{ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ } تمر عليه من شدتها ونحسها . فسلطها الله عليهم { سبع ليالي وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية } [ { بِأَمْرِ رَبِّهَا } أي : بإذنه ومشيئته ] . { فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ } قد تلفت مواشيهم وأموالهم وأنفسهم . { كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } بسبب جرمهم وظلمهم .
والنص القرآني يصور الريح حية مدركة مأمورة بالتدمير : ( تدمر كل شيء بأمر ربها )وهي الحقيقة الكونية التي يحفل القرآن بإشعارها للنفوس . فهذا الوجود حي . وكل قوة من قواه واعية . وكلها تدرك عن ربها وتتوجه لما تكلف به من لدنه . والإنسان أحد هذه القوى . وحين يؤمن حق الإيمان ، ويفتح قلبه للمعرفة الواصلة ، يستطيع أن يعي عن القوى الكونية من حوله ، وأن يتجاوب معها ، وأن تتجاوب معه ، تجاوب الأحياء المدركة ، بغير الصورة الظاهرة التي يعرفها الناس من الحياة والإدراك . ففي كل شيء روح وحياة ، ولكننا لا ندرك هذا لأننا محجوبون بالظواهر والأشكال عن البواطن والحقائق . والكون من حولنا حافل بالأسرار المحجوبة بالأستار ، تدركها البصائر المفتوحة ولا تراها الأبصار .
وقد أدت الريح ما أمرت به ، فدمرت كل شيء ( فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ) . . أما هم وأما أنعامهم وأما أشياؤهم وأما متاعهم فلم يعد شيء منه يرى . إنما هي المساكن قائمة خاوية موحشة ، لا ديار فيها ولا نافخ نار . . ( كذلك نجزي القوم المجرمين ) . . سنة جارية وقدر مطرد في المجرمين .
{ تُدَمِّرُ } أي : تخرب { كُلِّ شَيْءٍ } من بلادهم ، مما من شأنه الخراب { بِأَمْرِ رَبِّهَا } أي : بإذن الله لها في ذلك ، كقوله : { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } [ الذاريات : 42 ] أي : كالشيء البالي . ولهذا قال : { فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ } أي : قد بادوا كلهم عن آخرهم ولم تبق لهم باقية ، { كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } أي : هذا حكمنا فيمن كذب رسلنا ، وخالف أمرنا .
وقد ورد حديث في قصتهم وهو غريب جدًا من غرائب الحديث وأفراده ، قال الإمام أحمد :
حدثنا زيد بن الحُبَاب ، حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي قال : حدثنا عاصم بن أبي النَّجُود ، عن أبي وائل ، عن الحارث البكري قال : خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمررت بالرَبْذَة ، فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها ، فقالت لي : يا عبد الله ، إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة ، فهل أنت مبلغي إليه ؟ قال : فحملتها فأتيت بها المدينة ، فإذا المسجد غاص بأهله ، وإذا راية سوداء تخفق ، وإذا بلال متقلد السيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ما شأن الناس ؟ قالوا : يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها . قال : فجلست ، فدخل منزله - أو قال : رحله - فاستأذنت عليه ، فأذن لي ، فدخلت فسلمت ، فقال : " هل كان بينكم وبين تميم شيء ؟ قلت : نعم ، وكانت لنا الدبرة{[26449]} عليهم ، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع ، بها فسألتني أن أحملها إليك ، وها هي بالباب : فأذن لها فدخلت ، فقلت : يا رسول الله ، إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزا فاجعل الدهناء ، فحميت العجوز واستوفزت ، وقالت : يا رسول الله ، فإلى أين يضطر مضطرك ؟ قال : قلت : إن مثلي ما قال الأول : " مِعْزَى حَمَلَت حَتْفَها " ، حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما ، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد . قال : " هيه ، وما وافد عاد ؟ " - وهو أعلم بالحديث منه ، ولكن يستطعمه{[26450]} - قلت : إن عادًا قحطوا فبعثوا وافدًا لهم يقال له : قَيل ، فمر بمعاوية بن بكر ، فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان يقال لهما " الجرادتان " - فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مَهْرة فقال : اللهم ، إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه ، ولا إلى أسير فأفاديه ، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه . فمرت به سحابات سود ، فنودي منها : " اختر " ، فأومأ إلى سحابة منها سوداء ، فنودي منها : " خذها رمادًا رمددًا {[26451]} ، لا تبقي من عاد أحدا " . قال : فما بلغني أنه أرسل عليهم من الريح إلا كقدر ما يجري في خاتمي هذا ، حتى هلكوا - قال أبو وائل : وصدق - وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدًا لهم قالوا : " لا تكن كوافد عاد " .
رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه ، كما تقدم في سورة " الأعراف " {[26452]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هارون بن معروف ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا عمرو : أن أبا النضر حدثه عن سليمان بن يسار ، عن عائشة{[26453]} أنها قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعًا ضاحكا حتى أرى منه لهواته ، إنما كان يتبسم . قالت : وكان{[26454]} إذا رأى غيما - أو ريحا - عرف ذلك في وجهه ، قالت : يا رسول الله ، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر ، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية ؟ فقال : " يا عائشة ، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب ، قد عذب قوم بالريح ، وقد رأى قوم العذاب فقالوا : هذا عارض ممطرنا " . وأخرجاه{[26455]} من حديث ابن وهب {[26456]} .
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، عن سفيان ، عن المقدام بن شريح ، عن أبيه ، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئا في أفق من آفاق السماء ، ترك عمله ، وإن كان في صلاته ، ثم يقول : " اللهم ، إني أعوذ بك من شر ما فيه " {[26457]} . فإن كشفه الله حمد الله ، وإن أمطرت قال : " اللهم ، صيبا نافعا " {[26458]} .
طريق أخرى : قال مسلم في صحيحه : حدثنا أبو الطاهر ، أخبرنا ابن وهب ، سمعت ابن جريج يحدث عن عطاء بن أبي رباح ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال : " اللهم ، إني أسألك خيرها ، وخير ما فيها ، وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها ، وشر ما فيها ، وشر ما أرسلت به " . قالت : وإذا تَخَيَّلت السماء تغير لونه ، وخرج ودخل ، وأقبل وأدبر ، فإذا مطرت سري عنه ، فعرفت ذلك عائشة ، فسألته ، فقال : " لعله يا عائشة كما قال قوم عاد : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا } {[26459]} .
وقد ذكرنا قصة هلاك عاد{[26460]} في سورتي " الأعراف وهود " {[26461]} بما أغنى عن إعادته هاهنا ، ولله الحمد والمنة .
وقال الطبراني : حدثنا عبدان بن أحمد ، حدثنا إسماعيل بن زكريا الكوفي ، حدثنا أبو مالك ، عن مسلم الملائي ، عن مجاهد وسعيد بن جبير{[26462]} ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما فتح على عاد من الريح إلا مثل موضع الخاتم ، ثم أرسلت عليهم [ فحملتهم ] البدو إلى الحضر فلما رآها أهل الحضر قالوا : هذا عارض ممطرنا مستقبل أوديتنا . وكان أهل البوادي فيها ، فألقى أهل البادية على أهل الحاضرة حتى هلكوا . قال : عتت على خزانها حتى خرجت من خلال الأبواب{[26463]} " {[26464]} .
و : { تدمر } معناه : تهلك . والدمار : الهلاك ، ومنه قول جرير : [ الوافر ]
وكان لهم كبكر ثمود لمّا . . . رغا دهراً فدمرهم دمارا{[10320]}
وقوله : { كل شيء } ظاهره العموم ومعناه الخصوص في كل ما أمرت بتدميره ، وروي أن هذه الريح رمتهم أجمعين في البحر .
وقرأ جمهور القراء : { لا ترى إلا مساكنهم }{[10321]} ، أي لا ترى أيها المخاطب . وقرأ عاصم وحمزة : «لا يُرى » بالياء على بناء الفعل للمفعول «مساكنُهم » رفعاً . التقدير : لا يرى شيء منهم ، وهذه قراءة ابن مسعود وعمرو بن ميمون والحسن بخلاف عنه ، ومجاهد وعيسى وطلحة{[10322]} . وقرأ الحسن بن أبي الحسن والجحدري وقتادة وعمرو بن ميمون والأعمش وابن أبي إسحاق وأبو رجاء ومالك بن دينار بغير خلاف عنهما خاصة ممن ذكر{[10323]} : «لا تُرى » بالتاء منقوطة من فوق مضمومة «مساكُنهم » رفعاً ، ورويت عن ابن عامر ، وهذا نحو قول ذي الرمة : [ البسيط ]
كأنه جمل وهم وما بقيت . . . إلا النحيزة والألواح والعصب{[10324]}
فما بقيت إلا الضلوع الجراشع . . . {[10325]}
وفي هذه القراءة استكراه{[10326]} . وقرأ الأعمش وعيسى الهمداني : إلا مسكنهم «على الإفراد الذي هو اسم الجنس ، والجمهور على الجمع في اللفظة ، ووجه الإفراد تصغير الشأن وتقريبه كما قال تعالى : { ثم يخرجكم طفلاً }{[10327]} [ غافر : 67 ] .