تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا} (29)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا }

ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل ، وهذا يشمل أكلها بالغصوب والسرقات ، وأخذها بالقمار والمكاسب الرديئة . بل لعله يدخل في ذلك أكل مال نفسك على وجه البطر والإسراف ، لأن هذا من الباطل وليس من الحق .

ثم إنه -لما حرم أكلها بالباطل- أباح لهم أكلها بالتجارات والمكاسب الخالية من الموانع ، المشتملة على الشروط من التراضي وغيره .

{ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } أي : لا يقتل بعضكم بعضًا ، ولا يقتل الإنسان نفسه . ويدخل في ذلك الإلقاءُ بالنفس إلى التهلكة ، وفعلُ الأخطار المفضية إلى التلف والهلاك { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } ومن رحمته أن صان نفوسكم وأموالكم ، ونهاكم عن إضاعتها وإتلافها ، ورتب على ذلك ما رتبه من الحدود .

وتأمل هذا الإيجاز والجمع في قوله : { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ } { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } كيف شمل أموال غيرك ومال نفسك وقتل نفسك وقتل غيرك بعبارة أخصر من قوله : " لا يأكل بعضكم مال بعض " و " لا يقتل بعضكم بعضًا " مع قصور هذه العبارة على مال الغير ونفس الغير فقط .

مع أن إضافة الأموال والأنفس إلى عموم المؤمنين فيه دلالة على أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ومصالحهم كالجسد الواحد ، حيث كان الإيمان يجمعهم على مصالحهم الدينية والدنيوية .

ولما نهى عن أكل الأموال بالباطل التي فيها غاية الضرر عليهم ، على الآكل ، ومن أخذ ماله ، أباح لهم ما فيه مصلحتهم من أنواع المكاسب والتجارات ، وأنواع الحرف والإجارات ، فقال : { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } أي : فإنها مباحة لكم .

وشرط التراضي -مع كونها تجارة- لدلالة أنه يشترط أن يكون العقد غير عقد ربا لأن الربا ليس من التجارة ، بل مخالف لمقصودها ، وأنه لا بد أن يرضى كل من المتعاقدين ويأتي به اختيارًا .

ومن تمام الرضا أن يكون المعقود عليه معلوما ، لأنه إذا لم يكن كذلك لا يتصور الرضا مقدورًا على تسليمه ، لأن غير المقدور عليه شبيه ببيع القمار ، فبيع الغرر بجميع أنواعه خال من الرضا فلا ينفذ عقده .

وفيها أنه تنعقد العقود بما دل عليها من قول أو فعل ، لأن الله شرط الرضا فبأي طريق حصل الرضا انعقد به العقد . ثم ختم الآية بقوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } ومن رحمته أن عصم دماءكم وأموالكم وصانها ونهاكم عن انتهاكها .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا} (29)

24

والفقرة الثانية في هذا الدرس ، تتناول جانبًا من العلاقات المالية في المجتمع المسلم ، لتنظيم طرق التعامل في هذا الجانب ؛ لضمان طهارة التعامل بين الأفراد عامة ؛ ثم لتقرير حق النساء كالرجال في الملك والكسب - كل حسب نصيبه - وأخيرًا لتنظيم التعامل في عقود الولاء التي كانت سارية في الجاهلية وفي القسم الأول من صدر الإسلام ، لتصفية هذا النظام ، وتخصيص الميراث بالأقارب ؛ ومنع عقود الولاء الجديدة :

يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل - إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم - ولا تقتلوا أنفسكم ، إن الله كان بكم رحيما . ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارًا . وكان ذلك على الله يسيرًا . إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ؛ وندخلكم مدخلا كريمًا . ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ، للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ، وأسالوا الله من فضله ، إن الله كان بكل شيء عليمًا . ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ؛ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدًا . .

إنها حلقة في سلسلة التربية ، وحلقة في سلسلة التشريع . . والتربية والتشريع في المنهج الإسلامي متلازمان ؛ أو متداخلان ؛ أو متكاملان . . فالتشريع منظور فيه إلى التربية ؛ كما هو منظور فيه إلى تنظيم شؤون الحياة الواقعية ؛ والتوجيهات المصاحبة للتشريع منظور فيها إلى تربية الضمائر ؛ كما أنه منظور فيها إلى حسن تنفيذ التشريع ، وانبعاث التنفيذ عن شعور بجدية هذا التشريع ؛ وتحقق المصلحة فيه . والتشريع والتوجيه المصاحب منظور فيهما - معًا - إلى ربط القلب بالله ، وإشعاره بمصدر هذا المنهج المتكامل من التشريع والتوجيه . . وهذه هي خاصية المنهج الرباني للحياة البشرية . . هذا التكامل الذي يصلح الحياة الواقعية ، ويصلح الضمير البشري في ذات الأوان . .

وهنا في هذه الفقرة نجد النهي للذين آمنوا عن أكل أموالهم بينهم بالباطل - وبيان الوجه الحلال للربح في تداول الأموال - وهو التجارة - ونجد إلى جانبه تصوير أكل الأموال بالباطل بأنه قتل للأنفس ؛ وهلكة وبوار . ونجد إلى جانبه كذلك التحذير من عذاب الآخرة ، ومس النار ! . . وفي الوقت ذاته نجد التيسير والوعد بالمغفرة والتكفير ، والعون على الضعف والعفو عن التقصير . . كذلك نجد تربية النفوس على عدم التطلع إلى ما أنعم الله على البعض ، والتوجه إلى الله - صاحب العطاء - وسؤال من بيده الفضل والعطاء . وذلك التوجيه مصاحب لتقرير حق الرجال ونصيبهم فيما اكتسبوا ، وحق النساء ونصيبهن فيما اكتسبن ، وهذا وذلك مصحوب بأن الله كان بكل شيء عليمًا . . كما أن بيان التصرف في عقود الولاء ، والأمرء بالوفاء بها نجده مصحوبًا بأن الله كان على كل شيء شهيدًا . . وهي لمسات وجدانية مؤثرة مصاحبة للتشريع ، وتوجيهات تربوية من صنع العليم بالإنسان ، وتكوينه النفسي ، ومسالك نفسه ودروبها الكثيرة .

( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل - إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم - ولا تقتلوا أنفسكم . إن الله كان بكم رحيمًا . ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا فسوف نصليه نارًا ، وكان ذلك على الله يسيرًا ) .

النداء للذين آمنوا ، والنهي لهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل .

( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) .

مما يوحي بأنها عملية تطهير لبقايا رواسب الحياة الجاهلية في المجتمع الإسلامي ؛ واستجاشة ضمائر المسلمين بهذا النداء : يا أيها الذين آمنوا . . واستحياء مقتضيات الإيمان . مقتضيات هذه الصفة التي يناديهم الله بها ، لينهاهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل .

وأكل الأموال بالباطل يشمل كل طريقة لتداول الأموال بينهم لم يأذن بها الله ، أو نهى عنها ، ومنها الغش والرشوة والقمار واحتكار الضروريات لإغلائها ، وجميع أنواع البيوع المحرمة - والربا في مقدمتها - ولا نستطيع أن نجزم إن كان هذا النص قد نزل بعد تحريم الربا أو قبله ؛ فإن كان قد نزل قبله ، فقد كان تمهيدًا للنهي عنه . فالربا أشد الوسائل أكلا للأموال بالباطل . وإن كان قد نزل بعده ، فهو يشمله فيما يشمل من ألوان أكل أموال الناس بالباطل .

واستثنى العمليات التجارية التي تتم عن تراض بين البائع والشاري :

( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) . .

وهو استثناء منقطع . . تأويله : ولكن إذا كانت تجارة عن تراض منكم فليست داخلة في النص السابق . . ولكن مجيئها هكذا في السياق القرآني ، يوحي بنوع من الملابسة بينها وبين صور التعامل الأخرى ، التي توصف بأنها أكل لأموال الناس بالباطل . . وندرك هذه الملابسة إذا استصحبنا ما ورد في آيات النهي عن الربا - في سورة البقرة - من قول المرابين في وجه تحريم الربا : ( إنما البيع مثل الربا ) . . ورد الله عليهم في الآية نفسها : ( وأحل الله البيع وحرم الربا ) . . فقد كان المرابون يغالطون ، وهم يدافعون عن نظامهم الاقتصادي الملعون . فيقولون : إن البيع - وهو التجارة - تنشأ عنها زيادة في الأموال وربح . فهو - من ثم - مثل الربا . فلا معنى لإحلال البيع وتحريم الربا !

والفرق بعيد بين طبيعة العمليات التجارية والعمليات الربوية أولا ، وبين الخدمات التي تؤديها التجارة للصناعة وللجماهير ؛ والبلاء الذي يصبه الربا على التجارة وعلى الجماهير .

فالتجارة وسيط نافع بين الصناعة والمستهلك ؛ تقوم بترويج البضاعة وتسويقها ؛ ومن ثم تحسينها وتيسير الحصول عليها معًا . وهي خدمة للطرفين ، وانتفاع عن طريق هذه الخدمة . انتفاع يعتمد كذلك على المهارة والجهد ؛ ويتعرض في الوقت ذاته للربح والخسارة . .

والربا على الضد من هذا كله . يثقل الصناعة بالفوائد الربوية التي تضاف إلى أصل التكاليف ويثقل التجارة والمستهلك بأداء هذه الفوائد التي يفرضها على الصناعة . وهو في الوقت ذاته - كما تجلى ذلك في النظام الرأسمالي عندما بلغ أوجه - يوجه الصناعة والاستثمار كله وجهة لا مراعاة فيها لصالح الصناعة ولا لصالح الجماهير المستهلكة ؛ وإنما الهدف الأول فيها زيادة الربح للوفاء بفوائد القروض الصناعية . ولو استهلكت الجماهير مواد الترف ولم تجد الضروريات ! ولو كان الاستثمار في أحط المشروعات المثيرة للغرائز ، المحطمة للكيان الإنساني . . وفوق كل شيء . . هذا الربح الدائم لرأس المال ؛ وعدم مشاركته في نوبات الخسارة - كالتجارة - وقلة اعتماده على الجهد البشري ، الذي يبذل حقيقة في التجارة . . إلى آخر قائمة الاتهام السوداء التي تحيط بعنق النظام الربوي ؛ وتقتضي الحكم عليه بالإعدام ؛ كما حكم عليه الإسلام !

فهذه الملابسة بين الربا والتجارة ، هي التي لعلها جعلت هذا الاستدراك - ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) يجيء عقب النهي عن أكل الأموال بالباطل . وإن كان استثناء منقطعًا كما يقول النحويون !

( ولا تقتلوا أنفسكم . إن الله كان بكم رحيما ) . .

تعقيب يجيء بعد النهي عن أكل الأموال بالباطل ؛ فيوحي بالآثار المدمرة التي ينشئها أكل الأموال بالباطل في حياة الجماعة ؛ إنها عملية قتل . . يريد الله أن يرحم الذين آمنوا منها ، حين ينهاهم عنها !

وإنها لكذلك . فما تروج وسائل أكل الأموال بالباطل في جماعة : بالربا . والغش . والقمار . والاحتكار . والتدليس . والاختلاس . والاحتيال . والرشوة . والسرقة . وبيع ما ليس يباع : كالعرض . والذمة . والضمير . والخلق . والدين ! - مما تعج به الجاهليات القديمة والحديثة سواء - ما تروج هذه الوسائل في جماعة ، إلا وقد كتب عليها أن تقتل نفسها ، وتتردى في هاوية الدمار !

والله يريد أن يرحم الذين آمنوا من هذه المقتلة المدمرة للحياة ، المردية للنفوس ؛ وهذا طرف من إرادة التخفيف عنهم ؛ ومن تدارك ضعفهم الإنساني ، الذي يرديهم حين يتخلون عن توجيه الله ، إلى توجيه الذين يريدون لهم أن يتبعوا الشهوات !

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا} (29)

هذا استثناء ليس من الأول ، والمعنى : لكن إن كانت تجارة فكلوها{[3968]} .

وقرأ المدنيون وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو : «تجارةٌ » بالرفع على تمام «كان » وأنها بمعنى : وقع ، وقرأت فرقة ، هي الكوفيون حمزة وعاصم والكسائي : «تجارةً » بالنصب على نقصان «كان » ، وهو اختيار أبي عبيد .

قال القاضي أبو محمد : وهما قولان قويان ، إلا أن تمام «كان » يترجح عند بعض ، لأنها صلة «أن » فهي محطوطة عن درجتها إذا كانت سليمة من صلة وغيرها ، وهذا ترجيح ليس بالقوي ولكنه حسن ، و { أن } في موضع نصب ، ومن نصب «تجارة » جعل اسم كان مضمراً ، تقديره الأموال أموال تجارة ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، أو يكون التقدير : إلا أن تكون التجارة تجارة ، ومثل ذلك قول الشاعر : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** إذا كان يوماً ذا كواكبَ أشنعا{[3969]}

أي : إذا كان اليوم يوماً ، والاستثناء منقطع في كل تقدير وفي قراءة الرفع . فأكل الأموال بالتجارة جائز بإجماع الأمّة ، والجمهور على جواز الغبن في التجارة ، مثال ذلك : أن يبيع الرجل ياقوتة بدرهم وهي تساوي مائة ، فذلك جائز ، ويعضده حديث النبي صلى الله عليه وسلم «لا يبع حاضر لبادٍ »{[3970]} لأنه إنما أراد بذلك أن يبيع البادي باجتهاده ، ولا يمنع الحاضر الحاضر من رزق الله في غبنه ، وقالت فرقة : الغبن إذا تجاوز الثلث مردود ، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات ، وأما المتفاحش الفادح فلا ، وقاله ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله . و { عن تراض } معناه عن رضا ، إلا أنها جاءت من المفاعلة ، إذ التجارة من اثنين ، واختلف أهل العلم في التراضي ، فقالت طائفة : تمامه وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقدة البيع ، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه : اختر فيقول : قد اخترت ، وذلك بعد العقدة أيضاً ، فينجزم حينئذ ، هذا هو قول الشافعي وجماعة من الصحابة ، وحجته حديث النبي صلى الله عليه وسلم «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار »{[3971]} وهو حديث ابن عمر وأبي برزة ، ورأيهما - وهما الراويان - أنه افتراق الأبدان .

قال القاضي أبو محمد : والتفرق لا يكون حقيقة إلا بالأبدان ، لأنه من صفات الجواهر ، وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله : تمام التراضي أن يعقد البيع بالألسنة فتنجزم العقدة بذلك ويرتفع الخيار ، وقالا في الحديث المتقدم : إنه التفرق بالقول ، واحتج بعضهم بقوله تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلاًّ من سعته }{[3972]} فهذه فرقة بالقول لأنها بالطلاق ، قال من احتج للشافعي : بل هي فرقة بالأبدان ، بدليل تثنية الضمير ، والطلاق لا حظّ للمرأة فيه ، وإنما حظها في فرقة البدن التي هي ثمرة الطلاق ، قال الشافعي : ولو كان معنى قوله : يتفرقا بالقول الذي هو العقد لبطلت الفائدة في قوله : البيعان بالخيار ، لأنه لا يشك في أن كل ذي سلعة مخير ما لم يعقد ، فجاء الإخبار لا طائل فيه ، قال من احتجّ لمالك : إنما القصد في الحديث الإخبار عن وجوب ثبوت العقد ، فجاء قوله : البيعان بالخيار توطئة لذلك ، وإن كانت التوطئة معلومة ، فإنها تهيىء النفس لاستشعار ثبوت العقد ولزومها ، واستدل الشافعي بقوله عليه السلام :

«لا يسم الرجل على سوم أخيه ، ولا بيع الرجل على بيع أخيه »{[3973]} فجعلها مرتبتين لأن حالة البيعين بعد العقد قبل التفرق تقتضي أن يفسد مفسد بزيادة في السلعة فيختارربها حل الصفقة الأولى ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك الإفساد ، ألا ترى أنه عليه السلام قال : «لا يخطب الرجل على خطبة أخيه »{[3974]} فهي في درجة ؛ لا يسم ، ولم يقل : لا ينكح على نكاح أخيه لأنه لا درجة بعد عقد النكاح تقتضي تخييراً بإجماع من الأمة ، قال من يحتج لمالك رحمه الله : قوله عليه السلام : لا يسم ولا يبع ، هي درجة واحدة كلها قبل العقد ، وقال : لا بيع تجوزاً في لا يسم ، إذ مآله إلى البيع ، فهي جميعاً بمنزلة قوله : لا يخطب ، والعقد جازم فيهما جميعاً .

قال القاضي أبو محمد : وقوله في الحديث «إلا بيع الخيار » معناه عند المالكين : المتساومان بالخيار ما لم يعقدا ، فإذا عقدا بطل الخيار إلا في بيع الخيار الذي عقد من أوله على خيار مدة ما ، فإنه لا يبطل الخيار فيه ، ومعناه عند الشافعيين : المتبايعان بعد عقدهما مخيران ما داما في مجلسهما ، إلا بيعاً يقول فيه أحدهما لصاحبه اختر فيختار ، فإن الخيار ينقطع بينهما وإن لم يتفرقا ، فإن فرض بيع خيار فالمعنى إلا بيع الخيار فإنه يبقي الخيار بعد التفرق بالأبدان ، وقوله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } قرأ الحسن «ولا تقتّلوا » على التكثير ، فأجمع المتأولون أن المقصد بهذه الآية النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضها ، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل ، أو بأن يحملها على غرر ربما مات منه ، فهذا كله يتناوله النهي ، وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد خوفاً على نفسه منه ، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجاجه{[3975]} .


[3968]:- إنما كان الاستثناء منقطعا لوجهين: أولهما أن التجارة لم تندرج في الأموال المأكولة بالباطل فتستثنى منها سواء فسرنا الباطل بأنه أخذ المال بغير عوض أو بغير طريق شرعي، وثانيهما أن الاستثناء إنما وقع على الكون، والكون معنى من المعاني، وليس مالا من الأموال. وهذا استثناء لا يدل على الحصر في أنه لا يجوز أكل المال إلا بالتجارة فقط، بل هو ذكر نوع غالب من طرق اكتساب المال وهو التجارة. البحر المحيط 3/ 231. =ونظير هذه الآية في الاستثناء المنقطع قوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق}، وقوله سبحانه: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى}، ذكر ذلك ابن كثير 2/ 253.
[3969]:- هذا عجز البيت، وهو بتمامه: فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي إذا كان يوما ذا كواكب أشهب. على أن (كان) تامة.
[3970]:- الحاضر: هو المقيم في المدينة أو القرية، والبادي: هو المقيم بالبادية- والمنهي عنه في هذا الحديث أن يأتي البدوي المدينة ومعه قوت يبغي بيعه بسرعة ولو رخيصا، فيقول له الحضري: اتركه عندي لأغالي في بيعه، وسئل ابن عباس عن معنى الحديث فقال: "لا يكون له سمسارا". (عن ابن الأثير).
[3971]:- رواه سمرة بن جندب، وأبو برزة، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو هريرة، وحكيم بن حزام، وغيرهم، وهو ثابت في الصحيحين، وفي لفظ البخاري: (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا). وفي رواية: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر). وقوله: (أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر) هو معنى الرواية الأخرى: (إلا بيع الخيار).
[3972]:- من الآية (130) من سورة (النساء).
[3973]:- عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، ولا يسوم على سومه) قال "في نيل الأوطار": متفق عليه.
[3974]:- رواه الدارمي في سننه عن ابن عمر بلفظ: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه، ولا يبيع على بيع أخيه حتى يأذن له). ورواه أحمد عن ابن عمر أيضا. وأخرجه مسلم أيضا. وأخرجه كذلك البخاري. نيل الأوطار.
[3975]:- أخرج أحمد، وأبو داود، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عمرو بن العاص قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل، احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت به، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت: نعم يا رسول الله، إني =احتلمت في ليل باردة شديدة البرد فأشفقت- إن اغتسلت- أن أهلك، وذكرت قول الله: {ولا تقتلوا أنفسكم} فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئا). الدر المنثور 2/ 144، 145.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا} (29)

{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تأكلوا أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } .

استئناف من التشريع المقصود من هذه السورة . وعلامة الاستئناف افتتاحه ب { يا أيّها الذين آمنوا } ، ومناسبته لما قبله أنّ أحكام المواريث والنكاح اشتملت على أوامر بإيتاء ذي الحقّ في المال حقّه ، كقوله : { وآتوا اليتامى أموالهم } [ النساء : 2 ] وقوله : { فآتوهن أجورهن فريضة } [ النساء : 24 ] وقوله : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً } [ النساء : 4 ] الآية ، فانتقل من ذلك إلى تشريع عامّ في الأموال والأنفس .

وقد تقدّم أنّ الأكل مجاز في الانتفاع بالشيء انتفاعاً تامّا ، لا يعود معه إلى الغير ، فأكل الأموال هو الاستيلاء عليها بنية عدم إرجاعها لأربابها ، وغالب هذا المعنى أن يكون استيلاء ظلم ، وهو مجاز صار كالحقيقة . وقد يطلق على الانتفاع المأذون فيه كقوله تعالى : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } [ النساء : 4 ] وقوله : { ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف } [ النساء : 6 ] ، ولذلك غلب تقييد المنهي عنه من ذلك بقيد { بالباطل } ونحوه .

والضمير المرفوع ب ( تأكلوا ) ، والضمير المضاف إليه أموال : راجعان إلى { الذين آمنوا } ، وظاهر أنّ المرء لا يُنهى عن أكل مال نفسه ، ولا يسمّى انتفاعه بماله أكلاً ، فالمعنى : لا يأكل بعضهم مال بعض .

والباطل ضدّ الحق ، وهو ما لم يشرعه الله ولا كان عن إذن ربّه ، والباء فيه للملابسة .

والاستثناء في قوله : { إلا أن تكون تجارة } منقطع ، لأنّ التجارة ليست من أكل الأموال بالباطل ، فالمعنى : لكنْ كونُ التجارة غيرُ منهي عنه . وموقع المنقطع هنا بَيِّن جار على الطريقة العربية ، إذ ليس يلزم في الاستدراك شمولُ الكلام السابق للشيء المستدرك ولا يفيدُ الاستدراكُ حصراً ، ولذلك فهو مقتضى الحال . ويجوز أن يجعل قيد { الباطل } في حالة الاستثناء مُلغى ، فيكون استثناء من أكل الأموال ويكون متّصلاً ، وهو يقتضي أن الاستثناء قد حصر إباحة أكل الأموال في التجارة ، وليس كذلك ، وأياماً كان الاستثناء فتخصيص التجارة بالاستدراك أو بالاستثناء لأنّها أشدُّ أنواع أكل الأموال شَبَها بالباطل ، إذ التبرّعات كلّها أكل أموال عن طيب نفس ، والمعاوضات غير التجارات كذلك لأنّ أخذ كلا المتعاوِضين عوضاً عمّا بذَله للآخر مساوياً لقيمته في نظره يُطيَّب نفسَه . وأمّا التجارة فلأجْل ما فيها من أخذ المتصدّي للتجر ما لا زائداً على قيمة ما بذله للمشتري قد تُشبه أكل المال بالباطل فلذلك خصّت بالاستدراك أو الاستثناء . وحكمة إباحة أكل المال الزائد فيها أنّ عليها مدار رواج السلع الحاجية والتحسينية ، ولولا تصدّي التجّار وجلبُهم السلعَ لما وَجد صاحب الحاجة ما يسدّ حاجته عند الاحتياج . ويشير إلى هذا ما في « الموطأ » عن عمر بن الخطاب أنّه قال : في احتكار الطعام « ولكنْ أيُّما جالب جلب على عَمُود كَبِدِه في الشتاء والصيف فذلك ضيفُ عُمَر فليبع كيف شاء ويمسك كيف شاء » .

وقرأ الجمهور : { إلا أن تكون تجارة } برفع تجارة على أنّه فاعل لكانَ مِن كان التامّة ، أي تَقَعَ . وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلَف بنصب تجارة على أنّه خبر كان الناقصة ، وتقدير اسمها : إلاّ أن تكون الأموال تجارة ، أي أموال تجارة .

وقوله : { عن تراض منكم } صفة ل ( تجارة ) ، و ( عن ) فيه للمجاوزة ، أي صادرة عن التراضي وهو الرضا من الجانبين بما يدلّ عليه من لفظ أو عرف . وفي الآية ما يصلح أن يكون مستنداً لقول مالك من نفي خِيار المجلس : لأنّ الله جعل مناط الانعقاد هو التراضي ، والتراضي يحصل عند التبايع بالإيجاب والقبول .

وهذه الآية أصل عظيم في حرمة الأموال ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحلّ مالُ امرىء مسلم إلاّ عن طيب نَفس " . وفي خطبة حجّة الوداع " إنَّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام " . وتقديم النهي عن أكل الأموال على النهي عن قتل الأنفس ، مع أنّ الثاني أخطر ، إمّا لأنّ مناسبة ما قبله أفْضت إلى النهي عن أكل الأموال فاستحقّ التقديم لذلك ، وإمّا لأنّ المخاطبين كانوا قريبي عهد بالجاهلية ، وكان أكل الأموال أسهل عليهم ، وهم أشدّ استخفافاً به منهم بقتللِ الأنفس ، لأنّه كان يقع في مواقع الضعف حيث لا يَدفع صاحبه عن نفسه كاليتيم والمرأةِ والزوجة . فآكِل أموال هؤلاء في مأمَن من التبِعات بخلاف قتل النفس ، فإنّ تبعاته لا يسلم منها أحد ، وإن بلغ من الشجاعة والعزّة في قومه كلّ مبلغ ، ولا أمنع من كُلَيْب وائل ، لأنّ القبائل ما كانت تهدر دماء قتلاها .

{ ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما }

قوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } نهي عن أن يقتل الرجل غيرَه ، فالضميرانِ فيه على التوزيع ، إذ قد عُلم أنّ أحداً لا يقتل نفسَه فيُنهى عن ذلك ، وقَتْل الرجل نفسه داخل في النهي ، لأنّ الله لم يبح للإنسان إتلاف نفسه كما أباح له صرف ماله ، أمّا أن يكون المراد هنا خصوص النهي عن قتل المرء نفسَه فلا . وأمّا ما في « مسند أبي داود » : أنّ عَمرو بن العاص رضي الله عنه تيمّم في يوم شديد البَرْد ولم يغتسل ، وذلك في غزوة ذات السلاسل وصلّى بالناس ، وبلَغ ذلك رسولَ الله ، فسأله وقال : يا رسول الله إنّ الله يقولُ : { ولا تقتلوا أنفسكم } ، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم فذلك من الاحتجاج بعموم ضمير ( تقتلوا ) دون خصوص السبب .