{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ } من حيوان ناطق وغير ناطق ومن أشجار ونبات وجامد وحي وميت { إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } بلسان الحال ولسان المقال . { وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } أي : تسبيح باقي المخلوقات التي على غير لغتكم بل يحيط بها علام الغيوب .
{ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } حيث لم يعاجل بالعقوبة من قال فيه قولا تكاد السماوات والأرض تتفطر منه وتخر له الجبال ولكنه أمهلهم وأنعم عليهم وعافاهم ورزقهم ودعاهم إلى بابه ليتوبوا من هذا الذنب العظيم ليعطيهم الثواب الجزيل ويغفر لهم ذنبهم ، فلولا حلمه ومغفرته لسقطت السماوات على الأرض ولما ترك على ظهرها من دابة .
ثم يرسم السياق للكون كله بما فيه ومن فيه مشهدا فريدا ، تحت عرش الله ، يتوجه كله إلى الله ، يسبح له ويجد الوسيلة إليه :
( تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم ، إنه كان حليما غفورا ) . .
وهو تعبير تنبض به كل ذرة في هذا الكون الكبير ، وتنتفض روحا حية تسبح الله . فإذا الكون كله حركة وحياة ، وإذا الوجود كله تسبيحة واحدة شجية رخية ، ترتفع في جلال إلى الخالق الواحد الكبير المتعال .
وإنه لمشهد كوني فريد ، حين يتصور القلب . كل حصاة وكل حجر . كل حبة وكل ورقة . كل زهرة وكل ثمرة . كل نبتة وكل شجرة . كل حشرة وكل زاحفة . كل حيوان وكل إنسان . كل دابة على الأرض وكل سابحة في الماء والهواء . . ومعها سكان السماء . . كلها تسبح الله وتتوجه إليه في علاه .
وإن الوجدان ليرتعش وهو يستشعر الحياة تدب في كل ما حوله مما يراه ومما لا يراه ، وكلما همت يده أن تلمس شيئا ، وكلما همت رجله أن تطأ شيئا . . سمعه يسبح لله ، وينبض بالحياة .
( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) يسبح بطريقته ولغته ( ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) لا تفقهونه لأنكم محجوبون بصفاقة الطين ، ولأنكم لم تتسمعوا بقلوبكم ، ولم توجهوها إلى أسرار الوجود الخفية ، وإلى النواميس التي تنجذب إليها كل ذرة في هذا الكون الكبير ، وتتوجه بها إلى خالق النواميس ، ومدبر هذا الكون الكبير .
وحين تشف الروح وتصفو فتتسمع لكل متحرك أو ساكن وهو ينبض بالروح ، ويتوجه بالتسبيح ، فإنها تتهيأ للاتصال بالملأ الأعلى ، وتدرك من أسرار هذا الوجود ما لا يدركه الغافلون ، الذين تحول صفاقة الطين بين قلوبهم وبين الحياة الخفية الساربة في ضمير هذا الوجود ، النابضة في كل متحرك وساكن ، وفي كل شيء في هذا الوجود .
( إنه كان حليما غفورا ) . . وذكر الحلم هنا والغفران بمناسبة ما يبدو من البشر من تقصير في ظل هذا الموكب الكوني المسبح بحمد الله ، بينما البشر في جحود وفيهم من يشرك بالله ، ومن ينسب له البنات ، ومن يغفل عن حمده وتسبيحه . والبشر أولى من كل شيء في هذا الكون بالتسبيح والتحميد والمعرفة والتوحيد . ولولا حلم الله وغفرانه لأخذ البشر أخذ عزيز مقتدر . ولكنه يمهلهم ويذكرهم ويعظهم ويزجرهم ( إنه كان حليما غفورا ) .
وقوله تعالى : { تسبح له السماوات } الآية ، المعنى ينزهه عن هذه المقالة التي لكم ، والاشتراك الذي أنتم بسبيله ، { السماوات السبع والأرض } ، ثم أعاد على السماوات والأرض ضمير من يعقل لما أسند إليها فعل العاقل ، وهو التسبيح ، وقوله { من فيهن } يريد الملائكة والإنس والجن ، ثم عم بعد ذلك الأشياء كلها ، في قوله { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } أي ينزه الله ويحمده ويمجده ، واختلف أهل العلم في التسبيح ، فقالت فرقة هو تجوز ، ومعناه إن كل شيء تبدو فيه صنعة الصانع الدالة عليه فتدعو رؤية ذلك إلى التسبيح من المعتبر ، ومن حجة هذا التأويل قوله تعالى : { إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي }{[7583]} وقالت فرقة { من شيء } لفظ عموم ، ومعناه الخصوص في كل حي ونام ، وليس ذلك في الجمادات البحتة ، فمن هذا قول عكرمة : الشجرة تسبح والأسطوانة لا تسبح ، وقال يزيد الرقاشي للحسن وهما في طعام ، وقد قدم الخوان : أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد ؟ فقال قد كان يسبح مرة ، يريد أن الشجرة في زمان نموها واغتذائها تسبح ، فمذ صارت خواناً مدهوناً أو نحوه صارت جماداً ، وقالت فرقة : هذا التسبيح حقيقة ، وكل شيء على العموم يسبح تسبيحاً لا يسمعه البشر ولا يفقهه ، ولو كان التسبيح ما قاله الآخرون من أنه أثر الصنعة لكان أمراً مفقوهاً ، والآية تنطق بأن هذا التسبيح لا يفقه .
قال القاضي أبو محمد : وينفصل عن هذا الاعتراض بأن يراد بقوله { لا تفقهون } الكفار والغفلة ، أي إنهم يعرضون عن الاعتبار فلا يفقهون حكمة الله تعالى في الأشياء وقال الحسن : بلغني أن معنى هذه الآية في التوراة ذكر فيه ألف شيء مما يسبح سبحت له السماوات ، سبحت له الأرض ، سبح كذا ، سبح كذا ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر : «يسبح له » بالياء ، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي «تسبح » بالتاء ، والقراءتان حسنتان ، وقرأ عبد الله بن مسعود وطلحة والأعمش «سبحت له السماوات » ، وقوله { إنه كان حليماً غفوراً } فيه تنبيه على إملائه لهم وصفحه عنهم في الدنيا وإمهاله لهم مع شنيع هذه المقالة ، أي تقولون قولاً ينزهه عنه كل شيء من المخلوقات ، { إنه كان حليماً غفوراً } فلذلك أمهلكم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم عظم نفسه جل جلاله، فقال سبحانه: {تسبح له}، يعني: تذكره،
{السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن شيء}، يعني: وما من شيء،
{إلا يسبح بحمده}، يقول: إلا يذكر الله بأمره، يعني: من نبت، إذا كان في معدنه، {يسبحون بحمد ربهم} [الزمر:75]، كقوله سبحانه: {ويسبح الرعد بحمده} [الرعد:13]، يعني: بأمره، من نبت، أو دابة، أو خلق،
{ولكن لا تفقهون تسبيحهم}، يقول: ولكن لا تسمعون ذكرهم لله عز وجل،
{إنه كان حليما} عنهم، يعني: عن شركهم...
{غفورا} آية، يعني: ذو تجاوز عن قولهم، لقوله: {لو كان معه آلهة} كما يزعمون، {إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا}، بأن الملائكة بنات الله، حين لا يعجل عليهم بالعقوبة، {غفورا} في تأخير العذاب عنهم إلى المدة، مثلها في سورة الملائكة، قوله سبحانه: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا...} [فاطر:41] آخر الآية، {إنه كان حليما}، يعني: ذو تجاوز عن شركهم، {غفورا} في تأخير العذاب عنهم إلى المدة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"تُسَبّحُ لَهُ السّمَواتُ السّبْعُ والأرْضُ وَمَنْ فِيهِنّ" يقول: تنزّه الله أيها المشركون عما وصفتموه به إعظاما له وإجلالاً، السموات السبع والأرض، ومن فيهنّ من المؤمنين به من الملائكة والإنس والجنّ، وأنتم مع إنعامه عليكم، وجميل أياديه عندكم، تفترون عليه بما تَفْتَرون...
"ولَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ" يقول تعالى ذكره: ولكن لا تفقهون تسبيح ما عدا تسبيح من كان يسبح بمثل ألسنتكم إنّهُ كانَ حَلِيما يقول: إن الله كان حليما لا يعجل على خلقه، الذين يخالفون أمره، ويكفرون به، ولولا ذلك لعاجل هؤلاء المشركين الذين يدعون معه الاَلهة والأنداد بالعقوبة غَفُورا يقول: ساترا عليهم ذنوبهم، إذا هم تابوا منها بالعفو منه لهم،...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن} يحتمل ما ذكر وجوها:
أحدهما: جعل الله تعالى في خلقه السماوات والأرض وما ذكره دلالة على وحدانيته وألوهيته وشهادة له أنه واحد، لا شريك له، ولا شبيه. فإن كان على هذا يدخل فيه كل شيء ذو الروح وغيره، فيكون قوله: {ولكن لا تفقهون تسبيحهم} للكفرة خاصة. وأما أهل الإسلام فإنهم يفقهون ذلك.
والثاني: جعل الله في سرية هذه الأشياء ما ذكر من التسبيح والتنزيه، لكن لا نفقه نحن ذلك، ونعيه على ما أخبر {ولكن لا تفقهون تسبيحهم} وهي لا تعرف أيضا أن ذلك تسبيح علة ما جعل في الجوارح والأعضاء تسبيحا وعبادة له، وإن كانت هي، لا تعرف ذلك أنها تسبح.
والثالث: جعل الله صوت هذه الأشياء تسبيحا له حقيقة على معرفة هذه الأشياء أنه تسبيح، وإن كان لا يعرف ذلك إلا خواص من الناس، وهم الأنبياء...
{إنه كان حليما غفورا} الحلم هو ضد السفه، وهو الحليم، ليس بعجول، أي لا يعجل بالعقوبة، {غفورا} إذا تابوا، أو {غفورا} حين ستر عليهم فضائحهم... الحلم ما ذكرنا ضد السفه والعجلة: ذكر ههنا على إثر ما ذكر منهم من القول الوخش فيه والعظيم: أنه حليم ليعلموا أنه عن حلم، لم يأخذهم بالعقوبة عاجلا، {غفورا} ليعلموا أنهم، وإن أعظموا القول فيه، يغفر لهم، ويتجاوز عنهم، إن رجعوا، وتابوا...
وفي ذكر تسبيح من ذكر من جميع الموات على إثر ما ذكر من قول أولئك الكفرة من وصف الله تعالى بالولد والشركاء ونحوهما وجوه.
أحدها: ذكر سفههم أنهم مع ادعائهم العقل والعلم والتمييز والسؤدد، وصفوا الله بالذي لا يليق به وما يسقط الألوهية والربوبية عنه على زعمهم. فالذين ليس لهم شيء من ذلك التمييز والفهم والعقل نزهوه عن ذلك كله، وبرؤوه عن جميع ذلك.
الثاني: ذكر تسبيحهم على إثر ذلك ليعلم أن لا حاجة إلى تسبيحهم ولا منفعة في ذلك، إذ يسبح له جميع الخلائق سواهم، بل منفعة تسبيحهم ترجع إليهم.
والثالث: ذكر تسبيحهم لإثبات الرسالة للرسل، لأنهم ذكروا تسبيح الموات ولا يفهم ذلك، ولا يعقل إلا بوحي من السماء، فذلك يدل على الرسالة. فعلى هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرنا يجوز تسبيح ما ذكر على إثر ذكر ما ذكر. وكذلك ذكر سجود الموات يخرج على هذه الوجوه التي ذكرنا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الأحياءُ من أهل السماوات والأرض يُسَبِّحون له تسبيحَ قالة، وغير الأحياء يسبح من حيث البرهان والدلالة. وما من جزءٍ من الأعيان والآثار إلا وهو دليل على الربوبية، ولكنهم إذا استمعوا توحيداً للإله تعجبوا -لجهلهم وتَعَسُّر إدراكهم- وأنكروا...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{تسبح له السماوات}، المعنى ينزهه عن هذه المقالة التي لكم، والاشتراك الذي أنتم بسبيله، {السماوات السبع والأرض}، ثم أعاد على السماوات والأرض ضمير من يعقل لما أسند إليها فعل العاقل، وهو التسبيح، وقوله {من فيهن} يريد الملائكة والإنس والجن، ثم عم بعد ذلك الأشياء كلها، في قوله {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} أي ينزه الله ويحمده ويمجده، واختلف أهل العلم في التسبيح، فقالت فرقة هو تجوز، ومعناه إن كل شيء تبدو فيه صنعة الصانع الدالة عليه فتدعو رؤية ذلك إلى التسبيح من المعتبر، ومن حجة هذا التأويل قوله تعالى: {إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي} وقالت فرقة {من شيء} لفظ عموم، ومعناه الخصوص في كل حي ونام، وليس ذلك في الجمادات البحتة... وقالت فرقة: هذا التسبيح حقيقة، وكل شيء على العموم يسبح تسبيحاً لا يسمعه البشر ولا يفقهه...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
لَيْسَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لِلْجَمَادَاتِ -فَضْلًا عَنْ الْبَهَائِمِ- تَسْبِيحٌ بِكَلَامٍ، وَإِنْ لَمْ نَفْقَهْهُ نَحْنُ عَنْهَا؛ إذْ لَيْسَ من شَرْطِ قِيَامِ الْكَلَامِ بِالْمَحَلِّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ هَيْئَةٌ آدَمِيَّةٌ، وَلَا وُجُودُ بَلَّةٍ وَلَا رُطُوبَةٍ، وَإِنَّمَا تَكْفِي لَهُ الْجَوْهَرِيَّةُ أَوْ الْجِسْمِيَّةُ خِلَافًا لِلْفَلَاسِفَةِ وَإِخْوَتِهِمْ من الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يَرَوْنَ الْهَيْئَةَ الْآدَمِيَّةَ وَالْبَلَّةَ وَالرُّطُوبَةَ شَرْطًا فِي الْكَلَامِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ بِأَدِلَّتِهِ الَّتِي تَقَرَّرَتْ فِي مَوْضِعِهِ، وَبِأَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْآدَمِيِّينَ عَرَضٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِيهِمْ، وَلَيْسَ يَفْتَقِرُ الْعَرَضُ إلَّا لِوُجُودِ جَوْهَرٍ أَوْ جِسْمٍ يَقُومُ بِهِ خَاصَّةً، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ من الشُّرُوطِ فَإِنَّمَا هِيَ عَادَةٌ، وَلِلْبَارِي تَعَالَى نَقْضُ الْعَادَةِ وَخَرْقُهَا بِمَا شَاءَ من قُدْرَتِهِ لِمَنْ شَاءَ من مَخْلُوقَاتِهِ وَبَرِّيَّتِهِ... وَعَلَى إنْكَارِ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ وَإِبْطَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ حَامَتْ بِمَا ابْتَدَعَتْهُ من الْمَقَالَاتِ، فَيَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ دَلَالَةَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى الْخَالِقِ ظَاهِرَةٌ، وَتَذْكِرَتُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ من الْآدَمِيِّينَ وَالْمُسَبِّحِينَ من الْمَخْلُوقِينَ بَيِّنَةٌ... وَهَذَا وَإِنْ سُمِّيَ تَسْبِيحًا فَذَلِكَ شَائِعٌ لُغَةً، كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تُعَبِّرُ عَنْ لِسَانِ الْحَالِ بِلِسَانِ الْمَقَالِ، فَتَقُولُ: يَشْكُو إلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى. وَكَمَا قَالَتْ: قِفْ بِالدِّيَارِ فَقُلْ: يَا دِيَارُ مَنْ غَرَسَ أَشْجَارَك، وَجَنَى ثِمَارَك، وَأَجْرَى أَنْهَارَك، فَإِنْ لَمْ تُجِبْك جُؤَارًا أَجَابَتْك اعْتِبَارًا... وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ تَسْبِيحَ الْبَرْقِ لَمَعَانُهُ، وَالرَّعْدِ هَدِيرُهُ، وَالْمَاءِ خَرِيرُهُ، وَالْبَابِ صَرِيرُهُ، فَنَوْعٌ من الدَّلَالَةِ، وَوَجْهٌ من التَّسْمِيَةِ بِالْمَجَازِ ظَاهِرٌ...
وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ تَسْبِيحًا رَبُّنَا بِهِ أَعْلَمُ، لَا نَعْلَمُهُ نَحْنُ؛ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ لَمْ نَكْذِبْ، وَلَمْ نَغْلَطْ، وَلَا رَكِبْنَا مُحَالًا فِي الْعَقْلِ؛ وَنَقُولُ: إنَّهَا تُسَبِّحُ دَلَالَةً وَتَذْكِرَةً وَهَيْئَةً وَمَقَالَةً، وَنَحْنُ لَا نَفَقُهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَلَا نَعْلَمُ، إنَّمَا يَعْلَمُهُ مَنْ خَلَقَهُ، كَمَا قَالَ: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}...
وَأَكْمَلُ التَّسْبِيحِ تَسْبِيحُ الْمَلَائِكَةِ وَالْآدَمِيِّينَ وَالْجِنِّ فَإِنَّهُ تَسْبِيحٌ مَقْطُوعٌ بِأَنَّهُ كَلَامٌ مَعْقُولٌ، مَفْهُومٌ لِلْجَمِيعِ بِعِبَارَةٍ مُخْلَصَةٍ، وَطَاعَةٍ مُسَلَّمَةٍ، وَأَجَلُّهَا مَا اقْتَرَنَ بِالْقَوْلِ فِيهَا فِعْلٌ من رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ أَوْ مَجْمُوعُهُمَا، وَهِيَ صَلَاةُ الْآدَمِيِّينَ؛ وَذَلِكَ غَايَةُ التَّسْبِيحِ وَبِهِ سُمِّيَتْ الصَّلَاةُ سُبْحَةً...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
استأنف بيان عظمة هذا التنزيه مقروناً بالوصف بالكمال فقال تعالى: {تسبح} أي توقع التنزيه الأعظم {له} أي الإله الأعظم الذي تقدم وصفه بالجلال والإكرام خاصة {السماوات السبع} كلها {والأرض} أيضاً {ومن فيهن} من ذوي العقول {وإن} أي وما، وأعرق في النفي فقال تعالى: {من شيء} أي ذي عقل وغيره {إلا يسبح} أي ينزه له متلبساً {بحمده} أي بوصفه بما له من صفات الكمال بما له تعالى في ذلك الشيء من الآيات الدالة على كل من السلب والإيجاب...
وهو تسبيح من جهات شتى ليسمعها العارفون بسمع الفهم وصفاء الذهن من جهة ذاتها في خلقها ثم في معنى صفتها بحاجتها من جهة حدوثها إلى صانع أحدثها قديم غير مصنوع، ومن جهة إتقانها إلى كونه مدبراً حكيماً، ومن جهة فنائها إلى كونه مع ذلك قادراً مختاراً، قاهراً جباراً -إلى غير ذلك، بخلاف ما لو قصر التسبيح على لسان المقال فإنه يكون من نوع واحد، وأوضح مرشداً إلى ذلك قوله تعالى: {ولكن لا تفقهون} دون "تسمعون "{تسبيحهم} لإعراضكم عن النظر ونفوركم عن سماع الذكر الذي هو أعظم أسبابه، على أن هذا إنما هو بالنسبة لعامة الخلق، وأما الخاصة فإنهم يسمعون تسبيح الجمادات؛ روى البخاري عن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفاً، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سفر فقل الماء فقال: اطلبوا فضلة من ماء، فجاؤوا بإناء فيه ماء قليل: فأدخل يده في الإناء وقال: حيّ على الطهور المبارك والبركة من الله، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وشرف وكرم وبجل وعظم -ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. وتسبيح الحصى مشهور.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإنه لمشهد كوني فريد، حين يتصور القلب. كل حصاة وكل حجر. كل حبة وكل ورقة. كل زهرة وكل ثمرة. كل نبتة وكل شجرة. كل حشرة وكل زاحفة. كل حيوان وكل إنسان. كل دابة على الأرض وكل سابحة في الماء والهواء.. ومعها سكان السماء.. كلها تسبح الله وتتوجه إليه في علاه. وإن الوجدان ليرتعش وهو يستشعر الحياة تدب في كل ما حوله مما يراه ومما لا يراه، وكلما همت يده أن تلمس شيئا، وكلما همت رجله أن تطأ شيئا.. سمعه يسبح لله، وينبض بالحياة...
(وإن من شيء إلا يسبح بحمده) يسبح بطريقته ولغته (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) لا تفقهونه لأنكم محجوبون بصفاقة الطين، ولأنكم لم تتسمعوا بقلوبكم، ولم توجهوها إلى أسرار الوجود الخفية، وإلى النواميس التي تنجذب إليها كل ذرة في هذا الكون الكبير، وتتوجه بها إلى خالق النواميس، ومدبر هذا الكون الكبير...
(إنه كان حليما غفورا).. وذكر الحلم هنا والغفران بمناسبة ما يبدو من البشر من تقصير في ظل هذا الموكب الكوني المسبح بحمد الله، بينما البشر في جحود وفيهم من يشرك بالله، ومن ينسب له البنات، ومن يغفل عن حمده وتسبيحه. والبشر أولى من كل شيء في هذا الكون بالتسبيح والتحميد والمعرفة والتوحيد. ولولا حلم الله وغفرانه لأخذ البشر أخذ عزيز مقتدر. ولكنه يمهلهم ويذكرهم ويعظهم ويزجرهم (إنه كان حليما غفورا).
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{تسبح له السموات السبع والأرض}، أي طبقات النجوم وبروجها، وكل سماء زينت بمصابيح هي نجومها، والتسبيح الخضوع له سبحانه وتعالى، وكونها طائعة له سبحانه فكل الوجود في قبضته، وإن هذا التسبيح يرشح للتفسير الثاني؛ لقوله تعالى: {إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا}، أي الذي يقول: إن المعنى أن آلهتهم خاضعة لله يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة... والتسبيح هو بمعنى الخضوع الكامل لله تعالى، لا يخرج شيء مما في الوجود أو أحد عن طاعته سبحانه، ويصح أن يراد بهذا الخضوع مع ذكر الله تعالى بالتنزيه عن الشريك وأنه الواحد الأحد الفرد الصمد، وإنه يكون خاشعا مسبحا عابدا، وإن كان غير مكلف كما يكلف العقلاء وإن الحجارة طوع يمينه سبحانه، ولقد قال تعالى: {...وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله (74)} [البقرة]... وقد استدرك الله تعالى على حكمه سبحانه بتسبيح الوجود بقوله: {ولكن لا تفقهون تسبيحهم}، أي لا تنفد بصائركم ومدارككم إلى إدراك تسبيحه؛ لأنه لا يعلمه إلا اللطيف الخبير {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (14)} [الملك] سبحانه وتعالى... ولقد ذكر الزمخشري أن معنى يسبح بحمده أنها تسبح بلسان الحال، حيث تدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته، فكأنها تتعلق بذلك وكأنها تتنزه الله عز وجل مما لا يجوز عليه من الشركاء وغيره، ويقول: إن قوله تعالى: {ولكن لا تفقهون تسبيحهم} خطاب للمشركين من حيث إنهم لم يأخذوا بمقتضى دلالة الحال، وما توجبه من إيمان بالله وحده. وفي الحق، إن الزمخشري أخرج النص من ظاهره إلى مجاز صحيح في ذاته، ولكنه بعيد من جهة، ولا ينقل الكلام من الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة توجب الخروج، وإلا بتعذر الحقيقة أو يكون في المجاز جمال لفظي خاص يليق بمقام البيان القرآني، وقد فند الناصر كلام الزمخشري بقوله: "ولقائل أن يقول فما تصن بقوله تعالى: {كان حليما غفورا} وهو لا يغفر للمشركين ولا يتجاوز عن جهلهم وإشراكهم، وإنما يخاطب بهاتين الصفتين {حليما غفورا} المؤمنين والظاهر أن المخاطب المؤمنون، وأما عدم فقهنا للتسبيح الصادر من الجمادات، فكأنه والله أعلم من عدم العمل بمقتضى ذلك، فإن الإنسان لو تيقظ حق التيقظ إلى النملة والبعوضة، وكل ذرة من ذرات الكون لوجدها تسبح الله تعالى وتنزهه وتشهد بجلاله وكبريائه وقهره، وعندي أن قوله تعالى: {ولكن لا تفقهون تسبيحهم} خطاب لكل من هو أهل للخطاب...
التسبيح: هو التنزيه، وهذا ثابت لله تعالى قبل أن يوجد من خلقه من ينزهه، والحق سبحانه منزه بذاته والصفة كائنة له قبل أن يخلق الخلق؛ لأنه خالق قبل أن يخلق... إن المتتبع لهذه المادة في القرآن الكريم مادة (سبح) يجدها بلفظ (سبحان) في أول الإسراء: {سبحان الذي أسرى "1 "} (سورة الإسراء): ومعناها أن التنزيه ثابت لله تعالى قبل أن يخلق من ينزهه. ثم بلفظ: {سبح لله ما في السماوات وما في الأرض.. "1 "} (سورة الحديد): بصيغة الماضي، والتسبيح لا يكون من الإنسان فقط، بل من السماوات والأرض، وهي خلق سابق للإنسان. ثم يأتي بلفظ: {يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض.. "1 "} (سورة الجمعة): بصيغة المضارع؛ ليدل على أن تسبيح الله ليس في الماضي، بل ومستمر في المستقبل لا ينقطع. إذن: مادام التسبيح والتنزيه ثابتاً لله تعالى قبل أن يخلق من ينزهه، وثابتاً لله من جميع مخلوقاته في السماوات والأرض، فلا تكن أيها الإنسان نشازاً في منظومة الكون، ولا تخرج عن هذا النشيد الكوني: {سبح اسم ربك الأعلى" 1 "} (سورة الأعلى)... وقد وقف العلماء أمام هذه الآية، وقالوا: أي تسبيح دلالة على عظمة التكوين، وهندسة البناء، وحكمة الخلق، وهذا يلفتنا إلى أن الله تعالى منزه ومتعالٍ وقادر، ولكنهم فهموا التسبيح على أنه تسبيح دلالة فقط؛ لأنهم لم يسمعوا هذا التسبيح ولم يفهموه. وقد أخرجنا الحق سبحانه وتعالى من هذه المسألة بقوله: {ولكن لا تفقهون تسبيحهم}: إذن: يوجد تسبيح دلالة فعلاً، لكنه ليس هو المقصود، المقصود هنا التسبيح الحقيقي كل بلغته. فقوله تعالى: {ولكن لا تفقهون تسبيحهم}: يدل على أنه تسبيح فوق تسبيح الدلالة الذين آمن بمقتضاه المؤمنون، إنه تسبيح حقيقي ذاتي ينشأ بلغة كل جنس من الأجناس، وإذا كنا لا نفقه هذا التسبيح، فقد قال تعالى: {كل قد علم صلاته وتسبيحه}: إذن: كل شيء في الوجود علم كيف يصلي لله، وكيف يسبح لله، وفي القرآن آيات تدل بمقالها ورمزيتها على أن كل عالم في الوجود له لغة يتفاهم بها في ذاته، وقد يتسامى الجنس الأعلى ليفهم عن الجنس الأدنى لغته، فكيف نستبعد وجود هذه اللغة لمجرد أننا لا نفهمها؟... إذن: فكيف نستبعد أننا لا نعلم لغة المخلوقات الأخرى من حيوان ونبات وجماد؟ ألم يكفنا ما أخبرنا الله به من وجود لغة لجميع المخلوقات، وإن كنا لا نفهمها؛ لأننا نعتقد أن اللغة هي النطق باللسان فقط، ولكن اللغة أوسع من ذلك. فهناك مثلاً لغة الإشارة، ولغة النظرات، ولغة التلغراف... وقد أعطانا الحق تبارك وتعالى إشارات تدل على أن لكل عالم لغة يتفاهم بها، كما في قوله تعالى: {وسخرنا مع داود الجبال يسبحن.. "79 "} (سورة الأنبياء): فالجبال تسبح مع داود، وتسبح مع غيره، ولكن المراد هنا أنها تسبح معه ويوافق تسبيحها تسبيحه، وكأنهما في أنشودة جماعية منسجمة. إذن: فلابد أن داود عليه السلام قد فهم عنها وفهمت عنه. وكذلك النملة التي تكلمت أمام سليمان عليه السلام ففهم كلامها، وتبسم ضاحكاً من قولها. وقد علمه الله منطق الطير. إذن: لكل جنس من الأجناس منطق يسبح الله به، ولكن لا نفقه هذا التسبيح؛ لأنه تسبيح بلغة مؤدية معبرة يتفاهم بها من عرف التواضع عليها... أطلق الحق سبحانه على ذاته لفظ الجلالة (الله) فهو علم على واجب الوجود، ثم تحدى الكافرين أن يسموا أحداً بهذا الاسم، فقال: {هل تعلم له سمياً" 65 "} (سورة مريم): ومع ما عندهم من إلف بالمخالفة وعناد بالإلحاد، مع ذلك لم يجرؤ أحد منهم أن يسمي ابناً له بهذا الاسم، ومعلوم أن التسمية أمر اختياري يطرأ على الجميع. إذن: فهذا تنزيه لله تعالى، حتى من الكافر رغماً عنه، وهو دليل على عظمته سبحانه وجلاله، هذه العظمة وهذا الجلال الذي لم يجرؤ حتى الكافر على التشبه به... وفي مجال العبادات، فقد اختار الحق سبحانه لنفسه عبادة لا يشاركه فيها أحد، ولا يقدمها أحد لغيره تعالى... لذلك تفرد الحق سبحانه بفريضة الصوم، وجعلها خالصة له سبحانه، لا يتقرب بها أحد لأحد، وهل رأيت إنساناً يتقرب لآخر بصوم؟ فانظر إلى هذه السبحانية وهذا التنزيه في ذاته سبحانه، فلا يجرؤ أحد أن يتسمى باسمه. وفي العبادة لا يصام لأحد غيره تعالى... ولكن لماذا الإنسان بالذات هو الذي يشذ عن منظومة التسبيح في الكون؟ نقول: لأنه المخلوق الوحيد الذي ميزه الله بالاختيار، وجعل له الحرية في أن يفعل أو لا يفعل، أما باقي المخلوقات فهي مسخرة مقهورة، فإن قال قائل: لماذا لم يجعل الحق سبحانه وتعالى الإنسان أيضاً مقهوراً كباقي المخلوقات؟... لقد جعل الله تعالى في الإنسان الاختيار لحكمة عالية، فالقهر يثبت للحق سبحانه صفة القدرة على مخلوقه، فإذا قهره على شيء لا يشذ ولا يتخلف، ولكنه لا يثبت صفة المحبوبية لله تعالى. أما الاختيار فيثبت المحبوبية لله؛ لأنه خلقك مختاراً تؤمن أو تكفر، ومع ذلك اخترت الإيمان حباً في الله تعالى، وطاعة وخضوعاً، فأثبت بذلك صفة المحبوبية. وإياك أن تظن أن من يعصي الله يعصيه قهراً عن الله، بل بما ركب فيه من الاختيار، وقد يقول قائل: وما ذنب الإنسان أن يكون مختاراً من بين جميع المخلوقات؟... لو حققت هذه القضية منطقياً وفلسفياً لوجدت الكون كله كان مختاراً، وليس الإنسان فقط، لكن اختارت جميع المخلوقات أن تسلم الأمر لله، وفضلت أن تكون مقهورة مسخرة من البداية، أما الإنسان ففضل الاختيار، وقال: سأعمل بحرص، وسأحمل الأمانة بإخلاص، وهذا واضح في قول الحق تبارك وتعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا "72 "} (سورة الأحزاب)... فالكون إذن ليس مقهوراً رغماً عنه، بل بإرادته واختياره، وكذلك الإنسان ليس مختاراً رغماً عنه، بل بإرادته واختياره...