{ 32 - 34 } { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا }
يقول تعالى : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ } خطاب لهن كلهن { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ } اللّه ، فإنكن بذلك ، تفقن النساء ، ولا يلحقكن أحد من النساء ، فكملن التقوى بجميع وسائلها ومقاصدها .
فلهذا أرشدهن إلى قطع وسائل المحرم ، فقال : { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ } أي : في مخاطبة الرجال ، أو بحيث يسمعون فَتَلِنَّ في ذلك ، وتتكلمن بكلام رقيق يدعو ويطمع { الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي : مرض شهوة الزنا ، فإنه مستعد ، ينظر أدنى محرك يحركه ، لأن قلبه غير صحيح [ فإن القلب الصحيح ]{[1]} ليس فيه شهوة لما حرم اللّه ، فإن ذلك لا تكاد تُمِيلُه ولا تحركه الأسباب ، لصحة قلبه ، وسلامته من المرض .
بخلاف مريض القلب ، الذي لا يتحمل ما يتحمل الصحيح ، ولا يصبر على ما يصبر عليه ، فأدنى سبب يوجد ، يدعوه إلى الحرام ، يجيب دعوته ، ولا يتعاصى عليه ، فهذا دليل على أن الوسائل ، لها أحكام المقاصد . فإن الخضوع بالقول ، واللين فيه ، في الأصل مباح ، ولكن لما كان وسيلة إلى المحرم ، منع منه ، ولهذا ينبغي للمرأة في مخاطبة الرجال ، أن لا تلِينَ لهم القول .
ولما نهاهن عن الخضوع في القول ، فربما توهم أنهن مأمورات بإغلاظ القول ، دفع هذا بقوله : { وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا } أي : غير غليظ ، ولا جاف كما أنه ليس بِلَيِّنٍ خاضع .
وتأمل كيف قال : { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ } ولم يقل : { فلا تَلِنَّ بالقول } وذلك لأن المنهي عنه ، القول اللين ، الذي فيه خضوع المرأة للرجل ، وانكسارها عنده ، والخاضع ، هو الذي يطمع فيه ، بخلاف من تكلم كلامًا لينًا ، ليس فيه خضوع ، بل ربما صار فيه ترفع وقهر للخصم ، فإن هذا ، لا يطمع فيه خصمه ، ولهذا مدح اللّه رسوله باللين ، فقال : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } وقال لموسى وهارون : { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى }
ودل قوله : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } مع أمره بحفظ الفرج وثنائه على الحافظين لفروجهم ، والحافظات ، ونهيه عن قربان الزنا ، أنه ينبغي للعبد ، إذا رأى من نفسه هذه الحالة ، وأنه يهش{[2]} لفعل المحرم عندما يرى أو يسمع كلام من يهواه ، ويجد دواعي طمعه قد انصرفت إلى الحرام ، فَلْيَعْرِفْ أن ذلك مرض .
فَلْيَجْتَهِدْ في إضعاف هذا المرض وحسم الخواطر الردية ، ومجاهدة نفسه على سلامتها من هذا المرض الخطر ، وسؤال اللّه العصمة والتوفيق ، وأن ذلك من حفظ الفرج المأمور به .
ثم يبين لأمهات المؤمنين اختصاصهن بما ليس لغيرهن من النساء ؛ ويقرر واجباتهن في معاملة الناس ، وواجبهن في عبادة الله ، وواجبهن في بيوتهن ؛ ويحدثهن عن رعاية الله الخاصة لهذا البيت الكريم ، وحياطته وصيانته من الرجس ؛ ويذكرهن بما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة ، مما يلقي عليهن تبعات خاصة ، ويفردهن بين نساء العالمين :
( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن . فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض ، وقلن قولا معروفا . وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، وأقمن الصلاة وآتين الزكاة ، وأطعن الله ورسوله ، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس - أهل البيت - ويطهركم تطهيرا . واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة . إن الله كان لطيفا خبيرا ) . .
لقد جاء الإسلام فوجد المجتمع العربي - كغيره من المجتمعات في ذلك الحين - ينظر إلى المرأة على أنها أداة للمتاع ، وإشباع الغريزة . ومن ثم ينظر إليها من الناحية الإنسانية نظرة هابطة .
كذلك وجد في المجتمع نوعا من الفوضى في العلاقات الجنسية . ووجد نظام الأسرة مخلخلا على نحو ما سبق بيانه في السورة .
هذا وذلك إلى هبوط النظرة إلى الجنس ؛ وانحطاط الذوق الجمالي ؛ والاحتفال بالجسديات العارمة ، وعدم الالتفات إلى الجمال الرفيع الهادئ النظيف . . يبدو هذا في أشعار الجاهليين حول جسد المرأة ، والتفاتاتهم إلى أغلظ المواضع فيه ، وإلى أغلظ معانيه !
فلما أن جاء الإسلام أخذ يرفع من نظرة المجتمع إلى المرأة ؛ ويؤكد الجانب الإنساني في علاقات الجنسين ؛ فليست هي مجرد إشباع لجوعة الجسد ، وإطفاء لفورة اللحم والدم ، إنما هي اتصال بين كائنين إنسانيين من نفس واحدة ، بينهما مودة ورحمة ، وفي اتصالهما سكن وراحة ؛ ولهذا الاتصال هدف مرتبط بإرادة الله في خلق الإنسان ، وعمارة الأرض ، وخلافة هذا الإنسان فيها بسنة الله .
كذلك أخذ يعنى بروابط الأسرة ؛ ويتخذ منها قاعدة للتنظيم الاجتماعي ؛ ويعدها المحضن الذي تنشأ فيه الأجيال وتدرج ؛ ويوفر الضمانات لحماية هذا المحضن وصيانته ، ولتطهيره كذلك من كل ما يلوث جوه من المشاعر والتصورات .
والتشريع للأسرة يشغل جانبا كبيرا من تشريعات الإسلام ، وحيزا ملحوظا من آيات القرآن . وإلى جوار التشريع كان التوجيه المستمر إلى تقوية هذه القاعدة الرئيسية التي يقوم عليها المجتمع ؛ وبخاصة فيما يتعلق بالتطهر الروحي ، وبالنظافة في علاقات الجنسين ، وصيانتها من كل تبذل ، وتصفيتها من عرامة الشهوة ، حتى في العلاقات الجسدية المحضة .
وفي هذه السورة يشغل التنظيم الاجتماعي وشؤون الأسرة حيزا كبيرا . وفي هذه الآيات التي نحن بصددها حديث إلى نساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وتوجيه لهن في علاقتهن بالناس ، وفي خاصة أنفسهن ، وفي علاقتهن بالله . توجيه يقول لهن الله فيه : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس - أهل البيت - ويطهركم تطهيرا ) .
فلننظر في وسائل إذهاب الرجس ، ووسائل التطهر ، التي يحدثهن الله - سبحانه - عنها ، ويأخذهن بها . وهن أهل البيت ، وزوجات النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأطهر من عرفت الأرض من النساء . ومن عداهن من النساء أحوج إلى هذه الوسائل ممن عشن في كنف رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وبيته الرفيع .
إنه يبدأ بإشعار نفوسهن بعظيم مكانهن ، ورفيع مقامهن ، وفضلهن على النساء كافة ، وتفردهن بذلك المكان بين نساء العالمين . على أن يوفين هذا المكان حقه ، ويقمن فيه بما يقتضيه :
( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن ) . .
( لستن كأحد من النساء إن اتقيتن ) . . فأنتن في مكان لا يشارككن فيه أحد ، ولا تشاركن فيه أحدا . ولكن ذلك إنما يكون بالتقوى . فليست المسألة مجرد قرابة من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بل لا بد من القيام بحق هذه القرابة في ذات أنفسكن .
وذلك هو الحق الصارم الحاسم الذي يقوم عليه هذا الدين ؛ والذي يقرره رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو ينادي أهله ألا يغرهم مكانهم من قرابته ، فإنه لا يملك لهم من الله شيئا : " يا فاطمة ابنة محمد . يا صفية ابنة عبد المطلب . يا بني عبد المطلب . لا أملك لكم من الله شيئا . سلوني من مالي ما شئتم " .
وفي رواية أخرى : " يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار . يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار . فإني والله لا أملك لكم من الله شيئا ، إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها " .
وبعد أن يبين لهن منزلتهن التي ينلنها بحقها ، وهو التقوى ، يأخذ في بيان الوسائل التي يريد الله أن يذهب بها الرجس عن أهل البيت ويطهرهم تطهيرا :
( فلا تخضعن بالقول ، فيطمع الذي في قلبه مرض ) . .
ينهاهن حين يخاطبن الأغراب من الرجال أن يكون في نبراتهن ذلك الخضوع اللين الذي يثير شهوات الرجال ، ويحرك غرائزهم ، ويطمع مرضى القلوب ويهيج رغائبهم !
ومن هن اللواتي يحذرهن الله هذا التحذير ؛ إنهن أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأمهات المؤمنين ، اللواتي لا يطمع فيهن طامع ، ولا يرف عليهن خاطر مريض ، فيما يبدو للعقل أول مرة . وفي أي عهد يكون هذا التحذير ? في عهد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وعهد الصفوة المختارة من البشرية في جيمع الأعصار . . ولكن الله الذي خلق الرجال والنساء يعلم أن في صوت المرأة حين تخضع بالقول ، وتترقق في اللفظ ، ما يثير الطمع في قلوب ، ويهيج الفتنة في قلوب . وأن القلوب المريضة التي تثار وتطمع موجودة في كل عهد ، وفي كل بيئة ، وتجاه كل امرأة ، ولو كانت هي زوج النبي الكريم ، وأم المؤمنين . وأنه لا طهارة من الدنس ، ولا تخلص من الرجس ، حتى تمتنع الأسباب المثيرة من الأساس .
فكيف بهذا المجتمع الذي نعيش اليوم فيه . في عصرنا المريض الدنس الهابط ، الذي تهيج فيه الفتن وتثور فيه الشهوات ، وترف فيه الأطماع ? كيف بنا في هذا الجو الذي كل شيء فيه يثير الفتنة ، ويهيج الشهوة وينبه الغريزة ، ويوقظ السعار الجنسي المحموم ? كيف بنا في هذا المجتمع ، في هذا العصر ، في هذا الجو ، ونساء يتخنثن في نبراتهن ، ويتميعن في أصواتهن ، ويجمعن كل فتنة الأنثى ، وكل هتاف الجنس ، وكل سعار الشهوة ؛ ثم يطلقنه في نبرات ونغمات ? ! وأين هن من الطهارة ? وكيف يمكن أن يرف الطهر في هذا الجو الملوث . وهن بذواتهن وحركاتهن وأصواتهن ذلك الرجس الذي يريد الله أن يذهبه عن عباده المختارين ? !
نهاهن من قبل عن النبرة اللينة واللهجة الخاضعة ؛ وأمرهن في هذه أن يكون حديثهن في أمور معروفة غير منكرة ؛ فإن موضوع الحديث قد يطمع مثل لهجة الحديث . فلا ينبغي أن يكون بين المرأة والرجل الغريب لحن ولا إيماء ، ولا هذر ولا هزل ، ولا دعابة ولا مزاح ، كي لا يكون مدخلا إلى شيء آخر وراءه من قريب أو من بعيد .
والله سبحانه الخالق العليم بخلقه وطبيعة تكوينهم هو الذي يقول هذا الكلام لأمهات المؤمنين الطاهرات . كي يراعينه في خطاب أهل زمانهن خير الأزمنة على الإطلاق !
{ يا نساء النبي لستن كأحد من النساء } أصل أحد وحد بمعنى الواحد ، ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد والكثير ، والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل . { إن اتقيتن } مخالفة حكم الله ورضا رسوله . { فلا تخضعن بالقول } فلا تجئن بقولكن خاضعا لينا مثل قول المريبات . { فيطمع الذي في قلبه مرض } فجور وقرئ بالجزم عطفا على محل فعل النهي على أنه نهى مريض القلب عن الطمع عقيب نهيهن عن الخضوع بالقول . { وقلن قولا معروفا } حسنا بعيدا عن الريبة .