم يعقد ، فجاء الإخبار لا طائل فيه ، قال من احتجّ لمالك : إنما القصد في الحديث الإخبار عن وجوب ثبوت العقد ، فجاء قوله : البيعان بالخيار توطئة لذلك ، وإن كانت التوطئة معلومة ، فإنها تهيىء النفس لاستشعار ثبوت العقد ولزومها ، واستدل الشافعي بقوله عليه السلام :
«لا يسم الرجل على سوم أخيه ، ولا بيع الرجل على بيع أخيه »{[3973]} فجعلها مرتبتين لأن حالة البيعين بعد العقد قبل التفرق تقتضي أن يفسد مفسد بزيادة في السلعة فيختارربها حل الصفقة الأولى ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك الإفساد ، ألا ترى أنه عليه السلام قال : «لا يخطب الرجل على خطبة أخيه »{[3974]} فهي في درجة ؛ لا يسم ، ولم يقل : لا ينكح على نكاح أخيه لأنه لا درجة بعد عقد النكاح تقتضي تخييراً بإجماع من الأمة ، قال من يحتج لمالك رحمه الله : قوله عليه السلام : لا يسم ولا يبع ، هي درجة واحدة كلها قبل العقد ، وقال : لا بيع تجوزاً في لا يسم ، إذ مآله إلى البيع ، فهي جميعاً بمنزلة قوله : لا يخطب ، والعقد جازم فيهما جميعاً .
قال القاضي أبو محمد : وقوله في الحديث «إلا بيع الخيار » معناه عند المالكين : المتساومان بالخيار ما لم يعقدا ، فإذا عقدا بطل الخيار إلا في بيع الخيار الذي عقد من أوله على خيار مدة ما ، فإنه لا يبطل الخيار فيه ، ومعناه عند الشافعيين : المتبايعان بعد عقدهما مخيران ما داما في مجلسهما ، إلا بيعاً يقول فيه أحدهما لصاحبه اختر فيختار ، فإن الخيار ينقطع بينهما وإن لم يتفرقا ، فإن فرض بيع خيار فالمعنى إلا بيع الخيار فإنه يبقي الخيار بعد التفرق بالأبدان ، وقوله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } قرأ الحسن «ولا تقتّلوا » على التكثير ، فأجمع المتأولون أن المقصد بهذه الآية النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضها ، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل ، أو بأن يحملها على غرر ربما مات منه ، فهذا كله يتناوله النهي ، وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد خوفاً على نفسه منه ، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجاجه{[3975]} .