قال اللّه ردا لاقتراحهم : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } أي : أهم الخزان لرحمة اللّه ، وبيدهم تدبيرها ، فيعطون النبوة والرسالة من يشاءون ، ويمنعونها ممن يشاءون ؟
{ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } أي : في الحياة الدنيا ، والحال أن رَحْمَةَ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من الدنيا .
فإذا كانت معايش العباد وأرزاقهم الدنيوية بيد اللّه تعالى ، وهو الذي يقسمها بين عباده ، فيبسط الرزق على من يشاء ، ويضيقه على من يشاء ، بحسب حكمته ، فرحمته الدينية ، التي أعلاها النبوة والرسالة ، أولى وأحرى أن تكون بيد اللّه تعالى ، فاللّه أعلم حيث يجعل رسالته .
فعلم أن اقتراحهم ساقط لاغ ، وأن التدبير للأمور كلها ، دينيها ودنيويها ، بيد اللّه وحده . هذا إقناع لهم ، من جهة غلطهم في الاقتراح ، الذي ليس في أيديهم منه شيء ، إن هو إلا ظلم منهم ورد للحق .
وقولهم : { لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } لو عرفوا حقائق الرجال ، والصفات التي بها يعرف علو قدر الرجل ، وعظم منزلته عند اللّه وعند خلقه ، لعلموا أن محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب صلى اللّه عليه وسلم ، هو أعظم الرجال قدرا ، وأعلاهم فخرا ، وأكملهم عقلا ، وأغزرهم علما ، وأجلهم رأيا وعزما وحزما ، وأ كملهم خلقا ، وأوسعهم رحمة ، وأشدهم شفقة ، وأهداهم وأتقاهم .
وهو قطب دائرة الكمال ، وإليه المنتهى في أوصاف الرجال ، ألا وهو رجل العالم على الإطلاق ، يعرف ذلك أولياؤه وأعداؤه ، فكيف يفضل عليه المشركون من لم يشم مثقال ذرة من كماله ؟ ! ، ومن جرمه ومنتهى حمقه أن جعل إلهه الذي يعبده ويدعوه ويتقرب إليه صنما ، أو شجرا ، أو حجرا ، لا يضر ولا ينفع ، ولا يعطي ولا يمنع ، وهو كل على مولاه ، يحتاج لمن يقوم بمصالحه ، فهل هذا إلا من فعل السفهاء والمجانين ؟
فكيف يجعل مثل هذا عظيما ؟ أم كيف يفضل على خاتم الرسل وسيد ولد آدم صلى اللّه عليه وسلم ؟ ولكن الذين كفروا لا يعقلون .
وفي هذه الآية تنبيه على حكمة اللّه تعالى في تفضيل اللّه بعض العباد على بعض في الدنيا { لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا } أي : ليسخر بعضهم بعضا ، في الأعمال والحرف والصنائع .
فلو تساوى الناس في الغنى ، ولم يحتج بعضهم إلى بعض ، لتعطلت كثير من مصالحهم ومنافعهم .
وفيها دليل على أن نعمته الدينية خير من النعمة الدنيوية كما قال تعالى في الآية الأخرى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ }
قال الله تعالى رادا عليهم في هذا الاعتراض : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } ؟ أي : ليس الأمر مردودا إليهم ، بل إلى الله ، عز وجل ، والله أعلم حيث يجعل رسالاته ، فإنه لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلبا ونفسا ، وأشرفهم بيتا وأطهرهم أصلا .
ثم قال تعالى مبينا أنه قد فاوت بين خلقه فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق والعقول والفهوم ، وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة ، فقال : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ }
وقوله : { لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا } قيل : معناه ليسخر{[26027]} بعضهم بعضا في الأعمال ، لاحتياج هذا إلى هذا ، وهذا إلى هذا ، قاله السدي وغيره .
وقال قتادة والضحاك : ليملك بعضهم بعضا . وهو{[26028]} راجع إلى الأول .
ثم قال : { وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } أي : رحمة الله بخلقه خير لهم مما بأيديهم من الأموال ومتاع الحياة الدنيا .
ثم وقف تعالى –على جهة التوبيخ لهم- بقوله : ( أهم يقسمون رحمة ربك ) ، المعنى : أعلى اختيارهم وإرادتهم تنقسم الفضائل والمكانة عند الله تعالى ؟ و " الرَّحمةُ " اسم يعُمُّ جميع هذا ، ثم أخبر تعالى خبرا جازما بأنه تعالى قاسم المعايش والدرجات في الدنيا ليسخر بعض الناس بعضا ، المعنى : فإذا كان اهتمامنا بهم أن نقسم هذا الحقير الفاني فالأحرى أن نقسم الأهمّ الخطير ، وفي قوله تعالى : ( نحن قسمنا بينهم معيشتهم ) تزهيد في السعايات ، وعون على التوكل على الله تعالى ، ولله درّ القائل :
لمّا أتى " نحن قسمنا بينهم " زار المِرا( {[10199]} )
وقرأ الجمهور : [ مَعِشَتَهُمْ ] ، وقرأ ابن مسعود ، والأعمش : [ مَعَايِشَهُمْ ] . وقرأ جمهور الناس : [ سُخْرِيّاً ] بضم السين ، وقرأ أبو رجاء ، وابن محيصن : [ سِخْرِيّاً ] بكسر السين ، وهما لغتان في معنى التسخير ، ولا مدخل لمعنى الهُزْءِ في هذه الآية .
وقوله تعالى : ( ورحمتُ ربّك خير مما يجمعون ) ، قال قتادة ، والسدي يعني الجنة .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
لاشك أن الجنة هي الغاية ، ورحمة الله تبارك وتعالى في الدنيا بالهداية والإيمان خير من كل مال ، وهذا اللفظ تحقير للدنيا ،
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.