السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَنَزَعۡنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنۡ غِلّٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي هَدَىٰنَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهۡتَدِيَ لَوۡلَآ أَنۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُۖ لَقَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلۡحَقِّۖ وَنُودُوٓاْ أَن تِلۡكُمُ ٱلۡجَنَّةُ أُورِثۡتُمُوهَا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (43)

وأتبع الوعيد بالوعد على عادته فقال تعالى :

{ ونزعنا ما في صدورهم من غل } أي : غش وعداوة كانت بينهم في الدنيا فمن كان في قلبه على أخيه غل في الدنيا نزع فسلمت قلوبهم وطهرت ولم يكن بينهم إلا التوادد والتعاطف ، وعن عليّ رضي الله عنه : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم .

وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار ليقتص بعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا ) وقال السديّ في هذه الآية : إنّ أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من إحداهما فنزع ما في صدورهم من غل وهو الشراب الطهور واغتسلوا من الآخر فجرت عليهم بنضرة النعيم فلا يشعثوا ولا يشحنوا بعدها أبداً ، وقيل : إنّ درجات الجنة متفاوتة في العلوّ والكمال فبعض أهل الجنة أعلى من بعض فأخرج الله تعالى الغل والحسد من صدورهم وأزاله عنهم ونزعه من قلوبهم فلا يحسد صاحب الدرجة النازلة صاحب الدرجة العالية { تجري من تحتهم الأنهار } أي : من تحت قصورهم زيادة في لذتهم وسرورهم { وقالوا الحمد الذي هدانا لهذا } أي : إن المؤمنين إذا دخلوا الجنة قالوا : الحمد لله الذي وفقنا وأرشدنا للعمل الذي هذا ثوابه وتفضل علينا به رحمة منه وإحساناً وصرف عنا عذاب جهنم بفضله وكرمه فله الحمد على ذلك { وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } أي : لولا هداية الله وتوفيقه ، واللام لتوكيد النفي وجواب لولا محذوف دل عليه قوله تعالى : { وما كنا لنهتدي } وتقديره : لولا هداية الله لنا موجودة لشقينا أو ما كنا مهتدين ، وقرأ ابن عامر بحذف الواو قبل ما والباقون بالواو .

وإذا دخل أهل النعيم الجنة ورأوا ما أعدّ الله تعالى لهم من النعيم قالوا : { لقد جاءت رسل ربنا بالحق } فاهتدينا بإرشادهم يقولون ذلك سروراً واعتباطاً بما نالوا وتلذذوا بالتكلم به وتبجحاً بأنّ ما علموه يقيناً في الدنيا صار لهم عين اليقين في الآخرة ، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الدال والباقون بالإدغام { ونودوا } إذا رأوها من بعيد أو بعد دخولها والمنادي هو الله تعالى أو الملائكة ينادون بأمر الله تعالى { أن تلكم الجنة } التي كانت الرسل وعدتكم بها في الدنيا .

وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادٍ إنّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً وإنّ لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً وإنّ لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً وإنّ لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً ) فذلك قوله تعالى : { ونودوا أن تلكم الجنة } { أورثتموها } أي : أعطيتموها { بما كنتم تعملون } أي : بسبب أعمالكم الصالحة التي عملتموها لأنّ الجنة جعلت جزاء وثواباً لكم على الأعمال الصالحة ولا يعارض هذا ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لن يدخل الجنة أحد بعمله إنما يدخلونها برحمة الله تعالى ) فإنّ الباء في الحديث للعوض وهي الداخلة على الأثمان نحو شريت الفرس بألف فلا تكون الجنة مشتراة له بعمله فيكون عمله ثمناً لها أو إنّ دخول الجنة برحمة الله واقتسام الدرجات بالأعمال أو أنّ العمل الصالح لن يناله المؤمن ولن يبلغه إلا برحمة الله وتوفيقه وإذا كان العمل الصالح بسبب الرحمة كان دخول الجنة في الحقيقة برحمة الله وجعلها الله تعالى ثواباً وجزاء لهم على تلك الأعمال الصالحة التي عملوها في دار الدنيا .

وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار أمّا الكافر فيرث المؤمن منزله من الجنة والمؤمن يرث الكافر منزله من النار ) و( أن ) في المواضع الخمسة التي فيها المناداة والتأذين هي المخففة أو المفسرة لأنّ المناداة والتأذين من القول ، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الثاء عند التاء والباقون بالإدغام .