تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ٱلنَّارُ يُعۡرَضُونَ عَلَيۡهَا غُدُوّٗا وَعَشِيّٗاۚ وَيَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدۡخِلُوٓاْ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ أَشَدَّ ٱلۡعَذَابِ} (46)

وفي البرزخ { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } فهذه العقوبات الشنيعة ، التي تحل بالمكذبين لرسل الله ، المعاندين لأمره .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱلنَّارُ يُعۡرَضُونَ عَلَيۡهَا غُدُوّٗا وَعَشِيّٗاۚ وَيَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدۡخِلُوٓاْ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ أَشَدَّ ٱلۡعَذَابِ} (46)

45

وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور ، وهي قوله : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا } .

ولكن هاهنا سؤال ، وهو أنه لا شك أن هذه الآية مكية ، وقد استدلوا بها على عذاب القبر في البرزخ ، وقد قال الإمام أحمد :

حدثنا هاشم - هو ابن القاسم أبو النضر - حدثنا إسحاق بن سعيد {[25515]} - هو ابن عمرو بن سعيد بن العاص - حدثنا سعيد - يعني أباه - عن عائشة ؛ أن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة إليها شيئا من المعروف إلا قالت لها اليهودية : وقاك الله عذاب القبر . قالت : فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ فقلت : يا رسول الله ، هل للقبر عذاب قبل يوم القيامة ؟ قال : " لا وعم ذلك ؟ " قالت : هذه اليهودية ، لا نصنع إليها شيئا من المعروف إلا قالت : وقاك الله عذاب القبر . قال : " كذبت يهود{[25516]} . وهم على الله أكذب ، لا عذاب دون يوم القيامة " . ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث ، فخرج ذات يوم نصف النهار مشتملا بثوبه ، محمرة عيناه ، وهو ينادي بأعلى صوته : " القبر كقطع الليل المظلم أيها الناس ، لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا وضحكتم قليلا . أيها الناس ، استعيذوا بالله من عذاب القبر ، فإن عذاب القبر حق " {[25517]} .

وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ، ولم يخرجاه .

وروى أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة - قال : سألتها امرأة يهودية فأعطتها ، فقالت لها : أعاذك الله من عذاب القبر . فأنكرت عائشة ذلك ، فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت له ، فقال : " لا " . قالت عائشة : ثم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك : " وإنه أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم " .

وهذا أيضا على شرطهما{[25518]} .

فيقال : فما الجمع بين هذا وبين كون الآية مكية ، وفيها الدليل على عذاب البرزخ ؟ والجواب : أن الآية دلت على عرض الأرواح إلى النار غدوا وعشيا في البرزخ ، وليس فيها دلالة على اتصال تألمها بأجسادها في القبور ، إذ قد يكون ذلك مختصا بالروح ، فأما حصول ذلك للجسد وتألمه بسببه ، فلم يدل عليه إلا السنة في الأحاديث المرضية الآتي ذكرها .

وقد يقال إن هذه الآية إنما دلت على عذاب الكفار في البرزخ ، ولا يلزم من ذلك أن يعذب المؤمن في قبره بذنب ، ومما يدل على هذا ما رواه الإمام أحمد :

حدثنا عثمان بن عمر ، حدثنا يونس ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة من اليهود ، وهي تقول : أشعرت أنكم تفتنون في قبوركم ؟ فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " إنما يفتن يهود " قالت عائشة : فلبثنا ليالي ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أشعرت أنه أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور ؟ " وقالت عائشة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يستعيذ من عذاب القبر .

وهكذا رواه مسلم ، عن هارون بن سعيد وحرملة ، كلاهما عن ابن وهب ، عن يونس بن يزيد الأيلي ، عن الزهري ، به{[25519]} .

وقد يقال : إن هذه الآية دلت على عذاب الأرواح في البرزخ ، ولا يلزم من ذلك أن يتصل بالأجساد في قبورها ، فلما أوحي إليه في ذلك بخصوصيّته استعاذ منه ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

وقد روى البخاري من حديث شعبة ، عن أشعث بن أبي الشعثاء ، عن أبيه ، عن مسروق ، عن عائشة{[25520]} ، رضي الله عنها ، أن يهودية دخلت عليها فقالت : أعاذك الله من عذاب القبر{[25521]} . فسألت عائشة {[25522]} رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر ؟ فقال : " نعم عذاب القبر حق " . قالت عائشة : فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدُ صلى صلاة إلا تعوّذ من عذاب القبر {[25523]} .

فهذا يدل على أنه بادر إلى تصديق اليهودية في هذا الخبر ، وقرر عليه . وفي الأخبار المتقدمة : أنه أنكر ذلك حتى جاءه الوحي ، فلعلهما قضيتان ، والله أعلم ، وأحاديث عذاب القبر كثيرة جدا .

وقال قتادة في قوله : { غُدُوًّا وَعَشِيًّا } صباحا ومساء ، ما بقيت الدنيا ، يقال لهم : يا آل فرعون ، هذه منازلكم ، توبيخا ونقمة وصَغَارا لهم .

وقال ابن زيد : هم فيها اليوم يُغدَى بهم ويراح إلى أن تقوم الساعة .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا المحاربي ، حدثنا ليث ، عن عبد الرحمن بن ثروان ، عن هذيل ، عن عبد الله بن مسعود{[25524]} ، رضي الله عنه ، قال : إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تسرح بهم في الجنة حيث شاءوا ، وإن أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير تسرح في الجنة حيث شاءت ، فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش ، وإن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح عليها ، فذلك عرضها .

وقد رواه الثوري عن أبي قيس عن الهُزَيل ابن شرحبيل ، من كلامه في أرواح آل فرعون . وكذلك قال السدي .

وفي حديث الإسراء من رواية أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه : " ثم انطلق بي إلى خلق كثير من خلق الله ، رجالٌ كلُّ رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم ، مصفدون على سابلة آل فرعون ، وآل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا . { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } وآل فرعون كالإبل المسومة{[25525]} يخبطون الحجارة والشجر ولا يعقلون " {[25526]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا زيد بن أخْرَم ، حدثنا عامر بن مُدْرِك الحارثي ، حدثنا عتبة - يعني ابن يقظان - عن قيس بن مسلم ، عن طارق ، عن {[25527]} شهاب ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما أحسن محسن من مسلم أو كافر إلا أثابه الله " . قال : قلنا : يا رسول الله ما إثابة الكافر ؟ فقال : " إن كان قد وصل رحما أو تصدق بصدقة أو عمل حسنة ، أثابه الله المال والولد والصحة وأشباه ذلك " . قلنا : فما إثابته في الآخرة ؟ قال : " عذابا دون العذاب " وقرأ : { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } ورواه البزار في مسنده ، عن زيد بن أخْرَم ، ثم قال : لا نعلم له إسنادًا غير هذا {[25528]} .

وقال ابن جرير : حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير ، حدثنا حماد بن محمد الفزاري البلخي قال : سمعت{[25529]} الأوزاعي وسأله رجل فقال : رحمك الله . رأينا طيورًا تخرج من البحر ، تأخذ ناحية الغرب بيضا ، فوجا فوجا ، لا يعلم عددها إلا الله ، عز وجل ، فإذا كان العشي رجع مثلها سودا . قال : وفطنتم إلى ذلك ؟ قال : نعم . قال : إن تلك{[25530]} الطير في حواصلها أرواح آل فرعون ، تعرض على النار غدوا وعشيا ، فترجع إلى وكورها وقد احترقت ريَاشُها وصارت سودا ، فينبت عليها من الليل ريش أبيض ، ويتناثر السود ، ثم تغدو على النار غدوا وعشيا ، ثم ترجع إلى وكورها . فذلك دأبهم في الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى : { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } قال : وكانوا

يقولون إنهم ستمائة ألف مقاتل {[25531]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق ، أخبرنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر{[25532]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار . فيقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله ، عز وجل ، إلى يوم القيامة " .

أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك ، به {[25533]} .


[25515]:- (2) في أ: "سعد".
[25516]:- (3) في أ: "يهودية".
[25517]:- (4) المسند (6/81).
[25518]:- (1) المسند (6/238).
[25519]:- (2) المسند (6/248) وصحيح مسلم برقم (584).
[25520]:- (3) في ت: "وقد روى البخاري بإسناده من عائشة".
[25521]:- (4) في ت: "القبور" وفي أ: "وقاك الله من عذاب القبر".
[25522]:- (5) في ت: "عائشة رضي الله عنها".
[25523]:- (6) صحيح البخاري برقم (1372).
[25524]:- (1) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن ابن مسعود".
[25525]:- (2) في س: "المنسومة".
[25526]:- (3) انظر تخريج هذا الحديث عند تفسير الآية الأولى من سورة الإسراء.
[25527]:- (4) في س: "ابن".
[25528]:- (5) مسند البزار برقم (945) "كشف الأستار" ورواه الحاكم في المستدرك (2/253) من طريق علي بن الحسين به، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وتعقبه الذهب. قلت: فيه عتبة بن يقظان وهو واه.
[25529]:- (6) في ت: "وروى ابن جرير بإسناده إلي".
[25530]:- (7) في ت: "ذلك".
[25531]:- (1) تفسير الطبري (24/46).
[25532]:- (2) في أ: "ابن عمر رضي الله عنهما".
[25533]:- (3) المسند (2/113) وصحيح البخاري برقم (1379) وصحيح مسلم برقم (2866).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ٱلنَّارُ يُعۡرَضُونَ عَلَيۡهَا غُدُوّٗا وَعَشِيّٗاۚ وَيَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدۡخِلُوٓاْ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ أَشَدَّ ٱلۡعَذَابِ} (46)

{ النار يعرضون عليها غدوا وعشيا } جملة مستأنفة أو { النار } خبر محذوف و { يعرضون } استئناف للبيان ، أو بدل و { يعرضون } حال منها ، أو من الآل وقرئت منصوبة على الاختصاص أو بإضمار فعل يفسره { يعرضون } مثل يصلون ، فإن عرضهم على النار إحراقهم بها من قولهم : عرض الأسارى على السيف إذا قتلوا به ، وذلك لأرواحهم كما روى ابن مسعود أن أرواحهم في أجواف طيور سود تعرض على النار بكرة وعشيا إلى يوم القيامة ، وذكر الوقتين تحتمل التخصيص والتأييد ، وفيه دليل على بقاء النفس وعذاب القبر . { ويوم تقوم الساعة } أي هذا ما دامت الدنيا فإذا قامت الساعة قيل لهم : { أدخلوا آل فرعون } يا آل فرعون . { أشد العذاب } عذاب جهنم فإنه أشد مما كانوا فيه ، أو أشد عذاب جهنم . وقرأ حمزة والكسائي ونافع ويعقوب وحفص { أدخلوا } على أمر الملائكة بإدخالهم النار .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱلنَّارُ يُعۡرَضُونَ عَلَيۡهَا غُدُوّٗا وَعَشِيّٗاۚ وَيَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدۡخِلُوٓاْ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ أَشَدَّ ٱلۡعَذَابِ} (46)

قوله : { النار } رفع على البدل من قوله : { سوء } [ غافر : 45 ] . وقالت فرقة : { النار } رفع بالابتداء وخبره : { يعرضون } . وقالت فرقة : هذا الغدو والشعي هو في الدنيا ، أي في كل غدو وعشي من أيام الدنيا يعرض آل فرعون على النار{[10008]} . وروي في ذلك عن الهزيل بن شرحبيل والسدي : أن أرواحهم في أجواف الطير سود تروح بهم وتغدو إلى النار ، وقاله الأوزاعي حين قال له رجل : إني رأيت طيوراً بيضاً تغدو من البحر ثم ترجع بالعشي سوداً مثلها ، فقال الأوزاعي : تلك هي التي في حواصلها أرواح آل فرعون يحترق رياشها وتسود بالعرض على النار . وقال محمد بن كعب القرظي وغيره : أراد أنهم يعرضون في الآخرة على النار على تقدير ما بين الغدو والعشي ، إذا لا غدو ولا عشي في الآخرة ، وإنما ذلك على التقدير بأيام الدنيا وقوله : { ويوم تقوم الساعة } يحتمل أن يكون { يوم } عطفاً على { عشياً } ، والعامل فيه { يعرضون } ، ويحتمل أن يكون كلاماً مقطوعاً والعامل في : { يوم } { ادخلوا } ، والتقدير : على كل قول يقال ادخلوا .

وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم والأعرج وأبو جعفر وشيبة والأعمش وابن وثاب وطلحة : «أدخلوا » بقطع الألف . وقرأ علي بن أبي طالب وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم والحسن وقتادة : «ادخلوا » بصلة الألف على الأمر ل { آل فرعون } على هذه القراءة منادى مضاف . و : { أشد } نصب على ظرفية .


[10008]:خرج البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه معقده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة).