تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيۡءِۭ بِأَمۡرِ رَبِّهَا فَأَصۡبَحُواْ لَا يُرَىٰٓ إِلَّا مَسَٰكِنُهُمۡۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (25)

{ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ } تمر عليه من شدتها ونحسها . فسلطها الله عليهم { سبع ليالي وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية } [ { بِأَمْرِ رَبِّهَا } أي : بإذنه ومشيئته ] . { فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ } قد تلفت مواشيهم وأموالهم وأنفسهم . { كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } بسبب جرمهم وظلمهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيۡءِۭ بِأَمۡرِ رَبِّهَا فَأَصۡبَحُواْ لَا يُرَىٰٓ إِلَّا مَسَٰكِنُهُمۡۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (25)

21

والنص القرآني يصور الريح حية مدركة مأمورة بالتدمير : ( تدمر كل شيء بأمر ربها )وهي الحقيقة الكونية التي يحفل القرآن بإشعارها للنفوس . فهذا الوجود حي . وكل قوة من قواه واعية . وكلها تدرك عن ربها وتتوجه لما تكلف به من لدنه . والإنسان أحد هذه القوى . وحين يؤمن حق الإيمان ، ويفتح قلبه للمعرفة الواصلة ، يستطيع أن يعي عن القوى الكونية من حوله ، وأن يتجاوب معها ، وأن تتجاوب معه ، تجاوب الأحياء المدركة ، بغير الصورة الظاهرة التي يعرفها الناس من الحياة والإدراك . ففي كل شيء روح وحياة ، ولكننا لا ندرك هذا لأننا محجوبون بالظواهر والأشكال عن البواطن والحقائق . والكون من حولنا حافل بالأسرار المحجوبة بالأستار ، تدركها البصائر المفتوحة ولا تراها الأبصار .

وقد أدت الريح ما أمرت به ، فدمرت كل شيء ( فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ) . . أما هم وأما أنعامهم وأما أشياؤهم وأما متاعهم فلم يعد شيء منه يرى . إنما هي المساكن قائمة خاوية موحشة ، لا ديار فيها ولا نافخ نار . . ( كذلك نجزي القوم المجرمين ) . . سنة جارية وقدر مطرد في المجرمين .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيۡءِۭ بِأَمۡرِ رَبِّهَا فَأَصۡبَحُواْ لَا يُرَىٰٓ إِلَّا مَسَٰكِنُهُمۡۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (25)

و : { تدمر } معناه : تهلك . والدمار : الهلاك ، ومنه قول جرير : [ الوافر ]

وكان لهم كبكر ثمود لمّا . . . رغا دهراً فدمرهم دمارا{[10320]}

وقوله : { كل شيء } ظاهره العموم ومعناه الخصوص في كل ما أمرت بتدميره ، وروي أن هذه الريح رمتهم أجمعين في البحر .

وقرأ جمهور القراء : { لا ترى إلا مساكنهم }{[10321]} ، أي لا ترى أيها المخاطب . وقرأ عاصم وحمزة : «لا يُرى » بالياء على بناء الفعل للمفعول «مساكنُهم » رفعاً . التقدير : لا يرى شيء منهم ، وهذه قراءة ابن مسعود وعمرو بن ميمون والحسن بخلاف عنه ، ومجاهد وعيسى وطلحة{[10322]} . وقرأ الحسن بن أبي الحسن والجحدري وقتادة وعمرو بن ميمون والأعمش وابن أبي إسحاق وأبو رجاء ومالك بن دينار بغير خلاف عنهما خاصة ممن ذكر{[10323]} : «لا تُرى » بالتاء منقوطة من فوق مضمومة «مساكُنهم » رفعاً ، ورويت عن ابن عامر ، وهذا نحو قول ذي الرمة : [ البسيط ]

كأنه جمل وهم وما بقيت . . . إلا النحيزة والألواح والعصب{[10324]}

ونحو قوله : [ الطويل ]

فما بقيت إلا الضلوع الجراشع . . . {[10325]}

وفي هذه القراءة استكراه{[10326]} . وقرأ الأعمش وعيسى الهمداني : إلا مسكنهم «على الإفراد الذي هو اسم الجنس ، والجمهور على الجمع في اللفظة ، ووجه الإفراد تصغير الشأن وتقريبه كما قال تعالى : { ثم يخرجكم طفلاً }{[10327]} [ غافر : 67 ] .


[10320]:هذا البيت ليس لجرير، ولم أجده في ديوانه، ثم وجدته في ديوان الفرزدق، وهو من قصيدة له يرد بها على جرير ويناقضه، يقول الفرزدق في مطلع هذه القصيدة: جرّ المخزيات على كُليب جرير ثم ما منع الذمارا وكان لهم كبكر ثمود لما رغا ظهرا فدمرهم دمارا عوى فأثارا أغلب ضيغما فويل ابن المراغة ما استثارا يصفه بأنه جلب الفضائح لأهله، وعجز عن حمايتهم، وكان لهم نذير سوء، ويقول: إن شعر جرير يثيرني على كليب فأدمرهم كما أن رُغاء ابن ناقة ثمود أتاهم بالدمار والهلاك.
[10321]:أي بالتاء المفتوحة في [ترى] وبالنصب في [مساكنهم].
[10322]:اختلف النسخ في الفقرة التي وضعناها بين العلامتين[......]، فهي في بعض النسخ عقب قراءة حمزة وعاصم، وهي في بعضها الآخر عقب قراءة الجمهور، والله أعلم بالصواب.
[10323]:الذي في الأصل"يعني بخلاف عنهما"، والتصويب عن(المحتسب) لابن جني، فقد قال:"واختلف عن الكل إلا أبا رجاء، ومالك بن دينار"، وهي جملة صريحة في المعنى الذي أثبتناه.
[10324]:هذا البيت في وصف الناقة، وهو في الديوان، وفي لسان العرب-وهم-، والذي في الأصول هنا"كأنه"، والصواب ما أثبتناه لأن الكلام كما قلنا في وصف الناقة، والوهم: الجبل الضخم العظيم، قال ذلك في اللسان، وقال أيضا: وقيل: هو من الإبل الذلول المنقاد مع ضِخم وقوة، والجمع أوهام ووهوم وَوُهوم ووُهُم، والنحيزة: هَنَة من الشعر عرضها شبر يعلقونها على الهودج يزينونه بها، وربما رقموها بالعهن، وقيل هي مثل الحزام بيضاء. أو هي النِّسع، وهو سير مضفور يُجعل زماما للبعير، وقد تنسج هذه الضفيرة عريضة وتُجعل على صدر البعير، والألواح: جمع لوح وهو كل عظم عريض. والعَصَب: ما يشد إلا العظم والعصب والنِّسع، والشاهد في البيت هو التأنيث في الفعل"بقيت" مع أنه ضعيف في العربية، والأفصح التذكير، يقال: ما ضرب إلا هند، وما قام إلا فاطمة، ولا يقال: "ما ضربت إلا هند وما قامت إلا فاطمة" إلا على ضعف، وعليه جاء قول ذي الرمة.
[10325]:هذا عجز بيت لذي الرمة أيضا، والبيت بتمامه: برى النحز والأجرال ما في غروضها فما بقيت إلا الضلوع الجراشع ويروى"طوى النحز" بدلا من "برى النحز"، و"الأجراز" بدلا من "الأجرال"، و"الصدور" بدلا من "الضلوع"، والنحز: النخس بالقدم، أو الضرب والركل بها، والأجرال: جمع جرل-بالتحريك-: المكان الصلب الغليظ الشديد الكثير الحجارة، أما الأجراز فجمع جرز، وهي الأرض التي لا تنبت، والغُروض: جمع غرض- كسهم- وهو للرحل كالحزام للسرج، والجراشع: جمع جرشع وهو العظيم الغليظ، وقيل: الطويل. والشاهد هو تأنيث الفعل في (بقيت) على ضعف
[10326]:ذلك لأن الفصيح من الكلام أن يُذكر الفعل قبل إلا في مثل قولنا"ما قام إلا فاطمة"؛ لأن الكلام محمول على معناه، أي ما قام أحد إلا فاطمة، فلما كان هذا هو المراد ذكّر الفعل لفظا للدلالة على ذلك، وقد خالفت هذه القراءة بالرفع الفصيح فكان هذا الاستكراه الذي ذكره ابن عطية، ومثل هذا يقال في قراءة أبي جعفر ومعاذ بن الحارث:{إن كانت إلا صيحة واحدة} بالرفع في [صيحة].
[10327]:من الآية(67) من سورة (غافر)، والمراد في هذه الآية: نخرجكم أطفالا، ولكن حسن لفظ هنا لأنه موضع لتصغير شأن الإنسان وتحقير أمره، فلاق به ذكر الواحد القليل عن الجماعة، وكذلك حسُن في آيتنا هذه لفظ الواحد في المسكن لأن الموضع موضع تحقير لهم وتصغير لشأنهم.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيۡءِۭ بِأَمۡرِ رَبِّهَا فَأَصۡبَحُواْ لَا يُرَىٰٓ إِلَّا مَسَٰكِنُهُمۡۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (25)

و { كل شيء } مستعمل في كثرة الأشياء فإن ( كُلاَّ ) تأتي كثيراً في كلامهم بمعنى الكثرة . وقد تقدم عند قوله تعالى : { ولو جاءتهم كل آية } في سورة يونس ( 97 ) .

والمعنى : تدمر ما من شأنه أن تُدمره الريح من الإنسان والحيوان والديار .

وقوله : { بأمر ربها } حال من ضمير { تدمر } . وفائدة هذه الحال تقريب كيفية تدميرها كلَّ شيء ، أي تدميراً عجيباً بسبب أمر ربها ، أي تسخيره الأشياء لها فالباء للسببية . وأضيف الرب إلى ضمير الريح لأنها مسخرّة لأمر التكوين الإلهي فالأمر هنا هو أمر التكوين .

{ فأصبحوا } أي صاروا ، وأصبح هنا من أخوات صار . وليس المراد : أن تدميرهم كان ليلاً فإنهم دمّروا أياماً وليالي ، فبعضهم هلك في الصباح وبعضهم هلك مساء وليلاً .

والخطاب في قوله : { لا ترى } لمن تتأتّى منه الرؤية حينئذٍ إتماماً لاستحضار حالة دمارهم العجيبة حتى كأن الآية نازلة في وقت حدوث هذه الحادثة .

والمراد بالمساكن : آثارها وبقاياها وأنقاضها بعد قلع الريح معظمها . والمعنى : أن الريح أتت على جميعهم ولم يبق منهم أحد من ساكني مساكنهم .

وقوله : { كذلك نجزي القوم المجرمين } أي مثل جزاء عاد نجزي القوم المجرمين ، وهو تهديد لمشركي قريش وإنذار لهم وتوطئة لقوله : { ولقد مكناهم فيما إن مكَّنَّاكم فيه } [ الأحقاف : 26 ] .

وقرأ الجمهور { لا ترى } بالمثناة الفوقية مبنياً للفاعل وبنصب { مساكنهم } وقرأه عاصم وحمزة وخلف بياء تحتية مبنياً للمجهول وبرفع { مساكنُهم } وأجرى على الجمع صيغة الغائب المفرد لأن الجمع مستثنى ب { إلاّ } وهي فاصلة بينه وبين الفعل .