{ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ } بعمل المعاصي { بَعْدَ إِصْلَاحِهَا } بالطاعات ، فإن المعاصي تفسد الأخلاق والأعمال والأرزاق ، كما قال تعالى : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } كما أن الطاعات تصلح بها الأخلاق ، والأعمال ، والأرزاق ، وأحوال الدنيا والآخرة .
{ وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } أي : خوفا من عقابه ، وطمعا في ثوابه ، طمعا في قبولها ، وخوفا من ردها ، لا دعاء عبد مدل على ربه قد أعجبته نفسه ، ونزل نفسه فوق منزلته ، أو دعاء من هو غافل لاَهٍ .
وحاصل ما ذكر اللّه من آداب الدعاء : الإخلاص فيه للّه وحده ، لأن ذلك يتضمنه الخفية ، وإخفاؤه وإسراره ، وأن يكون القلب خائفا طامعا لا غافلا ، ولا آمنا ولا غير مبال بالإجابة ، وهذا من إحسان الدعاء ، فإن الإحسان في كل عبادة بذل الجهد فيها ، وأداؤها كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه ، ولهذا قال : { إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } في عبادة اللّه ، المحسنين إلى عباد اللّه ، فكلما كان العبد أكثر إحسانا ، كان أقرب إلى رحمة ربه ، وكان ربه قريبا منه برحمته ، وفي هذا من الحث على الإحسان ما لا يخفى .
وقوله تعالى : { وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا } ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض ، وما أضره بعد الإصلاح ! فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ، ثم وقع الإفساد بعد ذلك ، كان أضر ما يكون على العباد . فنهى [ الله ]{[11833]} تعالى عن ذلك ، وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل لديه ، فقال : { وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } أي : خوفا مما عنده من وبيل العقاب ، وطمعًا فيما عنده من جزيل الثواب .
ثم قال : { إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } أي : إن رحمته مُرْصَدة للمحسنين ، الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره ، كما قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ . [ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ ] }{[11834]} [ الأعراف : 156 ، 157 ] .
وقال : { قَرِيبٌ } ولم يقل : " قريبة " ؛ لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب ، أو لأنها مضافة إلى الله ، فلهذا قال : قريب من المحسنين .
وقال مطر الوراق : تَنَجَّزوا موعود{[11835]} الله بطاعته ، فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين ، رواه ابن أبي حاتم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنّ رَحْمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إصْلاحِها لا تشركوا بالله في الأرض ولا تعصوه فيها وذلك هو الفساد فيها . وقد ذكرنا الرواية في ذلك فيما مضى وبيّنا معناه بشواهده . بعدَ إصْلاحِها يقول : بعد إصلاح الله إياها لأهل طاعته بابتعاثه فيهم الرسل دعاة إلى الحقّ ، وإيضاحه حججه لهم . وَادْعُوهُ خَوْفا وَطَمَعا يَقُولُ : وأخلصوا له الدعاء والعمل ، ولا تشركوا في عملكم له شيئا غيره من الاَلهة والأصنام وغير ذلك ، وليكن ما يكون منكم في ذلك خوفا من عقابه وطمعا في ثوابه وإن من كان دعاؤه إياه على غير ذلك فهو بالاَخرة من المكذّبين ، لأن من لم يخف عقاب الله ولم يَرْج ثوابه لم يبال ما ركب من أمر يسخطه الله ولا يرضاه . إنّ رَحمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ يقول تعالى ذكره : إن ثواب الله الذي وعد المحسنين على إحسانهم في الدنيا قريب منهم . وذلك هو رحمته لأنه ليس بينهم وبين أن يصيروا إلى ذلك من رحمته وما أعدّ لهم من كرامته ، إلاّ أن تفارق أرواحهم أجسادهم ولذلك من المعنى ذكر قوله : قَريبٌ وهو من خبر الرحمة والرحمة مؤنثة ، لأنه أريد به القرب في الوقت لا في النسب والأوقات بذلك المعنى ، إذا رفعت أخبارا للأسماء أجرتها العرب مجرى الحال فوحدتها مع الواحد والاثنين والجميع وذكّرتها مع المؤنث ، فقالوا : كرامة الله بعيد من فلان ، وهي قريب من فلان ، كما يقولون : هند قريب منا ، والهندان منا قريب ، والهندات منا قريب ، لأن معنى ذلك : هي في مكان قريب منا ، فإذا حذفوا المكان وجعلوا القريب خلفا منه ، ذكروه ووحدوه في الجمع ، كما كان المكان مذكرا وموحدا في الجمع . وأما إذا أنثوه أخرجوه مثنى مع الاثنين ومجموعا مع الجميع فقالوا : هي قريبة ، منا ، وهما منا قريبتان ، كما قال عروة بن الورد :
عَشِيّةَ لا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَرِيبَةٌ ***فَتَدْنُو وَلا عَفْراءُ مِنْكَ بَعِيدُ
فأنّث قريبة ، وذكّر بعيدا على ما وصفت . ولو كان القريب من القرابة في النسب لم يكن مع المؤنث إلاّ مؤنثا ومع الجمع إلاّ مجموعا . وكان بعض نحويي البصرة يقول : ذُكّر قريب وهو صفة للرحمة ، وذلك كقول العرب : ريح خريق ، وملحفة جديد ، وشاة سديس . قال : وإن شئت قلت : تفسير الرحمة ههنا المطر ونحوه ، فلذلك ذكر كما قال : وَإنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا فذكّر لأنه أراد الناس ، وإن شئت جعلته كبعض ما يذكرون من المؤنث ، كقول الشاعر :
***وَلا أرْضَ أبْقَلَ إبْقالَهَا ***
وقد أنكر ذلك من قيله بعض أهل العربية ، ورأى أنه يلزمه إن جاز أن يذكر قريبا توجيها منه للرحمة إلى معنى المطر أن يقول : هند قام ، توجيها منه لهند وهي امرأة إلى معنى إنسان ، ورأى أن ما شبه به قوله : إنّ رَحْمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ بقوله : وإنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنوا غير مشبهة ، وذلك أن الطائفة فيما زعم مصدر بمعنى الطيف ، كما الصيحة والصياح بمعنى ، ولذلك قيل : وأخَذَ الّذِينَ ظَلَمُوا الصّيْحَةُ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.