فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَنَزَعۡنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنۡ غِلّٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي هَدَىٰنَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهۡتَدِيَ لَوۡلَآ أَنۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُۖ لَقَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلۡحَقِّۖ وَنُودُوٓاْ أَن تِلۡكُمُ ٱلۡجَنَّةُ أُورِثۡتُمُوهَا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (43)

{ ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هادنا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون43 } .

{ ونزعنا ما في صدورهم من غل } هذا من جملة ما ينعم الله به على أهل الجنة أن ينزع ما في قلوبهم من غل بعضهم على بعض حتى تصفو قلوبهم ويود بعضهم بعضا ، فإن الغل لو بقي في صدورهم كما كان في الدنيا لكان في ذلك تنغيص لنعم الجنة لأن المتشاحنين لا يطيب لأحدهما عيش مع وجود الآخر .

والمعنى خلقناهم في الجنة على هذه الحالة وليس المراد إنهم دخلوا الجنة بما ذكر ثم نزع منهم فيها بل المراد أنهم دخلوها مطهرين منه ، قاله أبو حيان والغل الحقد الكامن في الصدور ، وقيل نزع الغل في الجنة أن لا يحسد بعضهم بعضا في تفاضل المنازل قال علي بن أبي طالب : فينا والله أهل بدر نزلت هذه الآية .

{ تجري من تحتهم الأنهار } أي من تحت قصورهم قد تقدم تفسيره مرارا { وقالوا } عند الاستقرار في منازلهم { الحمد لله الذي هدانا لهذا } الجزاء العظيم وهو الخلود في الجنة ونزع الغل من صدورهم والهداية هذه لهذا هي الهداية المسببة من الإيمان والعمل الصالح في الدنيا { وما كنا لنهتدي } نطيق لهذا الأمر جملة موضحة واللام لتوكيد النفي { لولا أن هادنا الله } جملة مستأنفة أو حالية .

أخرج النسائي وابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل أهل النار يرى منزله من الجنة يقول لو هدانا الله فتكون حسرة عليهم ، وكل أهل الجنة يرى منزله من النار فيقول لولا أن هدانا الله فهذا شكرهم{[753]} .

{ لقد جاءت رسل ربنا بالحق } اللام لام القسم قالوا هذا لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الجزاء العظيم اغتباطا بما صاروا فيه بسبب ما تقدم منهم من تصديق الرسل وظهور صدق ما أخبروهم به في الدنيا من أن جزاء الإيمان والعمل الصالح هو هذا الذي صاروا فيه .

{ ونودوا أن تلكم الجنة } أي وقع النداء لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات فقيل لهم ذلك ، والمنادي هو الله وقيل الملائكة وقيل هذا النداء يكون في الجنة .

عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم أن تحيوا ولا تموتوا أبدا ، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا ، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدا فذلك قوله عز وجل يعني هذه الآية أخرجه مسلم{[754]} .

{ أورثتموها } أعطيتموها بدلا من أهل النار ، وهو حال من الجنة ، وسماها ميراثا لأنها لا تستحق بالعمل بل هي محض فضل الله وعده على الطاعات كالميراث من الميت ليس بعوض عن شيء بل هو صلة خالصة حصلت لكم بلا تعب { بما كنتم تعلمون } أي أورثتموها منازلها بعملكم قال في الكشاف بسبب أعمالكم لا بالتفضيل كما تقول المبطلة انتهى .

أقول يا مسكين هذا قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه : سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته{[755]} ، والتصريح بسبب لا يستلزم نفي سبب آخر ، ولولا التفضل من الله سبحانه وتعالى على العامل بإقداره على العمل لم يكن عمل أصلا ، فلو لم يكن التفضل إلا بهذا الإقدار لكان القائلون به محقة لا مبطلة .

وفي التنزيل { ذلك الفضل من الله } وفيه { فسيدخلهم في رحمة منه وفضل } وفي فتح الباري المنفي في الحديث دخولها بالعمل المجرد عن القبول والمثبت في الآية دخولها بالعمل المتقبل والقبول إنما يحصل من الله تفضلا .

وفي القرطبي بالجملة فالجنة ومنازلها لا تنال إلا برحمته فإذا دخلوها بأعمالهم فقد ورثوها برحمته ودخلوها برحمته إذ أعمالهم رحمة منه لهم وتفضل منه عليهم انتهى{[756]} .


[753]:صحيح الجامع الصغير 4390.
[754]:مسلم 2850.
[755]:روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، حتى إذا هذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة. فو الذي نفسي بيده، لأحدهم أهدى بمنزلة في الجنة منه بمنزلة كان في الدنيا) رواه (البخاري) 5/70، و 11/346 (بشرح الفتح)، و (الطبري) 14/ 38 قال الحافظ 11/ 346: قوله: (والذي نفس محمد بيده) هذا ظاهره أنه مرفوع كله، وكذا في سائر الروايات، إلا في رواية عفان عند الطبري، قال: فإنه جعل هذا من كلام قتادة، فقال بعد قوله: (في دخول الجنة) قال: وقال قتادة: (والذي نفسي بيده لأحدهم أهدى...) الخ وفي رواية شعيب ابن اسحاق بعد قوله: (في دخول الجنة) قال: فو الذي نفسي بيده... الخ فأبهم القائل، فعلى رواية عفان يكون هو قتادة، وعلى رواية غيره يكون هو النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد محمد بن المنهال عند الاسماعيلي: قال قتادة: كان يقال: ما يشبه بهم إلا أهل الجمعة إذا انصرفوا من جمعتهم، وهكذا عند عبد الوهاب وروح. وفي رواية بشر ابن خالد وعفان جميعا عند الطبري قال: وقال بعضهم.. فذكره، كذا في رواية شعيب بن اسحق، ويونس ابن محمد، والقائل: وقال بعضهم: هو قتادة، ولم أقف على تسمية القائل.
[756]:مسلم 2818 – البخاري 2427.