تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَنَزَعۡنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنۡ غِلّٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي هَدَىٰنَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهۡتَدِيَ لَوۡلَآ أَنۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُۖ لَقَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلۡحَقِّۖ وَنُودُوٓاْ أَن تِلۡكُمُ ٱلۡجَنَّةُ أُورِثۡتُمُوهَا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (43)

الآية 43 وقوله تعالى : { ونزعنا ما في صدورهم من غلّ } قال القتبيّ : الغلّ والحسد والعداوة ، وقيل : الغلّ والغش واحد ؛ وهو ما يضمر بعضهم لبعض من العداوة والحقد ، وقيل : الغل الحقد .

ثم اختلف فيه : قال بعضهم : قوله تعالى : { ونزعنا ما في صدورهم من غلّ } في الدنيا ينزع الله عز وجل من قلوبهم الغل ؛ يعني قلوب المؤمنين ، ويجعلهم إخوانا بالإيمان كقوله تعالى : { إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا } الآية [ آل عمران : 103 ] ؛ أخبر أنهم كانوا أعداء ، فألّف بين قلوبهم بالإيمان الذي أكرمهم به حتى صاروا إخوانا بعد ما كانوا أعداء .

قال الحسن : ليس في قلوب أهل الجنة الغل والحسد ، إذ هما يهمّان ، ويحزنان ، إنما فيها الحب .

قال بعضهم : هذا في الآخرة ؛ ينزع الله تعالى من قلوبهم الغل الذي كان في ما بينهم في الدنيا ، ويصيرون جميعا إخوانا كقوله تعالى : { ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين } [ الحجر : 47 ] .

وروي عن علي رضي الله عنه [ أنه ]{[8352]} قال : لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى : { ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين } [ الحجر : 47 ] . وعن ابن عباس /174-أ/ رضي الله عنه [ أنه ]{[8353]} قال : نزلت في علي{[8354]} وأبي بكر وعثمان وطلحة والزبير وابن مسعود وعمار وسلمان وأبي ذر ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، سينزع{[8355]} في الآخرة ما كان في قلوبهم من غش بعضهم لبعض في الدنيا من العداوة والقتل الذي كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأمر الذي اختلفوا فيه ، فيدخلون الجنة .

هذا ، والله [ أعلم ]{[8356]} ؛ لأن الذي كان بينهم من الاختلاف والقتال كان دنيويا{[8357]} لم يكن بحق{[8358]} الدين ؛ فذلك يرتفع في الآخرة ، ويزول . وأما العداوة التي هي بيننا وبين الكفرة فهي لا تزول أبدا في الدنيا والآخرة ، لأنها عداوة الدين والمذهب ، ذلك لا يرتفع أبدا .

ويشبه أن يكون قوله تعالى : { ونزعنا } على ابتداء النّزع لا على أن كانوا فيه كقوله تعالى : { يخرجهم من الظلمات إلى النور } [ إلى قوله تعالى ]{[8359]} { من النور على الظلمات } على ابتداء{[8360]}المنع ؛ أي لولا إخراجه إياهم من ذلك لكانوا{[8361]} فيه . فعلى ذلك قوله تعالى : { ونزعنا } أي لم نجعل في قلوبهم الغل رأسا ، ولو تركهم على ما هم عليه لكان فيهم ذلك .

وفيه دلالة أن لله في فعل العباد صنعا ؛ لأن الغش من فعل العباد ، يذمّون على ذلك . ثم أخبر أنه نزع ذلك من قلوبهم ، واستأدى منهم الشكر بذلك بقوله تعالى : { وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا } الآية . وقد ذمّ من طلب الحمد على ما يفعل ، فدلّ طلب الحمد منهم على أن له فيه صنعا ، بذلك طلب منهم الحمد ، والله الموفق .

وقوله تعالى : { تجري من تحتهم الأنهار } ذكر هذا ، والله أعلم ، لما علم عز وجل من طباع الخلق الرغبة في هذه الأنهار الجارية في الدنيا في ما يقع عليها الأبصار ، فرغّبهم في الآخرة بما كانت طباعهم وأنفسهم تميل إلى ذلك في الدنيا ليرغبوا في ما أمر ، وينتهوا عما نهى . وكذلك جميع ما ذكر في القرآن من القصور والخيام والجواري والغلمان والأكواب والأباريق وغير ذلك مما ترغب طباع الخلق في ذلك في الدنيا ، وتميل أنفسهم إلى ذلك . وعد لهم في الآخرة ترغيبا منه لهم في ذلك ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا } قال الحسن وغيره : هدانا دلّنا { وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } .

وأما{[8362]} عندنا [ فهو ليس ]{[8363]} هداية الدلالة والبيان [ لوجوه :

أحدها : أنّ ]{[8364]} الهداية التي أكرمهم الله بها بفضله ولطفه ، هي{[8365]} توفيقه إياهم على الهدى ، إنه خرج مخرج الاعتناء والفضل . ولو كان دلالة وبيانا لكان لا معنى لتلك{[8366]} المنّة والفضل ؛ لأن عليه الدلالة والبيان .

والثاني : لو كان على الدلالة والبيان لكان ذلك على كل أحد على الرسل وغيرهم ، لأن عليهم البيان والدلالة ، فدل أنه ليس على الدلالة والبيان ولكن [ على ]{[8367]} غيره .

والثالث : أنه لا أحد عند نفسه أنه يزيغ ، ويضل ، وقت ما هداه الله ، ووفّقه . وقد يجوز أن يكون ذلك في الدلالة والبيان . دل أنه لم يحتمل ما قال أولئك من الدلالة والبيان ، والله الموفّق .

وقال بعض الناس : إن المعتزلة خالفوا الله مما أخبروا ، وخالفوا الرسل ، عما أخبروا عن الله تعالى ، وخالفوا أهل الجنة والنار ، وخالفوا إبليس .

أما مخالفتهم الله [ فهي ]{[8368]} قوله تعالى : { وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } ونحوه ، ومخالفتهم الرسل [ هي ]{[8369]} قوله تعالى : { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم } الآية [ هود : 34 ] ، [ ومخالفتهم أهل النار بقوله تعالى ]{[8370]} : { قالوا لو هدانا الله لهديناكم } [ إبراهيم : 21 ] [ ومخالفتهم إبليس بقوله تعالى ]{[8371]} : { رب بما أغويتني } [ الحجر : 39 ] هو أعلم بالله من المعتزلة .

وقوله تعالى : { لقد جاءت رسل ربنا بالحق } أي بالدين الذي هو حق ، أو جاؤوا بالأعمال التي من عمل بها كان صوابا ورشدا . وكل حق هو صواب ورشد . ويحتمل : { لقد جاءت رسل ربنا بالحق } أي بالصدق ونحوه .

[ وقوله تعالى ]{[8372]} : { بالحق } له وجهان :

أحدهما : بالحق الذي استحقه على عباده ،

والثاني : أنهم جاءوا بالذي هو حق في العقول وصواب .

وقوله تعالى : { ونودوا أن تلكم الجنة } وقوله : { تلكم } إنما يتكلم عن غائب ، وهم فيها . لكن تأويله ، والله أعلم ، أن تلكم الجنة التي كنتم وعدتم في الدنيا ، وأخبرتم عنها ، هذه { أورثتموها بما كنتم تعملون } وإنما يورث ذلك بالإيمان . وسائر الأعمال إنما تصح بالإيمان ؛ ذكر أنهم أورثوا الجنة بما عملوا ، وإن كانوا ينالونها بفضل الله جزاء وشكرا بقولهم الذي قالوا { وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } .


[8352]:ساقطة من الأصل وم.
[8353]:ساقطة من الأصل وم.
[8354]:أدرج بعدها في الأصل: رضي الله تعالى عنه.
[8355]:في الأصل وم: فينزع.
[8356]:من م، ساقطة من الأصل.
[8357]:في الأصل وم: دنيوية.
[8358]:في الأصل وم: بحيث.
[8359]:ساقطة من الأصل وم.
[8360]:في الأصل وم: الابتداء.
[8361]:في الأصل وم: وإلا كانوا.
[8362]:من م، في الأصل: وما.
[8363]:في الأصل وم: ليس هو.
[8364]:في الأصل وم: ولكن.
[8365]:في الأصل وم: وهو.
[8366]:في الأصل وم: لذلك.
[8367]:ساقطة من الأصل وم.
[8368]:ساقطة من الأصل وم.
[8369]:ساقطة من الأصل وم.
[8370]:في الأصل وم: وقول اهل النار.
[8371]:في الأصل وم: وقول إبليس.
[8372]:ساقطة من الأصل وم.