{ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }
أي : { قُلْ } لهم على وجه تصحيح دعواهم : { إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ } يعني الجنة { خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ } كما زعمتم ، أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة ، فإن كنتم صادقين بهذه الدعوى { فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ } وهذا نوع مباهلة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وليس بعد هذا الإلجاء والمضايقة لهم بعد العناد منهم ، إلا أحد أمرين : إما أن يؤمنوا بالله ورسوله ، وإما أن يباهلوا على ما هم عليه بأمر يسير عليهم ، وهو تمني الموت الذي يوصلهم إلى الدار التي هي خالصة لهم ، فامتنعوا من ذلك .
ثم لقد كانوا يطلقونها دعوى عريضة . . إنهم شعب الله المختار . إنهم وحدهم المهتدون . إنهم وحدهم الفائزون في الآخرة . إنه ليس لغيرهم من الأمم في الآخرة عند الله نصيب .
وهذه الدعوى تتضمن أن المؤمنين بمحمد [ ص ] لا نصيب لهم في الآخرة . والهدف الأول هو زعزعة ثقتهم بدينهم وبوعود رسولهم ووعود القرآن لهم . . فأمر الله نبيه [ ص ] أن يدعو اليهود إلى مباهلة . أي بأن يقف الفريقان ويدعوا الله بهلاك الكاذب منهما :
( قل : إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس ، فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) .
{ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }( 94 )
وقوله تعالى : { قل إن كانت لكم الدار الآخرة } الآية أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم ، والمعنى : إن كان لكم نعيمها وحظوتها وخيرها فذلك يقتضي حرصكم على الوصول إليها { فتمنوا الموت } ، { الدار } اسم { كانت } ، و { خالصة } خبرها ، ويجوز أن يكون نصب { خالصة } على الحال ، و { عند الله } خبر كان( {[964]} ) ، و { من دون الناس } : يحتمل أن يراد ب { الناس } محمد صلى الله عليه وسلم ومن تبعه ، ويحتمل أن يراد العموم التام( {[965]} ) وهو قول اليهود فيما حفظ عنهم ، وقرأ ابن أبي إسحاق بكسر الواو من «تمنوا » للالتقاء( {[966]} ) ، وحكى الأهوازي عن أبي عمرو أنه قرأ «تمنوا الموت » بفتح الواو( {[967]} ) ، وحكي عن غيره اختلاس الحركة في الرفع ، وقراءة الجماعة بضم الواو . وهذه آية بينة أعطاها الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم لأن اليهود قالت : نحن أبناء الله وأحباؤه( {[968]} ) ، وشبه ذلك من القول ، فأمر الله نبيه أن يدعوهم إلى تمني الموت ، وأن يعلمهم أنه من تمناه منهم مات ، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، فعلم اليهود صدقه ، فأحجموا عن تمنيه ، فرقاً من الله لقبح أعمالهم ومعرفتهم بكذبهم في قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وحرصاً منهم على الحياة . ( {[969]} )
وقيل إن الله تعالى منعهم من التمني وقصرهم على الإمساك عنه ، لتظهر الآية لنبيه صلى الله عليه وسلم( {[970]} ) .
والمراد بقوله «تمنوا » أريدوه بقلوبكم واسألوه ، هذا قول جماعة من المفسرين ، وقال ابن عباس : المراد فيه السؤال فقط وإن لم يكن بالقلب( {[971]} ) ، وقال أيضاً هو وغيره : إنما أمروا بالدعاء بالموت على أردأ الحزبين من المؤمنين أو منهم( {[972]} ) ، وذكر المهدوي وغيره أن هذه الآية كانت مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم وارتفعت بموته( {[973]} ) . والصحيح أن هذه النازلة من موت من تمنى الموت إنما كانت أياماً كثيرة عند نزول الآية ، وهي بمنزلة دعائه النصارى من أهل نجران إلى المباهلة ، وقالت فرقة : إن سبب هذا الدعاء إلى تمني الموت أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد به هلاك الفريق المكذب أو قطع حجتهم ، لا أن علته قولهم نحن أبناء الله . ( {[974]} )