ومن ذلك أن اللّه أوحى إلى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ بالعون والنصر والتأييد ، فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا أي : ألقوا في قلوبهم ، وألهموهم الجراءة على عدوهم ، ورغبوهم في الجهاد وفضله .
سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ الذي هو أعظم جند لكم عليهم ، فإن اللّه إذا ثبت المؤمنين وألقى الرعب في قلوب الكافرين ، لم يقدر الكافرون على الثبات لهم ومنحهم اللّه أكتافهم .
فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ أي : على الرقاب وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ أي : مفصل .
وهذا خطاب ، إما للملائكة الذين أوحى الله إليهم أن يثبتوا الذين آمنوا فيكون في ذلك دليل أنهم باشروا القتال يوم بدر ، أو للمؤمنين يشجعهم اللّه ، ويعلمهم كيف يقتلون المشركين ، وأنهم لا يرحمونهم
وقوله : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } وهذه نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم ، ليشكروه عليها ، وهو{[12738]} أنه - تعالى وتقدس وتبارك وتمجد - أوحى إلى الملائكة الذين أنزلهم لنصر نبيه ودينه وحزبه المؤمنين ، يوحي إليهم فيما بينه وبينهم أن يثبتوا الذين آمنوا .
قال ابن إسحاق : وازروهم . وقال غيره : قاتلوا معهم . وقيل : كثروا سوادهم . وقيل : كان ذلك بأن الملك كان يأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول : سمعت هؤلاء القوم - يعني المشركين - يقولون : " والله لئن حملوا علينا لننكشفن " ، فيحدث المسلمون بعضهم بعضا بذلك ، فتقوى أنفسهم{[12739]} حكاه ابن جرير ، وهذا لفظه بحروفه .
وقوله : { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ } أي : ثبتوا أنتم المسلمين{[12740]} وقووا أنفسهم على أعدائهم ، عن أمري لكم بذلك ، سألقي الرعب والمذلة والصغار على من خالف أمري ، وكذب رسولي{[12741]} { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } أي : اضربوا الهام ففلقوها ، واحتزوا الرقاب فقطعوها ، وقطعوا الأطراف منهم ، وهي أيديهم وأرجلهم .
وقد اختلف المفسرون في معنى : { فَوْقَ الأعْنَاقِ } فقيل : معناه اضربوا الرؤوس . قاله عكرمة .
وقيل : معناه : { فَوْقَ الأعْنَاقِ } أي : على الأعناق ، وهي الرقاب . قاله الضحاك ، وعطية العوفي .
ويشهد لهذا المعنى أن الله تعالى أرشد المؤمنين إلى هذا في قوله تعالى : { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } [ محمد : 4 ] .
وقال وكيع ، عن المسعودي ، عن القاسم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله ، إنما بعثت بضرب الرقاب وشد الوثاق " {[12742]}
واختار ابن جرير أنها قد تدل على ضرب الرقاب وفلق الهام .
قلت : وفي مغازي " الأموي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمر بين القتلى يوم بدر فيقول :
فيقول أبو بكر : من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعق وأظلما{[12743]}
فيبتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأول البيت ، ويستطعم أبا بكر ، رضي الله عنه ، إنشاد آخره ؛ لأنه كان لا يحسن إنشاد الشعر ، كما قال تعالى : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } [ يس : 69 ] .
وقال الربيع بن أنس : كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوا هم بضرب فوق الأعناق ، وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به .
وقوله : { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } قال ابن جرير : معناه : واضربوه أيها المؤمنون من عدوكم كل طرف ومَفْصِل من أطراف أيديهم وأرجلهم . و " البنان " : جمع بنانة ، كما قال الشاعر{[12744]} :
أَلا لَيْتَنِي قَطَّعْتُ مِنْهُ بَنَانَةً *** وَلاقَيْتُهُ فِي الْبَيْتِ يَقْظَانَ حَاذِرَا
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } يعني بالبنان : الأطراف . وكذا قال الضحاك وابن جريج .
وقال السدي : البنان : الأطراف ، ويقال : كل مَفْصِل .
وقال عكرمة ، وعطية العوفي والضحاك - في رواية أخرى - : كل مفصل .
وقال الأوزاعي في قوله تعالى : { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } قال : اضرب منه الوجه والعين ، وارمه بشهاب من نار ، فإذا أخذته حرم ذلك كله عليك .
وقال العوفي ، عن ابن عباس - فذكر قصة بدر إلى أن قال - : فقال أبو جهل : لا تقتلوهم قتلا ولكن خذوهم أخذا ، حتى تعرفوهم الذي صنعوا من طعنهم في دينكم ، ورغبتهم عن اللات والعزى . فأوحى الله إلى الملائكة : { أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } فقتل أبو جهل لعنه الله ، في تسعة وستين رجلا وأسر عقبة بن أبي مُعَيْط فقتل صبرا ، فوفى ذلك سبعين - يعني : قتيلا .
{ إذ يوحي ربك } بدل ثالث أو متعلق بيثبت . { إلى الملائكة أني معكم } في إعانتهم وتثبيتهم وهو مفعول { يوحي } . وقرئ بالكسر على إرادة القول أو إجراء الوحي مجراه . { فثبّتوا الذين آمنوا } بالبشارة أو بتكثير سوادهم ، أو بمحاربة أعدائهم فيكون قوله : { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } كالتفسير لقوله { إني معكم فثبتوا } ، وفيه دليل على أنهم قاتلوا ومن منع ذلك جعل الخطاب فيه مع المؤمنين إما على تغيير الخطاب أو على أن قوله : { سألقي } إلى قوله : { كل بنان } تلقين للملائكة ما يثبتون المؤمنين به كأنه قال ؛ قولوا لهم قولي هذا . { فاضربوا فوق الأعناق } أعاليها التي هي المذابح أو الرؤوس . { واضربوا منهم كل بنانٍ } أصابع أي جزوا رقابهم واقطعوا أطرافهم .
وقوله تعالى : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة } الآية ، العامل في { إذ } العامل الأول على ما تقدم فيما قبلها ، ولو قدرناه قريباً لكان قوله { ويثبت } على تأويل عود الضمير على الربط ، وأما على عوده على الماء فيقلق أن تعمل { ويثبت } في { إذ }{[5246]} ووحي الله إلى الملائكة إما بإلهام أو بإرسال بعض إلى بعض ، وقرأ عيسى بن عمر بخلاف عنه «إني معكم » بكسر الألف على استئناف إيجاب القصة ، وقرأ جمهور الناس «أني » بفتح الألف على أنها معمولة ل { يوحي } ، ووجه الكسر أن الوحي في معنى القول ، وقوله { فثبتوا } يحتمل أن يكون بالقتال معهم على ما روي .
ويحتمل بالحضور في حيزهم والتأنيس لهم بذلك ، ويحتمل أن يريد : فثبوتهم بأقوال مؤنسة مقوية للقلب ، وروي في ذلك أن بعض الملائكة كان في صورة الآدميين فكان أحدهم يقول للذي يليه من المؤمنين : لقد بلغني أن الكفار قالوا لئن حمل المسلمون علينا لننكشفن ، ويقول آخر : ما أرى الغلبة والظفر إلا لنا . ويقول آخر : أقدم يا فلان ، ونحو هذا من الأقوال المثبتة .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أيضاً أن يكون التثبيت الذي أمر به ما يلقيه الملك في قلب الإنسان بلمته{[5247]} من توهم الظفر واحتقار الكفار ويجري عليه من خواطر تشجيعه ويقوي هذا التأويل مطابقة قوله تعالى : { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } وإن كان إلقاء الرعب يطابق التثبيت على أي صورة كان التثبيت ولكنه أشبه بهذا إذ هي من جنس واحد .
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا التأويل يجيء قوله { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } مخاطبة للملائكة ، ثم يجيء قوله تعالى : { فاضربوا فوق الأعناق } لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر عن صورة الحال كما تقول إذا وصفت حرباً لمن تخاطبه لقينا القوم وهزمناهم فاضرب بسيفك حيث شئت واقتل وخذ أسيرك ، أي هذه كانت صفة الحال .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون { سألقي } إلى آخر الآية خبراً يخاطب به المؤمنين عما يفعله في الكفار في المستقبل كما فعله في الماضي ، ثم أمرهم بضرب الرقاب والبنان تشجيعاً لهم وحضاً على نصرة الدين ، وقرأ الأعرج «الرعُب » بضم العين والناس على تسكينها ، واختلف الناس في قوله { فوق الأعناق } ، فقال الأخفش { فوق } زيادة ، وحكاه الطبري عن عطية أن المعنى فاضربوا الأعناق{[5248]} وقال غيره بمعنى على ، وقال عكرمة مولى ابن عباس : هي على بابها وأراد الرؤوس إذ هي فوق الأعناق ، وقال المبرد : وفي هذا إباحة ضرب الكافر في الوجه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل أنبلها ، ويحتمل عندي أن يريد بقوله { فوق الأعناق } وصف أبلغ ضربات العنق وأحكمها ، هي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ودون عظم الرأس في المفصل ، وينظر إلى هذا المعنى قول دريد بن الصمة{[5249]} السلمي حين قال له خذ سيفي وارفع به عن العظم واخفض عن الدماغ فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال ، ومثله قول الشاعر : [ الوافر ] .
جعلت السيف بين الجيد منه*** وبين أسيل خديه عذارا{[5250]}
فيجيء على هذا { فوق الأعناق } متمكناً ، وقال ابن قتيبة { فوق } في هذه الآية بمعنى دون ، وهذا خطأ بين ، وإنما دخل عليه اللبس من قوله تعالى : { ما بعوضة فما فوقها }{[5251]} أي فما دونها .
قال القاضي أبو محمد : وليست { فوق } هنا بمعنى دون وإنما المراد فما فوقها في القلة والصغر فأشبه المعنى دون وال { بنان } قالت فرقة : هي المفاصل حيث كان من الأعضاء ، فالمعنى على هذا : واضربوا منهم في كل موضع ، وقالت فرقة : البنان الأصابع ، وهذا هو القول الصحيح{[5252]} ، فعلى هذا التأويل وإن كان الضرب في كل موضع مباحاً فإنما قصد أبلغ المواضع لأن المقاتل إذا قطع بنانه استأسر{[5253]} ولم ينتفع بشيء من أعضائه في مكافحة وقتال .