ولما قرر أنه الإله الحق المعبود ، بين العبادة والدين الذي يتعين أن يعبد به ويدان له ، وهو الإسلام الذي هو الاستسلام لله بتوحيده وطاعته التي دعت إليها رسله ، وحثت عليها كتبه ، وهو الذي لا يقبل من أحد دينا سواه ، وهو متضمن للإخلاص له في الحب والخوف والرجاء والإنابة والدعاء ومتابعة رسوله في ذلك ، وهذا هو دين الرسل كلهم ، وكل من تابعهم فهو على طريقهم ، وإنما اختلف أهل الكتاب بعد ما جاءتهم كتبهم تحثهم على الاجتماع على دين الله ، بغيا بينهم ، وظلما وعدوانا من أنفسهم ، وإلا فقد جاءهم السبب الأكبر الموجب أن يتبعوا الحق ويتركوا الاختلاف ، وهذا من كفرهم ، فلهذا قال تعالى { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب } فيجازي كل عامل بعمله ، وخصوصا من ترك الحق بعد معرفته ، فهذا مستحق للوعيد الشديد والعقاب الأليم .
ويرتب على هذه الحقيقة التي عاد لتوكيدها مرتين في الآية الواحدة ، نتيجتها الطبيعية . . الوهية واحدة . فلا عبودية إلا لهذه الألوهية الواحدة :
( إن الدين عند الله الإسلام . وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم . بغيا بينهم . ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب . فإن حاجوك فقل : أسلمت وجهي لله ومن اتبعن . وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين : أأسلمتم ؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا . وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ، والله بصير بالعباد ) . .
ألوهية واحدة . . وإذن فدينونة واحدة . . واستسلام لهذه الألوهية لا يبقى معه شيء في نفوس العباد ولا في حياتهم خارجا عن سلطان الله .
ألوهية واحدة . . وإذن فجهة واحدة هي صاحبة الحق في تعبيد الناس لها ؛ وفي تطويعهم لأمرها ؛ وفي إنفاذ شريعتها فيهم وحكمها ؛ وفي وضع القيم والموازين لهم وأمرهم باتباعها ؛ وفي إقامة حياتهم كلها وفق التعليمات التي ترضاها . .
ألوهية واحدة . . وإذن فعقيدة واحدة هي التي يرضاها الله من عباده . عقيدة التوحيد الخالص الناصع . . ومقتضيات التوحيد هذه التي أسلفنا :
( إن الدين عند الله الإسلام ) . .
الإسلام الذي هو ليس مجرد دعوى ، وليس مجرد راية ، وليس مجرد كلمة تقال باللسان ؛ ولا حتى تصورا يشتمل عليه القلب في سكون ؛ ولا شعائر فردية يؤديها الأفراد في الصلاة والحج والصيام . . لا . فهذا ليس بالإسلام الذي لا يرضى الله من الناس دينا سواه . إنما الإسلام الاستسلام . الإسلام الطاعة والاتباع . الإسلام تحكيم كتاب الله في أمور العباد . . كما سيجيء في السياق القرآني ذاته بعد قليل .
والإسلام توحيد الألوهية والقوامة . . بينما كان أهل الكتاب يخلطون بين ذات الله - سبحانه - وذات المسيح - عليه السلام - كما يخلطون بين إرادة الله وإرادة المسيح أيضا . . ويختلفون فيما بينهم على هذه التصورات اختلافا عنيفا يصل في أحيان كثيرة إلى حد القتل والقتال . . هنا يبين الله لأهل الكتاب وللجماعة المسلمة علة هذا الاختلاف :
( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم . بغيا بينهم ) .
إنه ليس اختلافا عن جهل بحقيقة الأمر . فقد جاءهم العلم القاطع بوحدانية الله ، وتفرد الألوهية . وبطبيعة البشرية ، وحقيقة العبودية . . ولكنهم إنما اختلفوا ( بغيا بينهم ) واعتداء وظلما ؛ حينما تخلوا عن قسط الله وعدله الذي تتضمنه عقيدته وشريعته وكتبه .
وقد رأينا فيما نقلناه عن المؤلف المسيحي الحديث كيف كانت التيارات السياسية تخلق هذه الاختلافات المذهبية . وليس هذا إلا نموذجا مما تكرر وقوعه في حياة اليهودية والمسيحية . وقد رأينا كيف كانت كراهية مصر والشام وما اليهما للحكم الروماني سببا في رفض المذهب الروماني الرسمي والتمذهب بمذهب آخر ! كما كان حرص بعض القياصرة على التوفيق بين أجزاء مملكته سببا في ابتداع مذهب وسط ، يظن أنه يوفق بين الأغراض جميعا ! ! كأنما العقيدة لعبة تستخدم في المناورات السياسية والوطنية ! وهذا هو البغي أشنع البغي . عن قصد وعن علم !
ومن ثم يجيء التهديد القاصم في موضعه المناسب :
( ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ) . .
وقد عد الاختلاف على حقيقة التوحيد كفرا ؛ وهدد الكافرين بسرعة الحساب ؛ كي لا يكون الإمهال - إلى أجل - مدعاة للجاجة في الكفر والإنكار والاختلاف . .
وقوله : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ } إخبار من الله تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام ، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين ، حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن لقي الله بعد بعثته محمدًا صلى الله عليه وسلم بدِين على غير شريعته ، فليس بمتقبل . كما قال تعالى : { وَمَنْ يَبْتَغِ{[4902]} غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ]{[4903]} } [ آل عمران : 85 ] وقال في هذه الآية مخبرًا بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ }
ثم قال : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } أي : من جحد بما أنزل{[4904]} الله في كتابه فإن الله سيجازيه على ذلك ، ويحاسبه على تكذيبه ، ويعاقبه على مخالفته كتابه{[4905]}
قد تقدم ذكر اختلاف القراء في كسر الألف من { إن الدين } وفتحها ، و{ الدين } في هذه الآية الطاعة والملة ، والمعنى ، أن الدين المقبول أو النافع أو المقرر ، و{ الإسلام } في هذه الآية هو الإيمان والطاعة ، قاله أبو العالية وعليه جمهور المتكلمين ، وعبر عنه قتادة ومحمد بن جعفر بن الزبير بالإيمان .
قال أبو محمد رحمه الله : ومرادهما ، أنه من الأعمال ، و{ الإسلام } هو الذي سأل عنه جبريل النبي عليه السلام حين جاء يعلم الناس دينهم الحديث{[3032]} وجواب النبي له في الإيمان والإسلام يفسر ذلك ، وكذلك تفسيره قوله عليه السلام : بني الإسلام على خمس ، الحديث{[3033]} ، وكل مؤمن بنبيه ملتزم لطاعات شرعه فهو داخل تحت هذه الصفة ، وفي قراءة ابن مسعود «إن الدين عند الله للإسلام » باللام{[3034]} ثم أخبر تعالى عن اختلاف أهل الكتاب ، أنه كان على{[3035]} علم منهم بالحقائق ، وأنه كان بغياً وطلباً للدنيا ، قاله ابن عمر وغيره .
و { والذين أوتوا الكتاب } لفظ يعم اليهود والنصارى ، لكن الربيع بن أنس قال ، المراد بهذه الآية اليهود{[3036]} ، وذلك أن موسى عليه السلام ، لما حضرته الوفاة ، دعا سبعين حبراً من أحبار{[3037]} بني إسرائيل فاستودعهم التوراة ، عند كل حبر جزء ، واستخلف يوشع بن نون فلما مضت ثلاثة قرون ، وقعت الفرقة بينهم ، وقال محمد بن جعفر بن الزبير : المراد بهذه الآية النصارى ، وهي توبيخ لنصارى نجران ، و{ بغياً } نصب على المفعول من أجله أو على الحال من { الذين } ثم توعد عز وجل الكفار ، وسرعة الحساب يحتمل أن يراد بها سرعة مجيء القيامة والحساب إذ هي متيقنة الوقوع ، فكل آت قريب ويحتمل أن يراد بسرعة الحساب أن الله تعالى بإحاطته بكل شيء علماً لا يحتاج إلى عد ولا فكرة ، قاله مجاهد .