البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَنَزَعۡنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنۡ غِلّٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي هَدَىٰنَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهۡتَدِيَ لَوۡلَآ أَنۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُۖ لَقَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلۡحَقِّۖ وَنُودُوٓاْ أَن تِلۡكُمُ ٱلۡجَنَّةُ أُورِثۡتُمُوهَا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (43)

{ ونزعنا ما في صدورهم من غلّ تجري من تحتهم الأنهار } أي أذهبنا في الجنة ما انطوت عليه صدورهم من الحقود .

وقيل نزع الغل في الجنة أن لا يحسد بعضهم بعضاً في تفاضل منازلهم ، وقال الحسن : غلّ الجاهلية ، وقال سهل بن عبد الله الأهواء والبدع ، وروي عن عليّ كرم الله وجهه فينا والله أهل بدر نزلت وعنه إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قيل فيهم { ونزعنا } الآية ، والذي يظهر أنّ النزع للغلّ كناية عن خلقهم في الآخرة سالمي القلوب طاهريها متوادّين متعاطفين ، كما قال { إخواناً على سرر متقابلين } و { تجري } حال قاله الحوفي قال : والعامل فيه { نزعنا } ، وقال أبو البقاء : حال والعامل فيها معنى الإضافة وكلا القولين لا يصح لأن { تجري } ليس من صفات الفاعل الذي هو ضمير { نزعنا } ولا صفات المفعول الذي هو { ما في صدورهم } ولأن معنى الإضافة لا يعمل إلا إذا كانت إضافة يمكن للمضاف أن يعمل إذا جرّد من الإضافة رفعاً أو نصباً فيما بعده والظاهر أنه خبر مستأنف عن صفة حالهم .

{ وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا } أي وفّقنا لتحصيل هذا النعيم الذي صرنا إليه بالإيمان والعمل الصالح إذ هو نعمة عظيمة يجب عليهم بها حمده والثناء عليه تعالى ، وقيل : الهداية هنا هو الإرشاد إلى طريق الجنة ومنازلهم فيها وفي الحديث « أنّ أحدهم أهدى إلى منزله في الجنة من منزله في الدنيا » ، وقيل : الإشارة بهذا إلى العمل الصالح الذي هذا جزاؤه ، وقيل إلى الإيمان الذي تأهّلوا به لهذا النعيم المقيم ، وقال الزمخشري : أي وفقنا لموجب هذا الفوز العظيم وهو الإيمان والعمل الصالح انتهى ، وفي لفظه واجب والعمل الصالح دسيسة الاعتزال ، وقال أبو عبد الله الرازي معنى { هدانا } الله أعطانا القدرة وضمّ إليها الدّاعية الجازمة ، وصير مجموعهما لحصول تلك الفضيلة وقالت المعتزلة التّحميد إنما وقع على أنه تعالى خلق العقل ووضع الدلائل وأزال الموانع انتهى ، وفي صحيح مسلم « إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادٍ أنّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً ، وأنّ لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً وأنّ لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبداً وأنّ لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبداً » فلذلك { قالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا } .

{ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } أي وما كانت توجد منا أنفسنا وجدها الهداية لولا أن الله هدانا وهذه الجملة توضح أن الله خالق الهداية فيهم وأنهم لو خلوا وأنفسهم لم تكن منهم هداية ، وقال الزمخشري : وما كان يستقيم أن نكون مهتدين لولا هداية الله تعالى وتوفيقه ، وقال أبو البقاء : و الواو للحال ويجوز أن تكون مستأنفة انتهى ، والثاني : أظهر .

وقرأ ابن عامر { ما كنا } بغير واو وكذا هي في مصاحف أهل الشام وهي على هذا جملة موضحة للأولى ومن أجاز فيها الحال مع الواو ينبغي أن يجيزها دونها ، والذي تقتضيه أصول العربية أنّ جواب { لولا } محذوف لدلالة ما قبله عليه أي { لولا أن هدانا الله } ما كنا لنهتدي أو لضللنا لأنّ { لولا } للتعليق فهي في ذلك كأدوات الشرط على أنّ بعض الناس خرج قوله { لولا أن رأى برهان ربّه } على أنه جواب تقدم وهو قوله { وهم بها } وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى ، وهذا على مذهب جمهور البصريين في منع تقديم جواب الشرط .

{ لقد جاءت رسل ربنا بالحقّ } أي بالموعود الذي وعدنا في الدنيا قضوا بأنّ ذلك حقّ قضاء مشاهدة بالحسّ وكانوا في الدنيا يقضون بذلك بالاستدلال ، وقال الكرماني : وقع الموعود به على ما سبق به الوعد ، وقال الزمخشري فكان لنا لطفاً وتنبيهاً على الاهتداء فاهتدينا يقولون : ذلك سروراً واغتباطاً بما نالوا وتلذّذا بالتكلم به لا تقرباً وتعبداً كما ترى من رزق خيراً في الدنيا يتكلّم بنحو ذلك ولا يتمالك أن يقوله للفرح لا للقربة .

{ ونودوا أنّ تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } يحتمل أن يكون النداء من الله وهو أسرّ لقلوبهم وأرفع لقدرهم ويحتمل أن يكون من الملائكة وأن يحتمل أن تكون المخففة من الثقيلة أي { ونودوا } بأنه { تلكم الجنة } واسمها ضمير الشأن يحذف إذا خفّفت ويحتمل أن تكون { أن } مفسرة لوجود شرطها وهما أن يكون قبلها جملة في معنى القول وبعدها جملة وكأنه قيل : { تلكم الجنة } .

قال ابن عطية { تلكم } إشارة إلى غائبة فإما لأنهم كانوا وعدوا بها في الدنيا فالإشارة إلى تلك أي { تلكم } هذه { الجنة } وحذفت هذه وإما قبل أن يدخلوها وإما بعد الدخول وهم مجتمعون في موضع منها فكل غائب عن منزله انتهى ، وفي كتاب التحرير و { تلكم } إشارة إلى غائب وإنما قال هنا { تلكم } لأنهم وعدوا بها في الدنيا فلأجل الوعد جرى الخطاب بكلمة العهد قوله صلى الله عليه وسلم للصديق في الاستخبار عن عائشة « كيف تيكم للعهد السابق » انتهى ، { والجنة } جوّزوا فيها أن تكون خبراً لتلكم و { أورثتموها } حال كقوله { فتلك بيوتهم خاوية } قال أبو البقاء : حال من { الجنة } والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة ولا يجوز أن تكون حالاً من تلك للفصل بينهما بالخبر ولكون المبتدأ لا يعمل في الحال انتهى ، وفي العامل في الحال في مثل هذا زيد قائماً خلاف في النحو وأن يكون نعتاً وبدلاً و { أورثتموها } الخبر أدغم النحويان وحمزة وهشام الثاء في التاء وأظهرها باقي السبعة ومعنى { أورثتموها } صيرت لكم كالإرث وأبعد من ذهب إلى أنّ المعنى أورثتموها عن آبائكم لأنها كانت منازلهم لو آمنوا فحرموها بكفرهم وبعده إنّ ذلك عامّ في جميع المؤمنين ولم تكن آباؤهم كلهم كفاراً والباء في { بما } للسبب المجازي والأعمال أمارة من الله ودليل على قوة الرجاء ودخول الجنة إنما هو بمجرد رحمة الله والقسم فيها على قدر العمل ولفظ { أورثتموها } مشير إلى الأقسام وليس ذلك واجباً على الله تعالى ، وقال الزمخشري : { أورثتموها } بما كنتم تعملون بسبب أعمالكم لا بالتفضل كما تقول المبطلة انتهى ، وهذا مذهب المعتزلة ، وفي صحيح مسلم « لن يدخل الجنة أحد بعمله » قالوا : ولا أنت يا رسول الله قال : « ولا أنا إلا أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل »