وقوله : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } والمراد بالمرض هنا : مرض الشك والشبهات والنفاق ، لأن{[42]} القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته واعتداله : مرض الشبهات الباطلة ، ومرض الشهوات المردية ، فالكفر والنفاق والشكوك والبدع ، كلها من مرض الشبهات ، والزنا ، ومحبة [ الفواحش و ]المعاصي وفعلها ، من مرض الشهوات ، كما قال تعالى : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } وهي شهوة الزنا ، والمعافى من عوفي من هذين المرضين ، فحصل له اليقين والإيمان ، والصبر عن كل معصية ، فرفل في أثواب العافية .
وفي قوله عن المنافقين : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } بيان لحكمته تعالى في تقدير المعاصي على العاصين ، وأنه بسبب ذنوبهم السابقة ، يبتليهم بالمعاصي اللاحقة الموجبة لعقوباتها كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وقال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } وقال تعالى : { وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } فعقوبة المعصية ، المعصية بعدها ، كما أن من ثواب الحسنة ، الحسنة بعدها ، قال تعالى : { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى }
قال السدي ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } قال : شَكٌّ ، { فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } قال : شكًّا .
وقال [ محمد ]{[1266]} بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرِمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس [ في قوله{[1267]} { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } قال : شك .
وكذلك قال مجاهد ، وعكرمة ، والحسن البصري ، وأبو العالية ، والرّبيع بن أنس ، وقتادة .
وعن عكرمة ، وطاوس : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } يعني : الرياء .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } قال : نفاق { فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } قال : نفاقا ، وهذا كالأول .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } قال : هذا مرض في الدين ، وليس مرضًا في الأجساد ، وهم المنافقون . والمرض : الشك الذي دخلهم في الإسلام { فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } قال : زادهم رجسًا ، وقرأ : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 124 ، 125 ] قال : شرًا إلى شرهم وضلالة إلى ضلالتهم .
وهذا الذي قاله عبد الرحمن ، رحمه الله ، حسن ، وهو الجزاء من جنس العمل ، وكذلك قاله الأولون ، وهو نظير قوله تعالى أيضًا : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] .
وقوله { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } وقرئ : " يكذّبون " ، وقد كانوا متصفين بهذا وهذا ، فإنهم كانوا كذبة يكذبون بالحق يجمعون بين هذا وهذا . وقد سئل القرطبي وغيره من المفسرين عن حكمة كفه ، عليه السلام ، عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم ، وذكروا أجوبة عن ذلك منها ما ثبت في الصحيحين : أنه قال لعمر : " أكره أن يتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه " {[1268]} ومعنى هذا خشية أن يقع بسبب ذلك تغير لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام ولا يعلمون حكمة قتله لهم ، وأن قتله إياهم إنما هو على الكفر ، فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم فيقولون : إن محمدًا يقتل أصحابه ، قال القرطبي : وهذا قول علمائنا وغيرهم كما كان يعطي المؤلفة قلوبهم مع علمه بشر اعتقادهم . قال ابن عطية : وهي طريقة أصحاب مالك نص عليه محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل والأبهري وابن الماجشون . ومنها : ما قال مالك ، رحمه الله : إنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه .
قال القرطبي : وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه ، وإن اختلفوا في سائر الأحكام ، قال : ومنها ما قال الشافعي : إنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم ؛ لأن ما يظهرونه يجبّ ما قبله . ويؤيد هذا قوله ، عليه الصلاة والسلام ، في الحديث المجمع على صحته في الصحيحين وغيرهما : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ، عز وجل »{[1269]} . ومعنى هذا : أن من قالها جرت عليه أحكام الإسلام ظاهرًا ، فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الدار الآخرة ، وإن لم يعتقدها لم ينفعه في الآخرة جريان الحكم عليه في الدنيا ، وكونه كان خليط أهل الإيمان { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ } الآية [ الحديد : 14 ] ، فهم يخالطونهم في بعض المحشر ، فإذا حقت المحقوقية تميزوا منهم وتخلفوا بعدهم { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } [ سبأ : 54 ] ولم يمكنهم أن يسجدوا معهم كما نطقت بذلك الأحاديث ، ومنها ما قاله بعضهم : أنه إنما لم يقتلهم لأنه كان يخاف من شرهم مع وجوده ، عليه السلام ، بين أظهرهم يتلو عليهم آيات الله مبينات ، فأما بعده فيقتلون إذا أظهروا النفاق وعلمه المسلمون ، قال مالك : المنافق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزنديق اليوم .
قلت : وقد اختلف العلماء في قتل الزنديق إذا أظهر الكفر هل يستتاب أم لا . أو يفرق بين أن يكون داعية أم لا أو يتكرر منه ارتداده أم لا أو يكون إسلامه ورجوعه من تلقاء نفسه أو بعد أن ظهر عليه ؟ على أقوال موضع بسطها وتقريرها وعزوها كتاب الأحكام .
( تنبيه ) قول من قال : كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافقين إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقًا في غزوة تبوك الذين هموا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلماء الليل عند عقبة هناك ؛ عزموا على أن ينفروا به الناقة ليسقط عنها فأوحى الله إليه أمرهم فأطلع على ذلك حذيفة . ولعل الكف عن قتلهم كان لمدرك من هذه المدارك أو لغيرها والله أعلم .
فأما غير هؤلاء فقد قال تعالى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } الآية ، وقال تعالى : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا } ففيها دليل على أنه لم يغر بهم ولم يدرك على أعيانهم وإنما كانت تذكر له صفاتهم فيتوسمها في بعضهم كما قال تعالى : { وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } وقد كان من أشهرهم بالنفاق عبد الله بن أبي بن سلول وقد شهد عليه زيد بن أرقم بذلك الكلام الذي سبق في صفات المنافقين ومع هذا لما مات [ صلى عليه ] صلى الله عليه وسلم وشهد دفنه كما يفعل ببقية المسلمين ، وقد عاتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه فقال : " إني أكره أن تتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه " وفي رواية في الصحيح «إني خيرت فاخترت » وفي رواية «لو أني أعلم لو زدت على السبعين يغفر الله له لزدت » .
{ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }
وأصل المرض : السقم ، ثم يقال ذلك في الأجساد والأديان فأخبر الله جل ثناؤه أن في قلوب المنافقين مرضا . وإنما عنى تبارك وتعالى بخبره عن مرض قلوبهم الخبر عن مرض ما في قلوبهم من الاعتقاد ولكن لما كان معلوما بالخبر عن مرض القلب أنه معنىّ به مرض ما هم معتقدوه من الاعتقاد استغنى بالخبر عن القلب بذلك والكناية عن تصريح الخبر عن ضمائرهم واعتقاداتهم كما قال عمر بن لجأ :
وَسَبّحَتِ المَدِينَةُ لا تَلُمْها *** رأتْ قَمَرا بِسُوقِهِمُ نَهارا
يريد وسبح أهل المدينة . فاستغنى بمعرفة السامعين خبره بالخبر عن المدينة عن الخبر عن أهلها . ومثله قول عنترة العبسيّ :
هَلاّ سألْتِ الخَيْلَ يا ابنْةَ مالِكِ *** إنْ كُنْتِ جاهِلَةً بِمَا لَمْ تَعْلَمِي
يريد : هلا سألت أصحاب الخيل ؟ ومنه قولهم : يا خيل الله اركبي ، يراد : يا أصحاب خيل الله اركبوا .
والشواهد على ذلك أكثر من أن يحصيها كتاب ، وفيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه . فكذلك معنى قول الله جل ثناؤه : في قُلُوبِهمْ مَرَضٌ إنما يعني في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الدين والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من عند الله مرض وسقم . فاجتزأ بدلالة الخبر عن قلوبهم على معناه عن تصريح الخبر عن اعتقادهم . والمرض الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه هو شكهم في أمر محمد ، وما جاء به من عند الله وتحيرهم فيه ، فلا هم به موقنون إيقان إيمان ، ولا هم له منكرون إنكار إشراك ولكنهم كما وصفهم الله عز وجل مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، كما يقال : فلان يمرض في هذا الأمر ، أي يضعف العزم ولا يصحح الروية فيه . وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك تظاهر القول في تفسيره من المفسرين ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شكّ .
وحدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : المرض : النفاق .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يقول : في قلوبهم شك .
حدثني يونس بن عبد الأعلَى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد في قوله : في قُلُوبِهِمْ مَرَض قال : هذا مرض في الدين وليس مرضا في الأجساد . قال : هم المنافقون .
حدثني المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة عن سعيد عن قتادة في قوله : فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال : في قلوبهم ريبة وشك في أمر الله جل ثناؤه .
وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال : هؤلاء أهل النفاق ، والمرض الذي في قلوبهم الشكّ في أمر الله تعالى ذكره .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد : وَمِنَ النّاس مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَباليَوْمِ الاَخِرِ حتى بلغ : فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال المرض : الشك الذي دخلهم في الإسلام .
القول في تأويل قوله تعالى : فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا .
قد دللنا آنفا على أن تأويل المرض الذي وصف الله جل ثناؤه أنه في قلوب المنافقين : هو الشكّ في اعتقادات قلوبهم وأديانهم وما هم عليه في أمر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر نبوّته وما جاء به مقيمون .
فالمرض الذي أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنه زادهم على مرضهم هو نظير ما كان في قلوبهم من الشك والحيرة قبل الزيادة ، فزادهم الله بما أحدث من حدوده وفرائضه التي لم يكن فرضها قبل الزيادة التي زادها المنافقين من الشك والحيرة إذْ شكوا وارتابوا في الذي أحدث لهم من ذلك إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم في السالف من حدوده وفرائضه التي كان فرضها قبل ذلك ، كما زاد المؤمنين به إلى إيمانهم الذي كانوا عليه قبل ذلك بالذي أحدث لهم من الفرائض والحدود إذ آمنوا به ، إلى إيمانهم بالسالف من حدوده وفرائضه إيمانا . كالذي قال جل ثناؤه في تنزيله : { وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانا فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمّا الّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسا إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كافِرُونَ } فالزيادة التي زيدها المنافقون من الرجاسة إلى رجاستهم هو ما وصفنا ، والزيادة التي زيدها المؤمنون إلى إيمانهم هو ما بينا ، وذلك هو التأويل المجمع عليه . ذكر بعض من قال ذلك من أهل التأويل :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت . عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا قال : شكّا .
حدثني موسى بن هارون ، قال : أخبرنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا يقول : فزادهم الله ريبة وشكا .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة عن سعيد عن قتادة : فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا يقول : فزادهم الله ريبة وشكا في أمر الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا قال : زادهم رجسا . وقرأ قول الله عزّ وجلّ : { فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمّا الّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسا إلى رِجْسِهِمْ } قال : شرّا إلى شرّهم ، وضلالة إلى ضلالتهم .
وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا قال زادهم الله شكا .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ .
قال أبو جعفر : والأليم : هو الموجع ، ومعناه : ولهم عذاب مؤلم ، فصرف «مؤلم » إلى «أليم » ، كما يقال : ضرب وجيع بمعنى موجع ، والله بديع السموات والأرض بمعنى مبدع . ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي :
أمِنْ رَيْحَانَةَ الدّاعِي السّمِيع *** يُؤَرّقُنِي وأصْحابي هُجُوعُ
بمعنى المُسْمِع . ومنه قول ذي الرمة :
وَيَرْفَعُ مِنْ صُدُور شَمَرْدلات ٍ يصُدّ وُجُوهَها وَهَجٌ ألِيمُ
ويروى «يصك » ، وإنما الأليم صفة للعذاب ، كأنه قال : ولهم عذاب مؤلم . وهو مأخوذ من الألم ، والألم : الوجع . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع ، قال : الأليم : الموجع .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قال : الأليم ، الموجع .
وحدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك في قوله ألِيمٌ قال : هو العذاب الموجع ، وكل شيء في القرآن من الأليم فهو الموجع .
القول في تأويل قوله تعالى : بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ .
اختلفت القراءة في قراءة ذلك ، فقرأه بعضهم : بِمَا كانُوا يَكْذِبُونَ مخففة الذال مفتوحة الياء ، وهي قراءة معظم أهل الكوفة . وقرأه آخرون : يُكَذّبُونَ بضم الياء وتشديد الذال ، وهي قراءة معظم أهل المدينة والحجاز والبصرة . وكأن الذين قرءوا ذلك بتشديد الذال وضم الياء رأوا أن الله جل ثناؤه إنما أوجب للمنافقين العذاب الأليم بتكذيبهم نبيهم محمدا صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وأن الكذب لولا التكذيب لا يوجب لأحد اليسير من العذاب ، فكيف بالأليم منه ؟
وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالوا وذلك أن الله عزّ وجلّ أنبأ عن المنافقين في أول النبأ عنهم في هذه السورة بأنهم يكذبون بدعواهم الإيمان وإظهارهم ذلك بألسنتهم خداعا لله عزّ وجلّ ولرسوله وللمؤمنين ، فقال : { وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وَبِاليَوْمِ الاَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالّذِينَ آمَنُوا } بذلك من قيلهم مع استسرارهم الشك والريبة ، وما يخدعون بصنيعهم ذلك إلا أنفسهم دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وما يشعرون بموضع خديعتهم أنفسهم واستدراج الله عزّ وجل إياهم بإملائه لهم في قلوبهم شك أي نفاق وريبة ، والله زائدهم شكّا وريبة بما كانوا يكذبون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم بألسنتهم : آمَنّا باللّهِ وَباليَوْمِ الاَخِرِ وهم في قيلهم ذلك كَذَبة لاستسرارهم الشك والمرض في اعتقادات قلوبهم . في أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، فأولى في حكمة الله جل جلاله أن يكون الوعيد منه لهم على ما افتتح به الخبر عنهم من قبيح أفعالهم وذميم أخلاقهم ، دون ما لم يجز له ذكر من أفعالهم إذ كان سائر آيات تنزيله بذلك نزل . وهو أن يفتتح ذكر محاسن أفعال قوم ثم يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذكره من أفعالهم ، ويفتتح ذكر مساوىء أفعال آخرين ثم يختم ذلك بالوعيد على ما ابتدأ به ذكره من أفعالهم . فكذلك الصحيح من القول في الاَيات التي افتتح فيها ذكر بعض مساوىء أفعال المنافقين أن يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذكره من قبائح أفعالهم ، فهذا مع دلالة الآية الأخرى على صحة ما قلنا وشهادتها بأن الواجب من القراءة ما اخترنا ، وأن الصواب من التأويل ما تأوّلنا من أن وعيد الله المنافقين في هذه الآية العذاب الأليم على الكذب الجامع معنى الشك والتكذيب ، وذلك قول الله تبارك وتعالى : { إذَا جاءَكَ المُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إنّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إنّكَ لَرَسُولُهُ واللّهُ يَشْهَدُ إنّ المُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ اتّخَذُوا أيمَانَهُمْ جُنّةً فَصَدوّا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ إنّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ } والآية الأخرى في المجادلة : { اتّخَذوُا أيْمَانَهُمْ جُنّةً فَصَدوّا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } فأخبر جلّ ثناؤه أن المنافقين بقيلهم ما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع اعتقادهم فيه ما هم معتقدون ، كاذبون . ثم أخبر تعالى ذكره أن العذاب المهين لهم على ذلك من كذبهم . ولو كان الصحيح من القراءة على ما قرأه القارئون في سورة البقرة : وَلهُمْ عَذَابٌ أليِمٌ بِمَا كانُوا يُكذَبّوُنَ لكانت القراءة في السورة الأخرى : { والله يشهد إن المنافقين لمكذّبون } ، ليكون الوعيد لهم الذي هو عقيب ذلك وعيدا على التكذيب ، لا على الكذب .
وفي إجماع المسلمين على أن الصواب من القراءة في قوله : وَاللّهُ يَشْهَدُ إنّ المُنافَقِينَ لَكاذِبُونَ بمعنى الكذب ، وأن إيعاد الله تبارك وتعالى فيه المنافقين العذاب الأليم على ذلك من كذبهم ، أوضح الدلالة على أن الصحيح من القراءة في سورة البقرة : بما كَانُوا يَكْذِبُون بمعنى الكذب ، وأن الوعيد من الله تعالى ذكره للمنافقين فيها على الكذب حق ، لا على التكذيب الذي لم يجز له ذكر نظير الذي في سورة المنافقين سواء .
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن «ما » من قول الله تبارك اسمه : بِمَا كانُوا يَكُذِبُون اسم للمصدر ، كما أن أن والفعل اسمان للمصدر في قولك : أحبّ أن تأتيني ، وأن المعنى إنما هو بكذبهم وتكذيبهم . قال : وأدخل «كان » ليخبر أنه كان فيما مضى ، كما يقال : ما أحسن ما كان عبد الله . فأنت تعجب من عبد الله لا من كونه ، وإنما وقع التعجب في اللفظ على كونه . وكان بعض نحويي الكوفة ينكر ذلك من قوله ويستخطئه ويقول : إنما ألغيت «كان » في التعجب لأن الفعل قد تقدمها ، فكأنه قال : «حسنا كان زيد » ، «وحسن كان زيد » يبطل «كان » ، ويعمل مع الأسماء والصفات التي بألفاظ الأسماء إذا جاءت قبل «كان » ووقعت «كان » بينها وبين الأسماء .
وأما العلة في إبطالها إذا أبطلت في هذه الحال فشبه الصفات والأسماء بفعل ويفعل اللتين لا يظهر عمل كان فيهما ، ألا ترى أنك تقول : «يقوم كان زيد » ، ولا يظهر عمل «كان » في «يقوم » ، وكذلك «قام كان زيد » . فلذلك أبطل عملها مع فاعل تمثيلاً بفعل ويفعل ، وأعملت مع فاعل أحيانا لأنه اسم كما تعمل في الأسماء . فأما إذا تقدمت «كان » الأسماء والأفعال وكان الاسم والفعل بعدها ، فخطأ عنده أن تكون «كان » مبطلة فلذلك أحال قول البصري الذي حكيناه ، وتأوّل قوله الله عزّ وجل : بِمَا كانُوا يَكذْبِوُنَ أنه بمعنى : الذي يكذبونه .
{ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا } المرض حقيقة فيما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال الخاص به ويوجب الخلل في أفعاله . ومجاز في الأعراض النفسانية التي تخل بكمالها كالجهل وسوء العقيدة والحسد والضغينة وحب المعاصي ، لأنها مانعة من نيل الفضائل ، أو مؤدية إلى زوال الحياة الحقيقية الأبدية . والآية الكريمة تحتلهما فإن قلوبهم كانت متألمة تحرقا على ما فات عنهم من الرياسة ، وحسدا على ما يرون من ثبات أمر الرسول صلى الله عليه وسلم واستعلاء شأنه يوما فيوما ، وزاد الله غمهم بما زاد في إعلاء أمره وإشادة ذكره ، ونفوسهم كانت موصوفة بالكفر وسوء الاعتقاد ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم ونحوها ، فزاد الله سبحانه وتعالى ذلك بالطبع . أو بازدياد التكاليف وتكرير الوحي وتضاعف النصر ، وكان إسناد الزيادة إلى الله تعالى من حيث أنه مسبب من فعله وإسنادها إلى السورة في قوله تعالى { فزادتهم رجسا } لكونها سببا .
ويحتمل أن يراد بالمرض ما تداخل قلوبهم من الجبن والخور حين شاهدوا شوكة المسلمين وإمداد الله تعالى لهم بالملائكة ، وقذف الرعب في قلوبهم وبزيادته تضعيفه بما زاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم نصرة على الأعداء وتبسطا في البلاد .
{ ولهم عذاب أليم } أي مؤلم يقال ألم فهو أليم كوجع فهو وجيع ، وصف به العذاب للمبالغة كقوله :
{ بما كانوا يكذبون } قرأها عاصم وحمزة والكسائي ، والمعنى بسبب كذبهم ، أو ببدله جزاء لهم وهو قولهم آمنا . وقرأ الباقون { يكذبون } من كذبه لأنهم كانوا يكذبون الرسول عليه الصلاة والسلام بقلوبهم ، وإذا خلوا إلى شياطينهم . أو من كذب الذي هو للمبالغة أو للتكثير مثل بين الشيء وموتت البهائم . أو من كذب الوحشي إذا جرى شوطا وقف لينظر ما وراءه فإن المنافق متحير متردد . والكذب : هو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به . وهو حرام كله لأنه علل به استحقاق العذاب حيث رتب عليه . وما روي إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كذب ثلاث كذبات ، فالمراد التعريض . ولكن لما شابه الكذب في صورته سمي به .
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ( 10 )
المرض عبارة مستعارة للفساد الذي في عقائد هؤلاء المنافقين وذلك إما أن يكون شكاً ، وإما جحداً بسبب حسدهم مع علمهم بصحة ما يجحدون ، وبنحو هذا فسر المتأولون .
وقال قوم : «المرض غمهم بظهور أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم » .
وقرأ الأصمعي عن أبي عمر : «مرْض » بسكون الراء وهي لغة في المصدر قال أبو الفتح : «وليس بتخفيف » .
واختلف المتأولون في معنى قوله { فزادهم الله مرضاً } فقيل هو دعاء عليهم( {[231]} ) ، وقيل هو خبر أن الله قد فعل بهم ذلك ، وهذه الزيادة هي بما ينزل من الوحي ويظهر من البراهين ، فهي على هؤلاء المنافقين عمى وكلما كذبوا زاد المرض .
وقرأ حمزة : «فزادهم » بكسر الزاي( {[232]} ) ، وكذلك ابن عامر . وكان نافع يشم الزاي إلى الكسر ، وفتح الباقون . و { أليم } معناه مؤلم كما قال الشاعر وهو عمرو بن معدي كرب : [ الوافر ] .
أمن ريحانة الداعي السميع . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بمعنى : مسمع . ( {[233]} )
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «يُكذِّبون » بضم الياء وتشديد الذال .
وقرأ الباقون بفتح الياء وتخفيف الذال . فالقراءة بالتثقيل يؤيدها قوله تعالى قبل { وما هم بمؤمنين } فهذا إخبار بأنهم يكذبون . والقراءة بالتخفيف يؤيدها أن سياق الآيات إنما هي إخبار بكذبهم( {[234]} ) ، والتوعد بالعذاب الأليم ، متوجه على التكذيب ، وعلى الكذب في مثل هذه النازلة ، إذ هو منطوٍ على الكفر ، وقراءة التثقيل أرجح .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{في قلوبهم مرض}، يعني الشك بالله وبمحمد [صلى الله تعالى عليه وسلم]، نظيرها في سورة محمد: {أم حسب الذين في قلوبهم مرض} (محمد: 29) يعني الشك.
{فزادهم الله مرضا}، يعني شكا في قلوبهم.
{ولهم عذاب أليم}، يعني وجيع في الآخرة.
{بما كانوا يكذبون} لقولهم: {آمنا بالله وباليوم الآخر}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
المرض: السقم، ثم يقال ذلك في الأجساد والأديان. فأخبر الله جل ثناؤه أن في قلوب المنافقين مرضا. وإنما عنى تبارك وتعالى بخبره عن مرض قلوبهم الخبر عن مرض ما في قلوبهم من الاعتقاد، ولكن لما كان معلوما بالخبر عن مرض القلب أنه معني به مرض ما هم معتقدوه من الاعتقاد، استغنى بالخبر عن القلب بذلك والكناية عن تصريح الخبر عن ضمائرهم واعتقاداتهم... عن ابن عباس:"في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ" أي شكّ... [وعنه] قال: المرض: النفاق.
"فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا"... فزادهم الله بما أحدث من حدوده وفرائضه التي لم يكن فرضها قبل الزيادة التي زادها المنافقين من الشك والحيرة، إذْ شكوا وارتابوا في الذي أحدث لهم من ذلك إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم في السالف من حدوده وفرائضه التي كان فرضها قبل ذلك، كما زاد المؤمنين به إلى إيمانهم الذي كانوا عليه قبل ذلك بالذي أحدث لهم من الفرائض والحدود إذ آمنوا به، إلى إيمانهم بالسالف من حدوده وفرائضه إيمانا. كالذي قال جل ثناؤه في تنزيله: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانا فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمّا الّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسا إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كافِرُونَ} فالزيادة التي زيدها المنافقون من الرجاسة إلى رجاستهم هو ما وصفنا، والزيادة التي زيدها المؤمنون إلى إيمانهم هو ما بينا، وذلك هو التأويل المجمع عليه...
"وَلهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ": والأليم: هو الموجع...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
... ويزيدهم الله مرضاً بتوهمهم أنهم نجوا بما لبَّسوا على المسلمين، ثم لهم عذاب أليم مؤلم، يَخْلُص وجعه إليهم في المآل.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قوله تعالى: {فزادهم الله مرضاً}. لأن الآيات كانت تنزل تترى، آية بعد آية، كلما كفروا بآية ازدادوا كفراً ونفاقاً.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
واستعمال المرض في القلب يجوز أن يكون حقيقة ومجازاً، فالحقيقة أن يراد الألم كما تقول: في جوفه مرض. والمجاز أن يستعار لبعض أعراض القلب، كسوء الاعتقاد، والغل، والحسد والميل إلى المعاصي، والعزم عليها، واستشعار الهوى، والجبن، والضعف، وغير ذلك مما هو فساد وآفة شبيهة بالمرض كما استعيرت الصحة والسلامة في نقائض ذلك.
والمراد به هنا ما في قلوبهم من سوء الاعتقاد والكفر، أو من الغل والحسد والبغضاء، لأن صدورهم كانت تغلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين غلا وحنقاً ويبغضونهم البغضاء التي وصفها الله تعالى في قوله: {قَدْ بَدَتِ البغضاء مِنْ أفواههم وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}... أو يراد ما تداخل قلوبهم من الضعف والجبن والخور، لأن قلوبهم كانت قوية، إما لقوة طمعهم فيما كانوا يتحدثون به: أن ريح الإسلام تهب حيناً ثم تسكن ولواءه يخفق أياماً ثم يقرّ، فضعفت حين ملكها اليأس عند إنزال الله على رسوله النصر وإظهار دين الحق على الدين كله. وإما لجراءتهم وجسارتهم في الحروب فضعفت جبناً وخوراً حين قذف الله في قلوبهم الرعب وشاهدوا شوكة المسلمين وإمداد الله لهم بالملائكة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نصرت بالرعب مسيرة شهر".
ومعنى زيادة الله إياهم مرضاً... أنه كلما زاد رسوله نصرة وتبسطاً في البلاد ونقصاً من أطراف الأرض، ازدادوا حسداً وغلا وبغضاً، وازدادت قلوبهم ضعفاً وقلة طمع فيما عقدوا به رجاءهم وجبناً وخوراً. ويحتمل أن يراد بزيادة المرض الطبع.
والمراد بكذبهم قولهم آمنا بالله وباليوم الآخر. وفيه رمز إلى قبح الكذب وسماجته، وتخييل أن العذاب الأليم لاحق بهم من أجل كذبهم. ونحوه قوله تعالى: {مّمَّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ} [نوح: 71] والقوم كفرة. وإنما خصت الخطيئات استعظاماً لها وتنفيراً عن ارتكابها. والكذب: الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به وهو قبيح كله.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
واختلف المتأولون في معنى قوله {فزادهم الله مرضاً} فقيل: هو دعاء عليهم.
أما قوله تعالى {في قلوبهم مرض}: فاعلم أن المرض صفة توجب وقوع الضرر في الأفعال الصادرة عن موضع تلك الصفة، ولما كان الأثر الخاص بالقلب إنما هو معرفة الله تعالى وطاعته وعبوديته، فإذا وقع في القلب من الصفات ما صار مانعا من هذه الآثار كانت تلك الصفات أمراضا للقلب...
المراد من قوله {فزادهم الله مرضا} المنع من زيادة الألطاف، فيكون بسبب ذلك المنع خاذلا لهم وهو كقوله {قاتلهم الله أنى يؤفكون}.
ويحتمل معنى آخر وهو: أن العرب تصف فتور الطرف بالمرض، فيقولون جارية مريضة الطرف، فكذا المرض ههنا إنما هو الفتور في النية، وذلك لأنهم في أول الأمر كانت قلوبهم قوية على المحاربة والمنازعة وإظهار الخصومة، ثم انكسرت شوكتهم فأخذوا في النفاق بسبب ذلك الخوف والانكسار، فقال تعالى {فزادهم الله مرضا} أي زادهم ذلك الانكسار والجبن والضعف، ولقد حقق الله تعالى ذلك بقوله {وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين}.
[ويمكن] أن يحمل المرض على ألم القلب، وذلك أن الإنسان إذا صار مبتلى بالحسد والنفاق ومشاهدة المكروه فإذا دام به ذلك فربما صار ذلك سببا لتغير مزاج القلب وتألمه، وحمل اللفظ على هذا الوجه حمل له على حقيقته، فكان أولى من سائر الوجوه.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
ومرض القلب: خروجه عن صحته واعتداله. فإن صحته أن يكون عارفا بالحق محبا له، مؤثرا له على غيره، فمرضه إما بالشك فيه، وإما بإيثار غيره عليه. فمرض المنافقين: مرض شك وريب، ومرض العصاة: مرض غي وشهوة. وقد سمى الله سبحانه كلا منهما مرضا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم بين سبحانه أن سبب الغفلة عن هذا الظاهر كون آلة إدراكهم مريضة، شغلها المرض عن إدراك ما ينفعها فهي لا تجنح إلا إلى ما يؤذيها، كالمريض لا تميل نفسه إلى غير مضارها فقال جواباً لمن كأنه قال: ما سبب فعلهم هذا من الخداع وعدم الشعور. {في قلوبهم مرض} أي من أصل الخلقة يوهن قوى الإيمان فيها ويوجب ضعف أفعالهم الإسلامية وخللها، لأن المرض كما قال الحرالي: ضعف في القوى يترتب عليه خلل في الأفعال.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{في قلوبهم مرض} عهد عند العرب التعبير عن العقول بالقلوب والمرض هو ما يطرأ على العقول فيضعف تعقلها وإدراكها، والشك والوهم من أعراض هذا المرض، فهو ظلمة تعرض للعقل فتقف بشعاعه أن ينفذ إلى ما وراء التكاليف والأحكام من الأسرار والحكم. وهذا النفوذ هو الفقه في الدين الذي يسوق النفس إلى الأخذ به ظاهرا وباطنا وقد عبر القرآن عن فقد أمثال هؤلاء لهذا بقوله {7: 179 لهم قلوب لا يفقهون بها} وربما كان التعبير عن العقول بالقلوب في مثل هذا المقام، لأن القلب يظهر فيه أثر الوجدان الذي هو السائق إلى الأعمال [يظهر لك ذلك بما تجده من اضطراب قلبك عند اشتداد الخوف أو اشتداد الفرح، فإنك تحس بزيادة ضرباته وشدة نبضاته] فصورة الاعتقاد إذا تناولها العقل من طريق التقليد والتسليم، فجعلها في زاوية من زوايا الدماغ، لم يكن لها سلطان على القلب ولا تأثير في الوجدان، واعتقاد لا يصحبه هذا السلطان ولا يصدر عنه هذا التأثير، لا يعتد الله تعالى به ولا يستفيد الإنسان منه كما تقدم آنفا، فمن لم يطرق الإيمان قلبه بقوة البرهان ولم يحل مذاقه منه في الوجدان، بحيث يكون هو المصرف له في أعماله لا ينفعه إيمانه، إلا إذا تمرن على الأعمال الصالحة عن فهم وإخلاص، حتى يحدث لقلبه الوجدان الصالح، فأهل اليقين ببعثهم يقينهم على العمل الصالح، وأهل التقليد تلحقهم أعمالهم الصالحة بأهل اليقين في الانتفاع بإيمانهم، وهذا الفريق الذي تحكي عنه الآيات، وتصفه بالكذب والخداع، "قد فقد الأمرين معا، ولا صحة للقلب إلا بهما، فمن فقدهما مرض ولا يلبث مرضه أن يقتله.
قال الأستاذ الإمام ما معناه: ولضعف العقل أسباب. منها: ما هو فطري كما هو حال أهل البله والعته، وهو الذي لا يكلف صاحبه ولا يلام، ومنها: ما يكون من فساد التربية العقلية كما هو حال المقلدين الذين لا يستعملون عقولهم، وإنما يكتفون بما عليه قومهم من الأوهام والخيالات، ويرين على قلوبهم ما يكسبونه من السيئات، وما يكونون عليه من التقاليد والعادات، ولا يعتنون بما أمر الله به من تمزيق هذه الحجب، وإزالة هذه السحب، للوقوف على ما وراءها من مخدرات العرفان، ونجوم الفرقان وشموس الإيمان، بل يكتفون بما حكى الله عنهم في قوله {43: 23 إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثراهم مقتدون} حتى يجئ اليوم الذي يقولون فيه {33: 67 ربنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل}.
وأقول: إن المرض في أصل اللغة: خروج البدن عن اعتدال مزاجه وصحة أعضائه، فيختل به بعض وظائفها وأعمالها، وتعرض الآلام لها. ويطلق مجازا على اختلال مزاج النفس، وما يخل بكمالها من نفاق وجهل، وارتياب وشك، وغير ذلك من فساد الاعتقاد الحق، واضطراب حكم العقل وفساد الخلق، والمرض هنا من النوع الثاني كما تقدم آنفا، وخصه شيخنا بمنافقي اليهود، فقال ما معناه: كان في قلوبهم مرض قبل مجيء النذير، وبيان الرشد من الغي، عندما كانوا في فترة حظهم من الكتب قراءة ألفاظها، ومن الأعمال إقامة صورها.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... ومعنى {فزادهم الله مرضاً} أن تلك الأخلاق الذميمة الناشئة عن النفاق والملازمة له كانت تتزايد فيهم بتزايد الأيام لأن من شأن الأخلاق إذا تمكنت أن تتزايد بتزايد الأيام حتى تصير ملكات... وإنما كان النفاق موجباً لازدياد ما يقارنه من سيء الأخلاق لأن النفاق يستر الأخلاق الذميمة فتكون محجوبة عن الناصحين والمربين والمرشدين وبذلك تتأصل وتتوالد إلى غير حد، فالنفاق في كتمه مساوئ الأخلاق بمنزلة كتم المريض داءه عن الطبيب...
وإليك بيان ما ينشأ عن النفاق من الأمراض الأخلاقية وما يتولد منها، وتزايدها:
- الكذب: (بما كانوا يكذبون) -(ومن الناس من يقول آمنا) – (وما هو بمؤمنين)
- العجب (أنؤمن كما آمن السفهاء)
- السفه: (ألا إنهم هم السفهاء)
- الخوف: (لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله)
- خون الأمانة (إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما)
- جفاء الطبع: (كما آمن السفهاء)
- الجبن: (يحسبون كل صيحة عليهم) (ليولن الأدبار ثم لا ينصرون)
- دوام الضلال (وما هم بمؤمنين)
- ازدياد النقائص (فزادهم الله مرضا)
- الخداع: (يخادعون الله والذين آمنوا)
- عداوة الناس: (قالوا إنا معكم) (لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء)
- أن يصير هزأة للناس (الله يستهزئ بهم)
- النكاية: (وما يخادعون إلا أنفسهم)
- الفساد: (ألا إنهم هم المفسدون)
اعلم أن هذه طباع تنشأ عن النفاق أو تقارنه من حيث هو ولا سيما النفاق في الدين فقد نبهنا الله تعالى لمذام ذلك تعليماً وتربية فإن النفاق يعتمد على ثلاث خصال وهي: الكذب القولي، والكذب الفعلي وهو الخداع، ويقارن ذلك الخوف لأن الكذب والخداع إنما يصدران ممن يتوقى إظهار حقيقة أمره، وذلك لا يكون إلا لخوف ضر أو لخوف إخفاق سعي، وكلاهما مؤذن بقلة الشجاعة والثبات والثقةِ بالنفس وبحسن السلوك. ثم إن كل خصلة من هاته الخصال الثلاث الذميمة توكّد هنَوات أخرى؛ فالكذب ينشأ عن شيء من البله، لأن الكاذب يعتقد أن كذبه يتمشى عند الناس، وهذا من قلة الذكاء، لأن النبيه يعلم أن في الناس مثله وخيراً منه، ثم البله يؤدي إلى الجهل بالحقائق وبمراتب العقول، ولأن الكذب يعود فِكر صاحبه بالحقائق المحرَّفة وتشتبه عليه مع طول الاسترسال في ذلك حتى إنه ربما اعتقد ما اختلقه واقعاً، وينشأ عن الأمرين السفه وهو خلل في الرأي وأَفَن في العقل، وقد أصبح علماء الأخلاق والطب يعدون الكذب من أمراض الدماغ.
وأما نشأةُ العجب والغرور والكفر وفساد الرأي عن الغباوة والجهل والسفهِ فظاهرة، وكذلك نشأة العزلة والجبن والتستر عن الخوف، وأما نشأة عداوة الناس عن الخداع فلأن عداوة الأضداد تبدأُ من شعورهم بخداعه، وتعقبها عداوة الأصحاب لأنهم إذا رأوا تفنن ذلك الصاحب في النفاق والخداع داخلهم الشك أن يكون إخلاصه الذي يظهره لهم هو من المخادعة فإذا حصلت عداوة الفريقين تصدى الناس كلهم للتوقي منه والنكاية به، وتصدى هو للمكر بهم والفساد ليصل إلى مرامه، فرمته الناس عن قَوس واحدة واجتنى من ذلك أن يصير هُزأة للناس أجمعين. وقد رأيتم أن الناشئ عن مرض النفاق والزائد فيه هو زيادة ذلك الناشئ أي تأصله وتمكنه وتولد مذمات أخرى عنه،
ولعل تنكير (مرض) في الموضعين أشعر بهذا فإن تنكير الأول للإشارة إلى تنويعٍ أو تكثيرٍ، وتنكيرَ الثاني ليشير إلى أن المزيد مرض آخر على قاعدة إعادةِ النكرةِ نكرةً. وإنما أسندت زيادة مرض قلوبهم إلى الله تعالى مع أن زيادة هاته الأمراض القلبية من ذاتها لأن الله تعالى لما خلَق هذا التولُّد وأسبابه وكان أمراً خفياً نبه الناس على خطر الاسترسال في النوايا الخبيثة والأعمال المنكرة، وأنه من شأنه أن يزيد تلك النوايا تمكناً من القلب، فيعسر أو يتعذر الإقلاع عنها بعد تمكنها، وأسندت تلك الزيادة إلى اسمه تعالى لأن الله تعالى غضب عليهم فأهملهم وشأنهم ولم يتداركهم بلطفه الذي يوقظهم من غفلاتهم لينبه المسلمين إلى خطر أمرها وأنها مما يعسر إقلاع أصحابها عنها ليكون حذرهم من معاملتهم أشد ما يمكن.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
[في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ] في هذه الفقرة محاولة لتفسير ظاهرة النفاق وتعليل أسبابها، بكونها عقدةً تتحكم في داخل الإنسان ومرضاً نفسياً أو روحياً يعاني منه؛ ذلك أنّ الإنسان إمّا أن يؤمن بالشيء وإمّا أن لا يؤمن به. وعلى كلتا الحالتين، فإنَّ الوضع الطبيعي الصحي، هو أن يسير على ما يوحي به موقفه، فإذا كان مؤمناً، انطلقت سيرته في خطّ إيمانه، وتحرّكت حياته في هذا الاتجاه.. أمّا إذا كان كافراً، فإنَّ الكفر يفرض عليه أن يحدّد لحياته الخطوط التي لا تلتقي بالإيمان من قريب أو من بعيد، سواء في ذلك مشاعره الداخلية أو خطواته العملية، لكن أن يرفض الإنسان الإيمان ويعمل عمل المؤمن، فهذا موقف غير طبيعي في حياته، لأنَّ الموقف الطبيعي هو أن ينبع عمله من إيمانه وتفكيره.
وقد لا نحتاج إلى الكثير من الجهد لنعرف أنَّ أية حالة غير طبيعية تعتبر ظاهرة مرضية في حياة الإنسان، سواء أكانت موجودة في جسده، أم في روحه، أم في تفكيره. ولهذا اعتبر اللّه النفاق مرضاً ينطلق من عقدة نفسية، تحمل في داخلها طبيعة الشخصية المزدوجة التي تتمثل في الداخل بصورة وحركة تختلفان عن الصورة والحركة الموجودتين في الخارج.
وقد لا تكون هذه العقدة، أو هذا المرض، من الأشياء الأصيلة في ذات الإنسان، بل قد ينشأ ذلك من حالة الخوف من مواجهة المجتمع بما يخالف تفكيره وأوضاعه.. وقد تنشأ من حالة الطمع الذي يمنع الإنسان من الوقوف في المواقع الحاسمة التي لا تنسجم مع مصادر الطمع وموارده. وقد تنشأ من حالة نفسية قلقة يعيش الإنسان معها طبيعة الحَيْرة والتردّد في كلّ موقف من مواقف الحياة، وقد يتبين لنا ممّا يأتي من الآيات القرآنية، ما يوحي بطبيعة «العقدة النفاقية» في ما يعيشه المنافقون في واقع الإسلام منذ بدايات عهد الدعوة الإسلامية حتى اليوم.
"فَزَادَهُمُ اللّه مَرَضًا" قد يتساءل المرء عن هذه الزيادة التي ينسبها اللّه إلى نفسه، فهل أراد اللّه لهذا المرض أن يزيد بشكل مباشر؟ وكيف تتعلّق إرادة اللّه بتعاظم النفاق في داخل هؤلاء المنافقين، في الوقت الذي يلعن فيه اللّه النفاق والمنافقين؟
وقد يكون الجواب في هذا المجال، أنَّ هذا التعبير ينسجم مع التعابير القرآنية الكثيرة التي ينسب فيها الفعل إلى اللّه، باعتبار أنَّ القوانين الطبيعية التي تقتضيها طبيعة الأشياء، في ما أودعه فيها من علاقة السببية، تستتبع هذا الفعل، وتقتضيه، مما يبرز نسبته إلى اللّه باعتباره مسبِّب الأسباب، ومكوِّن القوانين التي تحكم الأشياء، من دون أن ينافي ذلك نسبته إلى الإنسان، باعتباره الأداة المحركة للفعل بشكل مباشر، من خلال الإرادة المنطلقة من حركة العقل والفكر.
وعلى ضوء هذا نفهم الآيات؛ فإنَّ هذه العقدة انطلقت في حياة المنافقين على أساسٍ لا يبتعد عن حالة الإرادة والاختيار، واستمرت معهم بدون علاج، بل كان الأمر بالعكس؛ زيادةً في ممارسة النفاق، وإمعاناً في تأكيد طبيعته في الداخل والخارج، ما أوجب تعقيداً في المرض، واتساعاً لدوائره، تماماً كالمريض الذي يهمل مرضه، فلا يعالجه، بل يبقى زيادة على ذلك في تعامل مستمر مع أسبابه، ما يوجب تطوّره إلى الأسوأ، من خلال السنن الطبيعية التي أودعها اللّه في الكون، في مسائل الصحة والمرض، سواء أكانت جسدية أم روحية.
] وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ [فهم يتحملون المسؤولية الكاملة عن هذا الوضع الذي يعيشونه ويمارسون فيه الكذب كلمةً، وموقفاً، وعملاً، عن عمد وسبق إصرار. ومهما كانت الظاهرة مرضية، فإنها لا تبرر ما يؤدّونه من أعمال، لأنَّ المرض اختياري في بداياته، وقد كانوا قادرين على أن لا يقعوا في نهاياته، لأنهم يستطيعون أن يتخلصوا منه إذا شاءوا.