ولما خوفهم العقوبات الدنيوية ، خوفهم العقوبات الأخروية ، فقال : { وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمِ التَّنَادِ } أي : يوم القيامة ، حين ينادي أهل الجنة أهل النار : { أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا } إلى آخر الآيات .
{ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ }
وحين ينادي أهل النار مالكًا { ليقض علينا ربك } فيقول : { إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ } وحين ينادون ربهم : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } فيجيبهم : { اخْسؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ } وحين يقال للمشركين : { ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } فخوفهم رضي الله عنه هذا اليوم المهول ، وتوجع لهم أن أقاموا على شركهم بذل .
ثم قال : { وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ } يعني : يوم القيامة ، وسمي بذلك قال بعضهم : لما جاء في حديث الصور : إن الأرض إذا زلزلت وانشقت من قطر إلى قطر ، وماجت وارتجت ، فنظر الناس إلى ذلك ذهبوا هاربين ينادي بعضهم بعضا .
وقال آخرون منهم الضحاك : بل ذلك إذا جيء بجهنم ، ذهب الناس هِرَابا {[25503]} ، فتتلقاهم الملائكة فتردهم إلى مقام المحشر ، وهو قوله تعالى : { وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا } [ الحاقة : 17 ] ، وقوله { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ } [ الرحمن : 33 ] .
وقد روي عن ابن عباس ، والحسن ، والضحاك : أنهم قرؤوا : " يوم التنادّ " بتشديد الدال من ند البعير : إذا شرد وذهب .
وقيل : لأن الميزان عنده ملك ، وإذا وزن عمل العبد{[25504]} فرجح نادى بأعلى صوته : ألا قد سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا . وإن خف عمله نادى : ألا قد شقي فلان بن فلان .
وقال قتادة : ينادي كل قوم بأعمالهم : ينادي أهل الجنة أهل الجنة ، وأهل النار أهل النار .
وقيل : سمي بذلك لمناداة أهل الجنة أهل النار : { أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ } [ الأعراف : 44 ] . ومناداة أهل النار أهل الجنة : { أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ } [ الأعراف : 50 ] ، ولمناداة أصحاب الأعراف أهل الجنة وأهل النار ، كما هو مذكور في سورة الأعراف .
واختار البغوي وغيره : أنه سمي بذلك لمجموع ذلك . وهو قول حسن جيد ، والله أعلم{[25505]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقَوْمِ إِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التّنَادِ * يَوْمَ تُوَلّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هذا المؤمن لفرعون وقومه : وَيا قَوْمِ إنّي أخافُ عَلَيْكُمْ بقتلكم موسى إن قتلتموه عقاب الله يَوْمَ التّنادِ .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : يَوْمَ التّنَادِ فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار : يَوْمَ التّنادِ بتخفيف الدال ، وترك إثبات الياء ، بمعنى التفاعل ، من تنادي القوم تناديا ، كما قال جلّ ثناؤه : وَنادَى أصحَابُ الجَنّةِ أصحَابَ النّارِ أنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبّنا حَقّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبّكُمْ حَقّا قالُوا نَعَمْ وقال : وَنَادَى أصحَابُ النّارِ أصْحَابَ الجَنّةِ أنّ أفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الماءِ فلذلك تأوّله قارئو ذلك كذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاريّ ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أنه قال في هذه الاَية يَوْمَ التّنادِ قال : يوم ينادي أهل النار أهل الجنة : أن أفيضوا علينا من الماء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ويَا قَوْمِ إنّي أخافُ عَلَيْكُم يَوْمَ التّنادِ يوم ينادي أهل الجنة أهل النار أنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبّنا حَقّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبّكُمْ حَقّا وينادي أهل النار أهل الجنة أنْ أفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ المَاءِ أوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يَوْمَ التّنادِ قال : يوم القيامة ينادي أهل الجنة أهل النار .
وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى ذلك على هذه القراءة تأويل آخر على غير هذا الوجه وهو ما :
حدثنا به أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ ، عن إسماعيل بن رافع المدنّي ، عن يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظيّ ، عن رجل من الأنصار ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «يَأْمُرُ اللّهُ إسْرَافِيلَ بالنّفْخَةِ الأُولى ، فَيَقُولُ : انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ ، فَفَزِعَ أهْلُ السّمَوَاتِ وأهْلُ الأرْضِ إلاّ مَنْ شَاءَ اللّهُ ، ويَأْمُرُهُ اللّهُ أنْ يُدِيمَها وَيُطَوّلَهَا فَلا يَفْتَرُ ، وَهِيَ التي يَقُولُ اللّهُ : وَما يَنْظُرُ هَولاءِ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةٍ ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ، فَيُسَيّرُ اللّهُ الجِبالَ فَتَكُونُ سَرَابا ، فَتُرَجّ الأرْضُ بأهْلِها رَجّا ، وَهِيَ التي يَقُولُ اللّهُ : يَوْمَ تُرْجَفُ الرّاجِفَةُ تَتْبَعُها الرّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ فَتَكُونُ كالسّفِينَةِ المُرْتَعَةِ فِي البَحْرِ تَضَرِبُها الأمْوَاجُ تَكْفأُ بأهْلِها ، أوْ كالقِنْدِيلِ المُعَلّقِ بالعَرْشِ تَرُجّهُ الأرْوَاحُ ، فَتَمِيدُ النّاسَ عَلى ظَهْرِها ، فَتَذْهَلُ المَرَاضِعُ ، وَتَضَعُ الحَوَامِلُ ، وَتَشِيبُ الوِلْدانُ ، وَتَطِيرُ الشّياطِينُ هارِبَةً حتى تأتي الأقْطارَ ، فَتَلَقّاها المَلائِكَةُ ، فَتَضْرِبُ وُجُوهَها ، فَترْجِعَ وَيُوَلي النّاسُ مُدْبِرينَ ، يُنادِي بَعْضُهُمْ بَعْضا ، وَهُوَ الّذِي يَقُولُ اللّهُ : يَوْمَ التّنادِ يَوْمَ تُوَلّونَ مُدْبِرينَ ما لَكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عاصِمِ » .
فعلى هذا التأويل معنى الكلام : ويا قوم إني أخاف عليكم يوم ينادي الناس بعضهم بعضا من فزع نفخة الفزع .
وقرأ ذلك آخرون : «يَوْمَ التّنادّ » بتشديد الدال ، بمعنى : التفاعل من النّدّ ، وذلك إذا هربوا فنَدّوا في الأرض ، كما تَنِدّ الإبل : إذا شَرَدَت على أربابها . ذكر من قال ذلك كذلك ، وذكر المعنى الذي قَصَد بقراءته ذلك كذلك :
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقيّ ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن الأجلح ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم ، قال : إذا كان يوم القيامة ، أمر الله السماء الدنيا فتشقّقت بأهلها ، ونزل من فيها من الملائكة ، فأحاطوا بالأرض ومن عليها ، ثم الثانية ، ثم الثالثة ، ثم الرابعة ، ثم الخامسة ، ثم السادسة ، ثم السابعة ، فصفوا صفا دون صف ، ثم ينزل الملك الأعلى على مجنبته اليسرى جهنم ، فإذا رآها أهل الأرض نَدّوا فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا وجدوا السبعة صفوف من الملائكة ، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه ، فذلك قول الله : إنّي أخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التّنادِ يَوْمَ توَلّونَ مُدْبِرِين وذلك قوله : وَجاءَ رَبّكَ وَالمَلَكُ صَفّا صَفّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنّمَ ، وقوله : يا مَعْشَرَ الجِنّ والإنْس إن اسْتَطَعْتُمْ أنْ تَنْفُذُوا مِنْ أقْطارِ السّمَوَاتِ والأرْضِ فانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إلاّ بِسُلْطانٍ ، وذلك قوله : وَانْشَقّتِ السّماءُ فَهِي يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالمَلَكُ على أرْجائِها .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله يَوْمَ التّنادِ قال : تَنِدّون .
ورُوِي عن الحسن البصري أنه قرأ ذلك : «يَوْمَ التّنادِي » بإثبات الياء وتخفيف الدال .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار ، وهو تخفيف الدال وبغير إثبات الياء ، وذلك أن ذلك هو القراءة التي عليها الحجة مجمعة من قرّاء الأمصار ، وغير جائز خلافها فيما جاءت به نقلاً . فإذا كان ذلك هو الصواب ، فمعنى الكلام : ويا قوم إني أخاف عليكم يوم ينادي الناس بعضُهم بعضا ، إما من هول ما قد عاينوا من عظيم سلطان الله ، وفظاعة ما غشيهم من كرب ذلك اليوم ، وإما لتذكير بعضهم بعضا إنجاز الله إياهم الوعد الذي وعدهم في الدنيا ، واستغاثة من بعضهم ببعض ، مما لقي من عظيم البلاء فيه .