{ 55 - 56 } { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }
الدعاء يدخل فيه دعاء المسألة ، ودعاء العبادة ، فأمر بدعائه { تَضَرُّعًا } أي : إلحاحا في المسألة ، ودُءُوبا في العبادة ، { وَخُفْيَةً } أي : لا جهرا وعلانية ، يخاف منه الرياء ، بل خفية وإخلاصا للّه تعالى .
{ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } أي : المتجاوزين للحد في كل الأمور ، ومن الاعتداء كون العبد يسأل اللّه مسائل لا تصلح له ، أو يتنطع في السؤال ، أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء ، فكل هذا داخل في الاعتداء المنهي عنه .
أرشد [ سبحانه و ]{[11818]} تعالى عباده إلى دعائه ، الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم ، فقال تعالى : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } [ قيل ]{[11819]} معناه : تذللا واستكانة ، و { خُفْيَة } كما قال : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ [ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ{[11820]} ] } [ الأعراف : 205 ] وفي الصحيحين ، عن أبي موسى الأشعري [ رضي الله عنه ]{[11821]} قال : رفع الناس أصواتهم بالدعاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس ، ارْبَعُوا على أنفسكم ؛ فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا ، إن الذي تدعونه سميع قريب{[11822]} {[11823]} الحديث .
وقال ابن جُرَيْج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس في قوله : { تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } قال : السر .
وقال ابن جرير : { تَضَرُّعًا } تذللا واستكانة لطاعته . { وَخُفْيَة } يقول : بخشوع قلوبكم ، وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه ، لا جهارا ومراءاة .
وقال عبد الله بن المبارك ، عن المبارك بن فضالة ، عن الحسن قال : إنْ كانَ الرجل لقد جمع القرآن ، وما يشعر به الناس . وإن كان الرجل لقد فقُه{[11824]} الفقه الكثير ، وما يشعر به الناس . وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزُّوَّر وما يشعرون به . ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر ، فيكون علانية أبدا . ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ، وما يُسمع لهم صوت ، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم ، وذلك أن الله تعالى يقول : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ] }{[11825]} وذلك أن الله ذكر عبدًا صالحا رَضِي فعله فقال : { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا } [ مريم : 3 ]
وقال ابن جُرَيْج : يكره رفع الصوت والنداء والصياحُ في الدعاء ، ويؤمر بالتضرع والاستكانة ، ثم روي عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } في الدعاء ولا في غيره .
وقال أبو مِجْلِز : { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } لا يسأل{[11826]} منازل الأنبياء .
وقال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله : حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي ، حدثنا شعبة ، عن زياد ابن مِخْراق ، سمعت أبا نعامة{[11827]} عن مولى لسعد ؛ أن سعدًا سمع ابنا له يدعو وهو يقول : اللهم ، إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحوا من هذا ، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها . فقال : لقد سألت الله خيرًا كثيرًا ، وتعوذت بالله من شر كثير ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء " . وقرأ هذه الآية : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ] }{[11828]}
وإن بحسبك أن تقول : " اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل " {[11829]}
ورواه أبو داود ، من حديث شعبة ، عن زياد بن مخراق ، عن أبي نَعَامة ، عن ابن لسعد ، عن سعد ، فذكره{[11830]} والله أعلم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفَّان ، حدثنا حَمَّاد بن سلمة ، أخبرنا الجريري ، عن أبي نَعَامة : أن عبد الله بن مغفل{[11831]} سمع ابنه يقول : اللهم ، إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها . فقال : يا بني ، سل الله الجنة ، وعذ به من النار ؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يكون قوم يعتدون في الدعاء والطَّهُور " .
وهكذا رواه ابن ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن عفان به . وأخرجه أبو داود ، عن موسى ابن إسماعيل ، عن حماد بن سلمة ، عن سعيد بن إياس الجريري ، عن أبي نَعَامة{[11832]} - واسمه : قيس ابن عباية الحنفي البصري - وهو إسناد حسن لا بأس به ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { ادْعُواْ رَبّكُمْ تَضَرّعاً وَخُفْيَةً إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ } .
يقول تعالى ذكره : ادعوا أيها الناس ربكم وحده ، فأخلصوا له الدعاء دون ما تدعون من دونه من الاَلهة والأصنام . تَضَرّعا يقول : تذللاً واستكانة لطاعته . وَخُفْيَةً يقول : بخشوع قلوبكم وصحة اليقين منكم بوحدانيته فيما بينكم وبينه ، لا جهارا مراءاة ، وقلوبكم غير موقنة بوحدانيته وربوبيته ، فعل أهل النفاق والخداع لله ولرسوله . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن المبارك فضالة ، عن الحسن ، قال : إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر جاره ، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس ، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوّار وما يشعرون به . ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السرّ فيكون علانية أبدا . ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلاّ همسا بينهم وبين ربهم وذلك أن الله يقول : ادْعُوا رَبّكُمُ تَضَرّعا وَخُفْيَةً وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا ، فرضي فعله فقال : إذْ نادَى رَبّهُ نِدَاءً خَفِيّا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عاصم الأحول ، عن أبي عثمان النهدي ، عن أبي موسى ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزاة ، فأشرفوا على واد يكبرون ويهللون ويرفعون أصواتهم ، فقال : «أيّها النّاسُ ارْبَعُوا على أنْفُسِكُمْ ، إنّكُمْ لا تَدْعُونَ أصَمّ وَلا غائِبا إنّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعا قَرِيبا مَعَكُمْ » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قوله : ادْعُوا رَبّكُمْ تَضَرّعا وَخْفْيَةً قال : السرّ .
وأما قوله : إنّهُ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ فإن معناه : إن ربكم لا يحبّ من اعتدى فتجاوز حدّه الذي حدّه لعباده في دعائه ومسألته ربه ، ورفعه صوته فوق الحدّ الذي حدّ لهم في دعائهم إياه ومسألتهم وفي غير ذلك من الأمور . كما :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، قال : أنبأنا إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان عن عبادبن عباد ، عن علقمة ، عن أبي مجلز : ادْعُوا رَبّكُمْ تَضَرّعا وَخُفْيَةً إنه لا يحِبّ المُعْتَدِينَ قال : لا يسأل منازل الأنبياء عليهم السلام .
حدثني القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : إنّهُ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ في الدعاء ولا في غير . قال ابن جريج : إن من الدعاء اعتداء يكره رفع الصوت والنداء والصياح بالدعاء ، ويؤمر بالتضرّع والاستكانة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.