{ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } أي : مائدة فيها طعام ، وهذا ليس منهم عن شك في قدرة الله ، واستطاعته على ذلك . وإنما ذلك من باب العرض والأدب منهم .
ولما كان سؤال آيات الاقتراح منافيا للانقياد للحق ، وكان هذا الكلام الصادر من الحواريين ربما أوهم ذلك ، وعظهم عيسى عليه السلام فقال : { اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فإن المؤمن يحمله ما معه من الإيمان على ملازمة التقوى ، وأن ينقاد لأمر الله ، ولا يطلب من آيات الاقتراح التي لا يدري ما يكون بعدها شيئا .
هذه قصة المائدة ، وإليها تنسب السورة فيقال : " سورة المائدة " . وهي مما امتن الله به على عبده ورسوله عيسى ، عليه السلام ، لما أجاب دعاءه بنزولها ، فأنزلها الله آية ودلالة معجزة باهرة وحجة قاطعة .
وقد ذكر بعض الأئمة أن قصة المائدة{[10528]} ليست مذكورة في الإنجيل ، ولا يعرفها النصارى إلا من المسلمين ، فالله أعلم .
فقوله تعالى : { إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ } وهم أتباع عيسى{[10529]} عليه السلام : { يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } هذه قراءة كثيرين ، وقرأ آخرون : " هل تَسْتَطيع رَبَّك " أي : هل تستطيع أن تسأل ربك { أَنْ يُنزلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } .
والمائدة هي : الخوان عليه طعام . وذكر بعضهم أنهم إنما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم{[10530]} فسألوا أن ينزل عليهم مائدة كل يوم يقتاتون منها ، ويتقوون بها على العبادة .
قال : { اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : فأجابهم المسيح ، عليه السلام ، قائلا لهم : اتقوا الله ، ولا تسألوا هذا ، فعساه أن يكون فتنة لكم ، وتوكلوا على الله في طلب الرزق إن كنتم مؤمنين .
{ إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم } منصوب بالذكر ، أو ظرف لقالوا فيكون تنبيها على أن ادعاءهم الإخلاص مع قولهم . { هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء } لم يكن بعد عن تحقيق واستحكام معرفة . وقيل هذه الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة لا على ما تقتضيه القدرة . وقيل المعنى هل يطيع ربك أي هل يجيبك ، واستطاع بمعنى أطاع كاستجاب وأجاب . وقرأ الكسائي " تستطيع ربك " أي سؤال ربك ، والمعنى هل تسأله ذلك من غير صارف . والمائدة الخوان إذا كان عليه الطعام ، من مادة الماء يميد إذا تحرك ، أو من مادة إذا أعطاه كأنها تميد من تقدم إليه ونظيرها قولهم شجرة مطعمة . { قال اتقوا الله } من أمثال هذا السؤال . { إن كنتم مؤمنين } بكمال قدرته وصحة نبوته ، أو صدقتم في ادعائكم الإيمان .
وقوله تعالى : { إذ قال الحواريون } . . الآية اعتراض أثناء وصف حال قول الله لعيسى يوم القيامة ، مضمن الاعتراض إخبار محمد عليه السلام وأمته بنازلة الحواريين في المائدة . إذ هي مثال نافع لكل أمة مع نبيها يقتدى بمحاسنه ويزدجر عم ينقد منه من طلب الآيات ونحوه ، وقرأ جمهور الناس «هل يستطيع ربُّك » بالياء ورفع الباء من ربك . وهي قراءة السبعة حاشا الكسائي ، وهذا ليس لأنهم شكوا في قدرة الله على هذا الأمر ، لكنه بمعنى : هل يفعل تعالى هذا وهل تقع منه إجابة إليه ؟ وهذا كما قال لعبد الله بن زيد هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ؟ فالمعنى هل يخف عليك وهل تفعله ؟ أما أن في اللفظة بشاعة بسببها قال عيسى { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } وبسببها مال فريق من الصحابة وغيرهم إلى غير هذه القراءة فقرأ علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير «هل تستطيع ربَّك » بالتاء ونصب الباء من ربك . المعنى هل تستطيع أن تسأل ربك ؟ قالت عائشة رضي الله عنها : كان الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا هل يستطيع ربك{[4795]} .
قال القاضي ابو محمد : نزهتهم عائشة عن بشاعة اللفظ وإلا فليس يلزمهم منه جهل بالله تعالى على ما قد تبين آنفاً . وبمثل هذه القراءة قرأ الكسائي وزاد أنه أدغم اللام في التاء . قال أبو علي : وذلك حسن ، و { أن } في قوله { أن ينزل } على هذه القراءة متعلقة بالمصدر المحذوف الذي هو سؤال . و { أن } مفعول به إذ هو في حكم المذكور في اللفظ وإن كان محذوفاً منه إذ لا يتم المعنى إلا به .
قال القاضي أبو محمد : وقد يمكن أن يستغنى عن تقدير سؤال على أن يكون المعنى هل يستطيع أن يكون المعنى هل يستطيع أن ينزل ربك بدعائك أو بأثرتك عنده ونحوه هذا ، فيردك المعنى ولا بد إلى مقدر يدل عليه ما ذكر من اللفظ ، و «المائدة » فاعلة من ماد إذا تحرك ، هذا قول الزجّاج أو من ماد إذا ماد وأطعم كما قال رؤبة :
تهدى رؤوس المترفين الأنداد *** إلى أمير المؤمنين الممتاد{[4796]}
أي الذي يستطعم ويمتاد منه ، وقول عيسى عليه السلام { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } تقرير لهم كما تقول افعل كذا وكذا إن كنت رجلاً ، ولا خلاف أحفظه في أن الحواريين كانوا مؤمنين ، وهذا هو ظاهر الآية ، وقال قوم قال الحواريون هذه المقالة في صدر الأمر قبل علمهم بأنه يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى ويظهر من قوله عليه السلام { اتقوا الله } إنكار لقولهم ذلك ، وذلك على قراءة من قرأ «يستطيع » بالياء من أسفل متوجه على أمرين : أحدهما : بشاعة اللفظ ، والآخر إنكار طلب الآيات والتعرض إلى سخط الله بها والنبوات ليست مبنية على أن تتعنت ، وأما على القراءة الأخرى فلم ينكر عليهم إلا الاقتراح وقلة طمأنينتهم إلى ما قد ظهر من آياته .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.