تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَنَزَعۡنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنۡ غِلّٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي هَدَىٰنَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهۡتَدِيَ لَوۡلَآ أَنۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُۖ لَقَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلۡحَقِّۖ وَنُودُوٓاْ أَن تِلۡكُمُ ٱلۡجَنَّةُ أُورِثۡتُمُوهَا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (43)

{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ْ } وهذا من كرمه وإحسانه على أهل الجنة ، أن الغل الذي كان موجودا في قلوبهم ، والتنافس الذي بينهم ، أن اللّه يقلعه ويزيله حتى يكونوا إخوانا متحابين ، وأخلاء متصافين .

قال تعالى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ْ } ويخلق اللّه لهم من الكرامة ما به يحصل لكل واحد منهم الغبطة والسرور ، ويرى أنه لا فوق ما هو فيه من النعيم نعيم . فبهذا يأمنون من التحاسد والتباغض ، لأنه قد فقدت أسبابه .

وقوله : { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ْ } أي : يفجرونها تفجيرا ، حيث شاءوا ، وأين أرادوا ، إن شاءوا في خلال القصور ، أو في تلك الغرف العاليات ، أو في رياض الجنات ، من تحت تلك الحدائق الزاهرات .

أنهار تجري في غير أخدود ، وخيرات ليس لها حد محدود { و ْ } لهذا لما رأوا ما أنعم اللّه عليهم وأكرمهم به { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا ْ } بأن من علينا وأوحى إلى قلوبنا ، فآمنت به ، وانقادت للأعمال الموصلة إلى هذه الدار ، وحفظ اللّه علينا إيماننا وأعمالنا ، حتى أوصلنا بها إلى هذه الدار ، فنعم الرب الكريم ، الذي ابتدأنا بالنعم ، وأسدى من النعم الظاهرة والباطنة ما لا يحصيه المحصون ، ولا يعده العادون ، { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ْ } أي : ليس في نفوسنا قابلية للهدى ، لولا أنه تعالى منَّ بهدايته واتباع رسله .

{ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ْ } أي : حين كانوا يتمتعون بالنعيم الذي أخبرت به الرسل ، وصار حق يقين لهم بعد أن كان علم يقين [ لهم ] ، قالوا لقد تحققنا ، ورأينا ما وعدتنا به الرسل ، وأن جميع ما جاءوا به حق اليقين ، لا مرية فيه ولا إشكال ، { وَنُودُوا ْ } تهنئة لهم ، وإكراما ، وتحية واحتراما ، { أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا ْ } أي : كنتم الوارثين لها ، وصارت إقطاعا لكم ، إذ كان إقطاع الكفار النار ، أورثتموها { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ْ }

قال بعض السلف : أهل الجنة نجوا من النار بعفو اللّه ، وأدخلوا الجنة برحمة اللّه ، واقتسموا المنازل وورثوها بالأعمال الصالحة وهي من رحمته ، بل من أعلى أنواع رحمته .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَنَزَعۡنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنۡ غِلّٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي هَدَىٰنَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهۡتَدِيَ لَوۡلَآ أَنۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُۖ لَقَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلۡحَقِّۖ وَنُودُوٓاْ أَن تِلۡكُمُ ٱلۡجَنَّةُ أُورِثۡتُمُوهَا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (43)

{ وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ } أي : من حسد وبغضاء ، كما جاء في الصحيح للبخاري ، من حديث قتادة ، عن أبي المتوكِّل الناجي ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا خلص المؤمنون من النار حُبِسوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هُذبوا ونقوا ، أذن لهم في دخول الجنة ؛ فوالذي نفسي بيده ، إن أحدهم بمنزله في الجنة أدلّ منه بمسكنه كان في الدنيا " {[11741]}

وقال السُّدِّي في قوله : { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ } الآية : إن أهل الجنة إذا سبقوا إلى الجنة فبلغوا ، وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان ، فشربوا{[11742]} من إحداهما ، فينزع ما في صدورهم من غل ، فهو " الشراب الطهور " ، واغتسلوا من الأخرى ، فجرت عليهم " نضرة النعيم " فلم يشعثوا ولم يشحبوا بعدها أبدًا .

وقد روى أبو إسحاق ، عن عاصم ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب نحوًا من ذلك{[11743]} كما سيأتي في قوله تعالى : { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا } [ الزمر : 73 ] إن شاء الله ، وبه الثقة وعليه التكلان .

وقال قتادة : قال علي ، رضي الله عنه : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم : { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ } رواه ابن جرير .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن عيينة ، عن إسرائيل قال : سمعت الحسن يقول : قال علي : فينا والله أهل بدر نزلت : { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ }{[11744]}

وروى النسائي وابن مَرْدُويه - واللفظ له - من حديث أبي بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول : لولا أن الله هداني ، فيكون له شكرًا . وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول : لو أن الله هداني فيكون له حسرة " {[11745]}

ولهذا لما أورثوا مقاعد أهل النار من الجنة نودوا : { أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : بسبب أعمالكم نالتكم الرحمة فدخلتم الجنة ، وتبوأتم منازلكم بحسب أعمالكم . وإنما وجب الحمل على هذا لما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " واعلموا أن أحدكم{[11746]} لن يدخله عمله الجنة " . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا ، إلا أن يَتَغَمَّدَنِي الله برحمة منه وفضل " {[11747]} .


[11741]:صحيح البخاري برقم (2440).
[11742]:في م: "فيشربون".
[11743]:في ك، م، أ: "هذا".
[11744]:تفسير عبد الرزاق (1/217).
[11745]:سنن النسائي الكبرى كما في تحفة الأشراف للمزي برقم (12492) ورواه أحمد في مسنده (2/512) والحاكم في المستدرك (2/435) من طريق أبي بكر بن عياش به، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
[11746]:في أ: "أحدا".
[11747]:صحيح البخاري برقم (6463) وصحيح مسلم برقم (2816) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَنَزَعۡنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنۡ غِلّٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي هَدَىٰنَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهۡتَدِيَ لَوۡلَآ أَنۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُۖ لَقَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلۡحَقِّۖ وَنُودُوٓاْ أَن تِلۡكُمُ ٱلۡجَنَّةُ أُورِثۡتُمُوهَا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (43)

{ ونزعنا ما في صدورهم من غل } أي نخرج من قلوبهم أسباب الغل ، أو نطهرها منه حتى لا يكون بينهم إلا التواد . وعن علي كرم الله وجهه : أني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم . { تجري من تحتهم الأنهار } زيادة في لذتهم وسرورهم . { وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا } لما جزاؤه هذا . { وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } لولا هداية الله وتوفيقه ، واللام لتوكيد النفي وجواب لولا محذوف دل عليه ما قبله . وقرأ ابن عامر " ما كنا " بغير واو على إنها مبينة للأولى . { لقد جاءت رسل ربنا بالحق } فاهتدينا بإرشادهم . يقولون ذلك اغتباطا وتبجحا بأن ما علموه يقينا في الدنيا صار لم عين اليقين في الآخرة . { ونودوا أن تلكم الجنة } إذا رأوها من بعيد ، أو بعد دخولها والمنادى له بالذات . { أورثتموها بما كنتم تعملون } أي أعطيتموها بسبب أعمالكم ، وهو حال من الجنة والعامل فيها معنى الإشارة ، أو خبر والجنة صفة تلكم وان في المواقع الخمسة هي المخففة أو المفسرة لان المناداة والتأذين من القول .