{ 32 - 34 } { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا }
يقول تعالى : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ } خطاب لهن كلهن { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ } اللّه ، فإنكن بذلك ، تفقن النساء ، ولا يلحقكن أحد من النساء ، فكملن التقوى بجميع وسائلها ومقاصدها .
فلهذا أرشدهن إلى قطع وسائل المحرم ، فقال : { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ } أي : في مخاطبة الرجال ، أو بحيث يسمعون فَتَلِنَّ في ذلك ، وتتكلمن بكلام رقيق يدعو ويطمع { الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي : مرض شهوة الزنا ، فإنه مستعد ، ينظر أدنى محرك يحركه ، لأن قلبه غير صحيح [ فإن القلب الصحيح ]{[1]} ليس فيه شهوة لما حرم اللّه ، فإن ذلك لا تكاد تُمِيلُه ولا تحركه الأسباب ، لصحة قلبه ، وسلامته من المرض .
بخلاف مريض القلب ، الذي لا يتحمل ما يتحمل الصحيح ، ولا يصبر على ما يصبر عليه ، فأدنى سبب يوجد ، يدعوه إلى الحرام ، يجيب دعوته ، ولا يتعاصى عليه ، فهذا دليل على أن الوسائل ، لها أحكام المقاصد . فإن الخضوع بالقول ، واللين فيه ، في الأصل مباح ، ولكن لما كان وسيلة إلى المحرم ، منع منه ، ولهذا ينبغي للمرأة في مخاطبة الرجال ، أن لا تلِينَ لهم القول .
ولما نهاهن عن الخضوع في القول ، فربما توهم أنهن مأمورات بإغلاظ القول ، دفع هذا بقوله : { وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا } أي : غير غليظ ، ولا جاف كما أنه ليس بِلَيِّنٍ خاضع .
وتأمل كيف قال : { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ } ولم يقل : { فلا تَلِنَّ بالقول } وذلك لأن المنهي عنه ، القول اللين ، الذي فيه خضوع المرأة للرجل ، وانكسارها عنده ، والخاضع ، هو الذي يطمع فيه ، بخلاف من تكلم كلامًا لينًا ، ليس فيه خضوع ، بل ربما صار فيه ترفع وقهر للخصم ، فإن هذا ، لا يطمع فيه خصمه ، ولهذا مدح اللّه رسوله باللين ، فقال : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } وقال لموسى وهارون : { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى }
ودل قوله : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } مع أمره بحفظ الفرج وثنائه على الحافظين لفروجهم ، والحافظات ، ونهيه عن قربان الزنا ، أنه ينبغي للعبد ، إذا رأى من نفسه هذه الحالة ، وأنه يهش{[2]} لفعل المحرم عندما يرى أو يسمع كلام من يهواه ، ويجد دواعي طمعه قد انصرفت إلى الحرام ، فَلْيَعْرِفْ أن ذلك مرض .
فَلْيَجْتَهِدْ في إضعاف هذا المرض وحسم الخواطر الردية ، ومجاهدة نفسه على سلامتها من هذا المرض الخطر ، وسؤال اللّه العصمة والتوفيق ، وأن ذلك من حفظ الفرج المأمور به .
ثم يبين لأمهات المؤمنين اختصاصهن بما ليس لغيرهن من النساء ؛ ويقرر واجباتهن في معاملة الناس ، وواجبهن في عبادة الله ، وواجبهن في بيوتهن ؛ ويحدثهن عن رعاية الله الخاصة لهذا البيت الكريم ، وحياطته وصيانته من الرجس ؛ ويذكرهن بما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة ، مما يلقي عليهن تبعات خاصة ، ويفردهن بين نساء العالمين :
( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن . فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض ، وقلن قولا معروفا . وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، وأقمن الصلاة وآتين الزكاة ، وأطعن الله ورسوله ، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس - أهل البيت - ويطهركم تطهيرا . واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة . إن الله كان لطيفا خبيرا ) . .
لقد جاء الإسلام فوجد المجتمع العربي - كغيره من المجتمعات في ذلك الحين - ينظر إلى المرأة على أنها أداة للمتاع ، وإشباع الغريزة . ومن ثم ينظر إليها من الناحية الإنسانية نظرة هابطة .
كذلك وجد في المجتمع نوعا من الفوضى في العلاقات الجنسية . ووجد نظام الأسرة مخلخلا على نحو ما سبق بيانه في السورة .
هذا وذلك إلى هبوط النظرة إلى الجنس ؛ وانحطاط الذوق الجمالي ؛ والاحتفال بالجسديات العارمة ، وعدم الالتفات إلى الجمال الرفيع الهادئ النظيف . . يبدو هذا في أشعار الجاهليين حول جسد المرأة ، والتفاتاتهم إلى أغلظ المواضع فيه ، وإلى أغلظ معانيه !
فلما أن جاء الإسلام أخذ يرفع من نظرة المجتمع إلى المرأة ؛ ويؤكد الجانب الإنساني في علاقات الجنسين ؛ فليست هي مجرد إشباع لجوعة الجسد ، وإطفاء لفورة اللحم والدم ، إنما هي اتصال بين كائنين إنسانيين من نفس واحدة ، بينهما مودة ورحمة ، وفي اتصالهما سكن وراحة ؛ ولهذا الاتصال هدف مرتبط بإرادة الله في خلق الإنسان ، وعمارة الأرض ، وخلافة هذا الإنسان فيها بسنة الله .
كذلك أخذ يعنى بروابط الأسرة ؛ ويتخذ منها قاعدة للتنظيم الاجتماعي ؛ ويعدها المحضن الذي تنشأ فيه الأجيال وتدرج ؛ ويوفر الضمانات لحماية هذا المحضن وصيانته ، ولتطهيره كذلك من كل ما يلوث جوه من المشاعر والتصورات .
والتشريع للأسرة يشغل جانبا كبيرا من تشريعات الإسلام ، وحيزا ملحوظا من آيات القرآن . وإلى جوار التشريع كان التوجيه المستمر إلى تقوية هذه القاعدة الرئيسية التي يقوم عليها المجتمع ؛ وبخاصة فيما يتعلق بالتطهر الروحي ، وبالنظافة في علاقات الجنسين ، وصيانتها من كل تبذل ، وتصفيتها من عرامة الشهوة ، حتى في العلاقات الجسدية المحضة .
وفي هذه السورة يشغل التنظيم الاجتماعي وشؤون الأسرة حيزا كبيرا . وفي هذه الآيات التي نحن بصددها حديث إلى نساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وتوجيه لهن في علاقتهن بالناس ، وفي خاصة أنفسهن ، وفي علاقتهن بالله . توجيه يقول لهن الله فيه : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس - أهل البيت - ويطهركم تطهيرا ) .
فلننظر في وسائل إذهاب الرجس ، ووسائل التطهر ، التي يحدثهن الله - سبحانه - عنها ، ويأخذهن بها . وهن أهل البيت ، وزوجات النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأطهر من عرفت الأرض من النساء . ومن عداهن من النساء أحوج إلى هذه الوسائل ممن عشن في كنف رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وبيته الرفيع .
إنه يبدأ بإشعار نفوسهن بعظيم مكانهن ، ورفيع مقامهن ، وفضلهن على النساء كافة ، وتفردهن بذلك المكان بين نساء العالمين . على أن يوفين هذا المكان حقه ، ويقمن فيه بما يقتضيه :
( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن ) . .
( لستن كأحد من النساء إن اتقيتن ) . . فأنتن في مكان لا يشارككن فيه أحد ، ولا تشاركن فيه أحدا . ولكن ذلك إنما يكون بالتقوى . فليست المسألة مجرد قرابة من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بل لا بد من القيام بحق هذه القرابة في ذات أنفسكن .
وذلك هو الحق الصارم الحاسم الذي يقوم عليه هذا الدين ؛ والذي يقرره رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو ينادي أهله ألا يغرهم مكانهم من قرابته ، فإنه لا يملك لهم من الله شيئا : " يا فاطمة ابنة محمد . يا صفية ابنة عبد المطلب . يا بني عبد المطلب . لا أملك لكم من الله شيئا . سلوني من مالي ما شئتم " .
وفي رواية أخرى : " يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار . يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار . فإني والله لا أملك لكم من الله شيئا ، إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها " .
وبعد أن يبين لهن منزلتهن التي ينلنها بحقها ، وهو التقوى ، يأخذ في بيان الوسائل التي يريد الله أن يذهب بها الرجس عن أهل البيت ويطهرهم تطهيرا :
( فلا تخضعن بالقول ، فيطمع الذي في قلبه مرض ) . .
ينهاهن حين يخاطبن الأغراب من الرجال أن يكون في نبراتهن ذلك الخضوع اللين الذي يثير شهوات الرجال ، ويحرك غرائزهم ، ويطمع مرضى القلوب ويهيج رغائبهم !
ومن هن اللواتي يحذرهن الله هذا التحذير ؛ إنهن أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأمهات المؤمنين ، اللواتي لا يطمع فيهن طامع ، ولا يرف عليهن خاطر مريض ، فيما يبدو للعقل أول مرة . وفي أي عهد يكون هذا التحذير ? في عهد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وعهد الصفوة المختارة من البشرية في جيمع الأعصار . . ولكن الله الذي خلق الرجال والنساء يعلم أن في صوت المرأة حين تخضع بالقول ، وتترقق في اللفظ ، ما يثير الطمع في قلوب ، ويهيج الفتنة في قلوب . وأن القلوب المريضة التي تثار وتطمع موجودة في كل عهد ، وفي كل بيئة ، وتجاه كل امرأة ، ولو كانت هي زوج النبي الكريم ، وأم المؤمنين . وأنه لا طهارة من الدنس ، ولا تخلص من الرجس ، حتى تمتنع الأسباب المثيرة من الأساس .
فكيف بهذا المجتمع الذي نعيش اليوم فيه . في عصرنا المريض الدنس الهابط ، الذي تهيج فيه الفتن وتثور فيه الشهوات ، وترف فيه الأطماع ? كيف بنا في هذا الجو الذي كل شيء فيه يثير الفتنة ، ويهيج الشهوة وينبه الغريزة ، ويوقظ السعار الجنسي المحموم ? كيف بنا في هذا المجتمع ، في هذا العصر ، في هذا الجو ، ونساء يتخنثن في نبراتهن ، ويتميعن في أصواتهن ، ويجمعن كل فتنة الأنثى ، وكل هتاف الجنس ، وكل سعار الشهوة ؛ ثم يطلقنه في نبرات ونغمات ? ! وأين هن من الطهارة ? وكيف يمكن أن يرف الطهر في هذا الجو الملوث . وهن بذواتهن وحركاتهن وأصواتهن ذلك الرجس الذي يريد الله أن يذهبه عن عباده المختارين ? !
نهاهن من قبل عن النبرة اللينة واللهجة الخاضعة ؛ وأمرهن في هذه أن يكون حديثهن في أمور معروفة غير منكرة ؛ فإن موضوع الحديث قد يطمع مثل لهجة الحديث . فلا ينبغي أن يكون بين المرأة والرجل الغريب لحن ولا إيماء ، ولا هذر ولا هزل ، ولا دعابة ولا مزاح ، كي لا يكون مدخلا إلى شيء آخر وراءه من قريب أو من بعيد .
والله سبحانه الخالق العليم بخلقه وطبيعة تكوينهم هو الذي يقول هذا الكلام لأمهات المؤمنين الطاهرات . كي يراعينه في خطاب أهل زمانهن خير الأزمنة على الإطلاق !
ثم خاطبهن الله تعالى بأنهن لسن كأحد من نساء عصرهن فما بعد ، بل هن أفضل بشرط التقوى لما منحهن من صحبة الرسول وعظيم المحل منه ونزول القرآن في لحفهن ، وإنما خصص لأن فيمن تقدم آسية ومريم فتأمله ، وقد أشار إلى هذا قتادة ثم نهاهن الله تعالى عما كانت الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال برخيم القول ، و { لا تخضعن } معناه ولا تلن ، وقد يكون الخضوع في القول في نفس الألفاظ ورخامتها ، وإن لم يكن المعنى مريباً ، والعرب تستعمل لفظة الخضوع بمعنى الميل في الغزل ومنه قول ليلى الأخيلية حين قال لها الحجاج : هل رأيت قط من توبة شيئاً تكرهينه ، قالت : لا والله أيها الأمير إلا أنه أنشدني يوماً شعراً ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر فأنشدته : [ الطويل ]
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها . . . فليس إليها ما حييت سبيل{[9507]}
الحكاية ، وقال ابن زيد : خضوع القول ما يدخل في القلوب الغزل ، وقرأ الجمهور «فيطمعَ » بالنصب على أنه نصب بالفاء في جواب النهي ، وقرأ الأعرج وأبان بن عثمان «فيطمعِ » بالجزم وكسر للالتقاء{[9508]} ، وهذه فاء عطف محضة وكأن النهي دون جواب ظاهر ، وقراءة الجمهور أبلغ في النهي لأنها تعطي أن الخضوع سبب الطمع ، قال أبو عمرو الداني قرأ الأعرج وعيسى بن عمر «فيَطمِع » بفتح الياء وكسر الميم ، و «المرض » في هذه الآية قال قتادة هو النفاق ، وقال عكرمة الفسق والغزل وهذا أصوب ، وليس للنفاق مدخل في هذه الآية ، والقول المعروف هو الصواب الذي لا تنكره الشريعة ولا النفوس .
{ يانسآء النبيء لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء إِنِ اتقيتن }
أعيد خطابهن من جانب ربهنّ وأعيد نداؤهن للاهتمام بهذا الخبر اهتماماً يخصُّه .
وأحد : اسم بمعنى واحد مثل : { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] وهمزته بدل من الواو . وأصلهُ : وَحَد بوزن فَعَل ، أي متوحِّد ، كما قالوا : فَرَد بمعنى منفرد . قال النابغة يذكر ركوبه راحلته :
كان رحلي وقد زال النهار بنا *** يوم الجليل على مستأنس وَحد
يُريد على ثور وحشي منفرد . فلما ثقل الابتداء بالواو شاع أن يقولوا : أَحد ، وأكثر ما يستعمل في سياق النفي ، قال تعالى : { فما منكم من أحد عنه حاجزين } [ الحاقة : 47 ] فإذا وقع في سياق النفي دل على نفي كل واحد من الجنس .
ونفي المشابهة هُنا يراد به نفي المساواة مكنَّى به عن الأفضلية على غيرهنّ مثل نفي المساواة في قوله تعالى : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله } [ النساء : 95 ] ، فلولا قصد التفضيل ما كان لزيادة { غير أولي الضرر } وجه ولا لسبب نزولها داع كما تقدم في سورة النساء ( 95 ) . فالمعنى : أنتُنَّ أفضل النساء ، وظاهره تفضيل لجملتهن على نساء هذه الأمة ، وسبب ذلك أنهن اتصَلْنَ بالنبي عليه الصلاة والسلام اتصالاً أقرب من كل اتصال وصرن أنيساته ملازمات شؤونه فيختصصن باطلاع ما لم يطلع عليه غيرُهن من أحواله وخلقه في المنشط والمكره ، ويتخلقن بخلقه أكثر مما يقتبس منه غيرهن ، ولأن إقباله عليهن إقبالٌ خاص ، ألا ترى إلى قوله : حُبِّب إلي من دنياكم النساء والطيب ، وقال تعالى : { والطيبات للطيبين } [ النور : 26 ] . ثم إن نساء النبي عليه الصلاة والسلام يتفاضلن بينهن .
والتقييد بقوله : { إن اتقيتن } ليس لقصد الاحتراز عن ضد ذلك وإنما هو إلْهاب وتحريض على الازدياد من التقوى ، وقريب من هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة : " إن عبد الله يعني أخاها رجل صالح لو كان يَقوم من الليل " فلما أبلغت حفصة ذلك عبد اللَّه بن عمر لم يترك قيام الليل بعد ذلك لأنه علم أن المقصود التحريض على القيام .
وفعل الشرط مستعمل في الدلالة على الدوام ، أي إن دمتنّ على التقوى فإن نساء النبي صلى الله عليه وسلم مُتَّقِيات من قبلُ ، وجواب الشرط دل عليه ما قبله .
واعلم أن ظاهر هذه الآية تفضيل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على جميع نساء هذه الأمة . وقد اختُلِف في التفاضل بين الزوجات وبين بنات النبي صلى الله عليه وسلم وعن الأشعري الوقف في ذلك ، ولعل ذلك لتعارض الأدلة السمعية ولاختلاف جهات أصول التفضيل الدينية والروحية بحيث يعسر ضبطها بضوابط . أشار إلى جملة منها أبو بكر بن العربي في « شرح الترمذي » في حديث رؤيا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى ميزاناً نزل من السماء فوُزن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، فرجح النبي صلى الله عليه وسلم ووُزن أبو بكر وعُمر فرجح أبو بكر ، ووُزن عمر وعثمان فرجح عُمر ، ثم رُفع الميزان .
والجهات التي بنى عليها أبو بكر بن العربي أكثرها من شؤون الرجال . وليس يلزم أن تكون بنات النبي ولا نساؤه سواء في الفضل . ومن العلماء مَن جزموا بتفضيل بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم على أزواجه وبخاصة فاطمة رضي الله عنها وهو ظاهر كلام التفتزاني في كتاب « المقاصد » . وهي مسألة لا يترتب على تدقيقها عمل فلا ينبغي تطويل البحث فيها .
والأحسن أن يكون الوقف على { إن اتقيتن } ، وقوله { فلا تخضعن } ابتداء تفريع وليس هو جواب الشرط .
{ فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا }
فُرع على تفضيلهن وترفيع قدرهن إرشادُهُنّ إلى دقائق من الأخلاق قد تقع الغفلة عن مراعاتها لخفاء الشعور بآثارها ، ولأنها ذرائع خفية نادرة تفضي إلى ما لا يليق بحرمتهن في نفوس بعض ممن اشتملت عليه الأمة ، وفيها منافقوها .
وابتدىء من ذلك بالتحذير من هيئة الكلام فإن الناس متفاوتون في لينه ، والنساءُ في كلامهن رقّة طبيعية وقد يكون لبعضهن من اللطافة ولِين النفس ما إذا انضمّ إلى لينها الجبليّ قرُبت هيئته من هيئة التَدلّل لقلة اعتياد مثله إلا في تلك الحالة . فإذا بدا ذلك على بعض النساء ظَنّ بعض من يُشافِهُها من الرجال أنها تتحبّب إليه ، فربما اجترأت نفسُه على الطمع في المغازلة فبدرت منه بادرة تكون منافية لحرمة المرأة ، بله أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي هنّ أمهات المؤمنين .
والخضوع : حقيقته التذلّل ، وأطلق هنا على الرقة لمشابهتها التذلل .
والباء في قوله : { بالقول } يجوز أن تكون للتعدية بمنزلة همزة التعدية ، أي لا تُخضعن القول ، أي تَجعَلْنَه خاضعاً ذليلاً ، أي رقيقاً متفكّكا . وموقع الباء هنا أحسن من موقع همزة التعدية لأن باء التعدية جاءت من باء المصاحبة على ما بيّنه المحققون من النحاة أن أصل قولك : ذهبت بزيد ، أنك ذهبتَ مصاحباً له فأنت أذهبته معك ، ثم تنوسي معنى المصاحبة في نحو : { ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] ، فلما كان التفكك والتزيين للقول يتبع تفكك القائل أسند الخضوع إليهن في صورة ، وأفيدت التعدية بالباء . ويجوز أن تكون الباء بمعنى ( في ) ، أي لا يكن منكُن لِين في القول .
والنهي عن الخضوع بالقول إشارة إلى التحذير مما هو زائد على المعتاد في كلام النساء من الرقة وذلك ترخيم الصوت ، أي ليكن كلامكن جزلاً .
والمرض : حقيقته اختلال نظام المزاج البدني من ضعف القوة ، وهو هنا مستعار لاختلال الوازع الديني مثل المنافقين ومن كان في أول الإيمان من الأَعراب ممن لم ترسخ فيه أخلاق الإسلام ، وكذلك من تخلّقوا بسوء الظن فيرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ، وقضية إفك المنافقين على عائشة رضي الله عنها شاهد لذلك .
وتقدم في قوله تعالى : { في قلوبهم مرض } في سورة البقرة ( 10 ) .
وانتصب { يطمَع } في جواب النهي بعد الفاء لأن المنهي عنه سبب في هذا الطمع .
وحذف متعلِق { فيطمع } تنزهاً وتعظيماً لشأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع قيام القرينة .
وعَطْفُ { وقلن قولاً معروفاً } على { لا تَخْضَعْنَ بالقول بمنزلة الاحتراس لئلا يحسبن أن الله كلفهن بخفض أصواتهن كحديث السرار .
والمعروف : هو الذي يألفه الناس بحسب العُرففِ العام ، ويشمل القول المعروف هيئة الكلام وهي التي سيق لها المقام ، ويشمل مدلولاته أن لا ينتهرن من يكلمهن أو يسمعنه قولاً بذيئاً من باب : فليقل خيراً أو ليصمت . وبذلك تكون هذه الجملة بمنزلة التذييل .