تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۖ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَٰلِكُمۡ أَن تَبۡتَغُواْ بِأَمۡوَٰلِكُم مُّحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَۚ فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا تَرَٰضَيۡتُم بِهِۦ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡفَرِيضَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (24)

{ وَ } من المحرمات في النكاح { الْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ } أي : ذوات الأزواج . فإنه يحرم نكاحهن ما دمن في ذمة الزوج حتى تطلق وتنقضي عدتها . { إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي : بالسبي ، فإذا سبيت الكافرة ذات الزوج حلت للمسلمين بعد أن تستبرأ . وأما إذا بيعت الأمة المزوجة أو وهبت فإنه لا ينفسخ نكاحها لأن المالك الثاني نزل منزلة الأول ولقصة بريرة حين خيرها النبي صلى الله عليه وسلم .

وقوله : { كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي : الزموه واهتدوا به فإن فيه الشفاء والنور وفيه تفصيل الحلال من الحرام .

ودخل في قوله : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } كلُّ ما لم يذكر في هذه الآية ، فإنه حلال طيب . فالحرام محصور والحلال ليس له حد ولا حصر لطفًا من الله ورحمة وتيسيرًا للعباد .

وقوله : { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } أي : تطلبوا من وقع عليه نظركم واختياركم من اللاتي أباحهن الله لكم حالة كونكم { مُحْصِنِينَ } أي : مستعفين عن الزنا ، ومعفين نساءكم .

{ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } والسفح : سفح الماء في الحلال والحرام ، فإن الفاعل لذلك لا يحصن زوجته لكونه وضع شهوته في الحرام فتضعف داعيته للحلال فلا يبقى محصنا لزوجته . وفيها دلالة على أنه لا يزوج غير العفيف لقوله تعالى : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } . { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ } أي : ممن تزوجتموها { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي : الأجور في مقابلة الاستمتاع . ولهذا إذا دخل الزوج بزوجته تقرر عليه صداقها { فَرِيضَةً } أي : إتيانكم إياهن أجورهن فرض فرضه الله عليكم ، ليس بمنزلة التبرع الذي إن شاء أمضاه وإن شاء رده . أو معنى قوله فريضة : أي : مقدرة قد قدرتموها فوجبت عليكم ، فلا تنقصوا منها شيئًا .

{ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } أي : بزيادة من الزوج أو إسقاط من الزوجة عن رضا وطيب نفس [ هذا قول كثير من المفسرين ، وقال كثير منهم : إنها نزلت في متعة النساء التي كانت حلالا في أول الإسلام ثم حرمها النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يؤمر بتوقيتها وأجرها ، ثم إذا انقضى الأمد الذي بينهما فتراضيا بعد الفريضة فلا حرج عليهما ، والله أعلم ]{[205]} .

{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : كامل العلم واسعه ، كامل الحكمة : فمن علمه وحكمته شرع لكم هذه الشرائع وحد لكم هذه الحدود الفاصلة بين الحلال والحرام .


[205]:زيادة من هامش ب، والزيادة غير واضحة، وقد أتممتها من طبعة السلفية.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۖ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَٰلِكُمۡ أَن تَبۡتَغُواْ بِأَمۡوَٰلِكُم مُّحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَۚ فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا تَرَٰضَيۡتُم بِهِۦ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡفَرِيضَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (24)

24

هذا الدرس تكملة لما جاء في هذه السورة عن تنظيم الأسرة ، على قواعد الفطرة ، ولا يعود السياق بعد ذلك إلا في موضعين لبيان بعض الأحكام التكميلية في هذا الموضوع الأساسي الهام ، الذي يترتب على تنظيمه جريان الحي

ومما يلاحظ - بوجه عام - أن السياق يربط ربطا دقيقا بين هذه التنظيمات والأحكام وبين الأصل الأول الكبير للإيمان : وهو أن هذه التنظيمات والأحكام صادرة من الله . وهي مقتضى ألوهيته . فأخص خصائص الألوهية - كما كررنا ذلك في مطلع السورة - هو الحاكمية ، والتشريع للبشر ، ووضع الأسس التي تقوم عليها حياتهم وارتباطاتهم .

والسياق ما يني يكرر هذا الارتباط الدقيق ؛ وينبه إلى هذه الخاصية من خصائص الألوهية . ويكرر كذلك الإشارة إلى صدور هذه التنظيمات عن العليم الحكيم . . وهي إشارة ذات مغزى . . فالأمر في هذا المنهج الإلهي كله هو قبل كل شيء أمر العلم الشامل الكامل ، والحكمة المدركة البصيرة . . هذه الخصائص الإلهية التي يفقدها الإنسان ، فلا يصلح بعدها أبدا لوضع المنهج الأساسي لحياة الإنسان ! ومن هنا شقوة الإنسان في الأرض كلما حاد عن منهج العليم الحكيم ، وراح يخبط في التيه بلا دليل ، ويزعم أنه قادر ، بجهله وطيشه وهواه ، أن يختار لنفسه ولحياته خيرا مما يختاره الله ! ! !

والأمر الآخر الذي يؤكده سياق الدرس ويكرره : هو أن منهج الله هذا أيسر على الإنسان وأخف وأقرب إلى الفطرة ، من المناهج التى يريدها البشر ويهوونها ، وأنه من رحمة الله بضعف الإنسان أن يشرع له هذا المنهج ، الذي تكلفه الحيدة عنه عنتا ومشقة ، فوق ما تكلفه من هبوط وارتكاس .

وسنرى - عند استعراض النصوص بالتفصيل - مصداق هذه الحقيقة في واقع البشر التاريخي وهي حقيقة واضحة في هذا الواقع ، لولا أن الهوى يطمس القلوب ، ويعمي العيون ، عندما ترين الجاهلية على القلوب والعيون !

والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين . فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة . إن الله كان عليما حكيما . ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن ، وآتوهن أجورهن بالمعروف ، محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان . فإذا أحصن ، فإن أتين بفاحشة ، فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب - ذلك لمن خشي العنت منكم - وأن تصبروا خير لكم ، والله غفور رحيم . يريد الله ليبين لكم ، ويهديكم سنن الذين من قبلكم ، ويتوب عليكم ، والله عليم حكيم . والله يريد أن يتوب عليكم . ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما . يريد الله أن يخفف عنكم ، وخلق الإنسان ضعيفا . .

لقد سبق في نهاية الجزء الرابع بيان المحرمات من النساء حرمة ذاتية . وذلك في قوله تعالى : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء - إلا ما قد سلف - إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا . حرمت عليكم أمهاتكم ، وبناتكم ، وأخواتكم وعماتكم ، وخالاتكم ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت ، وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ، وأخواتكم من الرضاعة ، وأمهات نسائكم ، وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن - فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم - وحلائل أبنائكم - الذين من أصلابكم - وأن تجمعوا بين الأختين - إلا ما قد سلف - إن الله كان غفورا رحيما ) .

أما هذه التكملة :

( والمحصنات من النساء . . . )

فتتعلق بالمحرمات لأنهن في عصمة رجال آخرين . محصنات بالزواج منهم : فهن محرمات على غير أزواجهن ، لا يحل نكاحهن . . . وذلك تحقيقا للقاعدة الأولى في نظام المجتمع الإسلامي ، من قيامه على قاعدة الأسرة ، وجعلها وحدة المجتمع ، وصيانة هذه الأسرة من كل شائبة ، ومن كل اختلاط في الأنساب ، ينشأ من " شيوعية " الاتصال الجنسي ، أو ينشأ من انتشار الفاحشة ، وتلوث المجتمع بها .

والأسرة القائمة على الزواج العلني ، الذي تتخصص فيه امرأة بعينها لرجل بعينه ، ويتم به الإحصان - وهو الحفظ والصيانة - هي أكمل نظام يتفق مع فطرة " الإنسان " وحاجاته الحقيقية ، الناشئة من كونه إنسانا ، لحياته غاية أكبر من غاية الحياة الحيوانية - وإن كانت تتضمن هذه الغاية في ثناياها - ويحقق أهداف المجتمع الإنساني ، كما يضمن لهذا المجتمع السلم المطمئنة : سلم الضمير . وسلم البيت . وسلم المجتمع في نهاية المطاف .

والملاحظ بصفة ظاهرة ، أن الطفل الإنساني يحتاج إلى فترة رعاية أطول من الفترة التي يحتاج إليها طفل أي حيوان آخر . كما أن التربية التي يحتاج إليها ليصبح قادرا على إدراك مقتضيات الحياة الإنسانية الاجتماعية المترقية - التي يتميز بها الإنسان - تمتد إلى فترة طويلة أخرى .

وإذا كانت غاية الميل الجنسي في الحيوان تنتهي عند تحقيق الاتصال الجنسي والتناسل والإكثار ، فإنها في الإنسان لا تنتهي عند تحقيق هذا الهدف ، إنما هي تمتد إلى هدف أبعد هو الارتباط الدائم بين الذكر والأنثى - بين الرجل والمرأة - ليتم إعداد الطفل الإنساني لحماية نفسه وحفظ حياته ، وجلب طعامه وضرورياته ، كما يتم - وهذا هو الأهم بالنسبة لمقتضيات الحياة الإنسانية - تربية هذا الطفل وتزويده برصيد من التجارب الإنسانية والمعرفة الإنسانية يؤهله للمساهمة في حياة المجتمع الإنساني ، والمشاركة في حمل تبعته من اطراد الترقي الإنساني عن طريق الأجيال المتتابعة .

ومن ثم لم تعد اللذة الجنسية هي المقوم الأول في حياة الجنسين في عالم الإنسان ؛ إنما هي مجرد وسيلة ركبتها الفطرة فيهما ليتم الالتقاء بينهما ويطول بعد الاتصال الجنسي للقيام بواجب المشاركة في اطراد نمو النوع . ولم يعد " الهوى " الشخصي هو الحكم في بقاء الارتباط بين الذكر والأنثى . إنما الحكم هو " الواجب " . . . واجب النسل الضعيف الذي يجيء ثمرة للالتقاء بينهما ، وواجب المجتمع الإنساني الذي يحتم عليهما تربية هذا النسل إلى الحد الذي يصبح معه قادرا على النهوض بالتبعة الإنسانية ، وتحقيق غاية الوجود الإنساني .

وكل هذه الاعتبارات تجعل الارتباط بين الجنسين على قاعدة الأسرة ، هو النظام الوحيد الصحيح . كما تجعل تخصيص امرأة لرجل هو الوضع الصحيح الذي تستمر معه هذه العلاقة . والذي يجعل " الواجب " لا مجرد اللذة ولا مجرد الهوى ، هو الحكم في قيامها ، ثم في استمرارها ، ثم في معالجة كل مشكلة تقع فيأثنائها ، ثم عند فصم عقدتها عند الضرورة القصوى .

وأي تهوين من شأن روابط الأسرة ، وأي توهين للأساس الذي تقوم عليه - وهو " الواجب " لإحلال " الهوى " المتقلب ، و " النزوة " العارضة ، و " الشهوة " الجامحة محله ، هي محاولة آثمة ، لا لأنها تشيع الفوضى والفاحشة والانحلال في المجتمع الإنساني فحسب ، بل كذلك لأنها تحطم هذا المجتمع ؛ وتهدم الأساس الذي يقوم عليه .

ومن هنا ندرك مدى الجريمة التي تزاولها الأقلام والأجهزة الدنسة ، المسخرة لتوهين روابط الأسرة ، والتصغير من شأن الرباط الزوجي ، وتشويهه وتحقيره ، للإعلاء من شأن الارتباطات القائمة على مجرد الهوى المتقلب ، والعاطفة الهائجة ، والنزوة الجامحة . وتمجيد هذه الارتباطات ، بقدر الحط من الرباط الزوجي !

كما ندرك مدى الحكمة والعمق في قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لرجل أراد أن يطلق زوجته ، معللا ذلك بأنه لم يعد يحبها : " ويحك ! ألم تبن البيوت إلا على الحب ؟ فأين الرعاية ؟ وأين التذمم ؟ " . . مستمدا قولته هذه من توجيه الله سبحانه وتربية القرآن الكريم لتلك الصفوة المختارة من عباده : ( وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) . . وذلك للإمساك بالبيوت - ما أمكن - ومقاومة نزوات القلوب ، وعلاجها حتى تفيء ، وعدم بت هذه الصلة إلا حين تفلس المجادلات كلها ، رعاية للجيل الناشيء في هذه البيوت ؛ وصيانة لها من هزات العاطفة المتقلبة ، والنزوة الجامحة ، والهوى الذاهب مع الريح !

وفي ظل هذه النظرة السامية العميقة ، تتبدى التفاهة والسطحية فيما ينعق به اليوم أولئك المائعون ، وهم يمجدون كل ارتباط إلا الارتباط الذي يحكم الواجب ، والذي يرعى أمانة الجنس البشري كله ، وهي تنشئة أجيال تنهض بمقتضيات الحياة الإنسانية المترقية ، وتحكيم مصلحة هذه الأجيال ، لا مصلحة العواطف الوقتية الزائلة !

إن أقلاما دنسة رخيصة وأجهزة خبيثة لئيمة توحي لكل زوجة ينحرف قلبها قليلا عن زوجها أن تسارع إلى خدين ؛ ويسمون ارتباطها بخدينها هذا " رباطا مقدسا ! " بينما يسمون ارتباطها بذلك الزوج " عقد بيع للجسد " !

والله سبحانه يقول : في بيان المحرمات من النساء : ( والمحصنات من النساء ) . . فيجعلهن " محرمات " . هذا قول الله . وذلك قول المائعين المسخرين لتحطيم هذا المجتمع ونشر الفاحشة فيه . . . ( والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ) .

إن جهودا منظمة موجهة تبذل لإنشاء موازين وقيم وتصورات للمجتمع غير تلك التي يريدها الله . ولإقامة أسس للحياة والارتباطات غير تلك التي أقامها الله . ولتوجيه الناس والحياة وجهة غير التي قررها الله . . والموجهون لهذه الجهود يحسبون أنهم ينتهون إلى تحطيم قواعد المجتمع الإسلامي ، وتدمير حياة المسلمين في الأوطان الإسلامية ، حتى لا تبقى أمامهم حواجز تصد أطماعهم القديمة في هذه الأوطان ، بعد أن تنهار عقائدها ، وتنهار أخلاقها ، وتنهار مجتمعاتها . . ولكن الكارثة أبعد من هذا مدى . . إنها تحطيم قواعد المجتمع الإنساني كله - لا المجتمع الإسلامي وحده - تحطيم قواعد الفطرة التي تقوم عليها حياة الإنسان . وحرمان المجتمع البشري من العناصر التي تحمل أمانته الكبرى . أمانة الحياة الإنسانية المترقية . وذلك بحرمانه منالأطفال المؤهلين - في جو الأسرة الهادى ء ، المطمئن ، الآمن من عواصف الشهوات الجامحة ، والنزوات المتقلبة والهوى الذاهب مع الريح - للنهوض بأمانة الجنس البشري كله . وهي شيء آخر غير مجرد التناسل الحيواني ! وغير مجرد الالتقاء الشهواني على أساس " العواطف " وحدها ، وتنحية " الواجب " المطمئن الثابت الهادى ء !

وهكذا تحق اللعنة على الجنس البشري كله ، إذ يحطم نفسه بنفسه ؛ ويدمر الجيل الحاضر منه مستقبل الأجيال القادمة . لتحقيق لذاته هو ، وشهواته هو ، وعلى الأجيال القادمة اللعنة . وتحق كلمة الله على الخارجين على كلمته وفطرته وتوجيهه . ويذوق الجنس البشري كله وبال أمره . إلا أن يرحمه الله بالعصبة المؤمنة التي تقر كلمة الله ومنهجه في الأرض ، وتأخذ بيد الناس إليها ؛ وتعصمهم من الشر الماحق الذي يهيئونه لأنفسهم بأيديهم . وهم يحسبون أنهم فقط إنما يحطمون الأوطان الإسلامية ، لتنهار حواجزها بتلك الجهود الموجهة الخبيثة ! التي تتولاها أقلام وأجهزة من داخل هذه الأوطان ذاتها .

( والمحصنات من النساء - إلا ما ملكت أيمانكم . . ) .

وهذا الاستثناء يتعلق بالسبايا اللواتي كن يؤخذن أسيرات في حروب الجهاد الإسلامي وهن متزوجات في دار الكفر والحرب . حيث تنقطع علاقاتهن بأزواجهن الكفار ، بانقطاع الدار . ويصبحن غير محصنات . فلا أزواج لهن في دار الإسلام . ومن ثم يكفي استبراء أرحامهن بحيضة واحدة ؛ يظهر منها خلو أرحامهن من الحمل . ويصبح بعدها نكاحهن حلالا - إن دخلن في الإسلام - أو أن يباشرهن من غير عقد نكاح من يقعن في سهمه ، باعتبارهن ملك يمين . سواء أسلمن أم لم يسلمن .

ولقد سبق لنا في الجزء الثاني من هذه الظلال ، بيان موقف الإسلام من مسألة الرق بجملتها . . كذلك ورد بيان آخر عند تفسير قوله تعالى : ( حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ؛ فإما منا بعد وإما فداء ؛ حتى تضع الحرب أوزارها ) . . في سورة " محمد " في الجزء السادس والعشرين فيرجع إليهما في مواضعهما .

ونكتفي هنا بالقول : بأن المعسكر الإسلامي كان يعامل أعداءه في مسألة استرقاق الأسرى في الحرب كما يعاملونه من حيث مبدأ الرق ، ويفضلهم في نوع معاملته للرقيق وفي اعتبار إنسانيته فضلا كبيرا . ولم يكن له بد من ذلك . حيث كان استرقاق الأسرى نظاما عالميا لا يملك الإسلام إبطاله من جانب واحد . وإلا كان الأسرى من المسلمين يصبحون رقيقا ؛ بينما الأسرى من الكفار يصبحون أحرارا . فترجح كفة المعسكرات الكافرة على المعسكر الإسلامي ، وتطمع هذه المعسكرات في مهاجمته وهي آمنة مطمئنة من عواقب الهجوم ، بل وهي رابحة غانمة !

ومن ثم لم يكن بد من أن تكون هناك سبايا كوافر في المجتمع المسلم . فكيف يصنع بهن ؟ إن الفطرة لا تكتفي بأن يأكلن ويشربن . فهناك حاجة فطرية أخرى لا بد لهن من إشباعها وإلا التمسنها في الفاحشة التي تفسد المجتمع كله وتدنسه ! ولا يجوز للمسلمين أن ينكحوهن وهن مشركات . لتحريم الارتباط الزوجي بين مسلم ومشركة فلا يبقى إلا طريق واحد هو إحلال وطئهن بلا نكاح ما دمن مشركات - بعد استبراء أرحام المتزوجات منهن ، وانقطاع صلتهن بأزواجهن في دار الكفر والحرب .

وقبل أن يمضي السياق القرآني في تقرير ما يحل بعد تلك المحرمات ، يربط بين أصل التحريم والتحليل ومصدر التحريم والتحليل . المصدر الذي ليس لغيره أن يحرم أو يحلل ؛ أو يشرع للناس شيئا في أمور حياتهم جميعا :

( كتاب الله عليكم ) . .

هذا عهد الله عليكم وميثاقه وكتابه فليست المسألة هوى يتبع ، أو عرفا يطاع ، أو موروثات بيئة تتحكم . . إنما هو كتاب الله وعهده وميثاقه . . فهذا هو المصدر الذي تتلقون منه الحل والحرمة ؛ وترعون ما يفرضه عليكم وما يكتبه ، وتطالبون بما كتب عليكم وما عهد إليكم كذلك .

ومما يلاحظ أن معظم المحرمات التي حرمها القرآن في الآيات السابقة ، كانت محرمة في الجاهلية ولم يكن يباح منها في عرف الجاهلية إلا ما نكح الآباء ، والجمع بين الأختين - على كره من العرف الجاهلي ذاته لنكاح زوجات الآباء . وقد كان يسمى عندهم " مقيتا نسبة إلى المقت " ! ولكن لما جاء القرآن يقرر حرمة هذه المحرمات ، لم يرجع في تحريمها إلى عرف الجاهلية هذا ، إنما قال الله سبحانه : ( كتاب الله عليكم ) . .

هذه لمسة تقتضي الوقوف أمامها لبيان حقيقة الأصل الاعتقادي في الإسلام ، وحقيقة الأصل الفقهي . فهذا البيان يفيدنا في أمور كثيرة في حياتنا الواقعية :

إن الإسلام يعتبر أن الأصل الوحيد الذي يقوم عليه التشريع للناس هو أمر الله وإذنه . بإعتبار أنه هو مصدر السلطان الأول والأخير . فكل ما لم يقم ابتداء على هذا الأصل فهو باطل بطلانا أصليا ، غير قابل للتصحيح المستأنف . فالجاهلية بكل ما فيها - والجاهلية هي كل وضع لا يستمد وجوده من ذلك الأصل الوحيد الصحيح - باطلة بطلانا أصليا . باطلة بكل تصوراتها وقيمها وموازينها وعرفها وتقاليدها وشرائعها وقوانينها . والإسلام حين يسيطر على الحياة ويصرفها ، يأخذ الحياة جملة ، ويأخذ الأمر جملة ؛ فيسقط ابتداء كل أوضاع الجاهلية وكل قيمها ، وكل عرفها ، وكل شرائعها ؛ لأنها باطلة بطلانا أصليا غير قابل للتصحيح المستأنف . . فإذا أقر عرفا كان سائدا في الجاهلية ، فهو لا يقره بأصله الجاهلي ؛ مستندا إلى هذا الأصل . إنما هو يقرره ابتداء بسلطانه المستمد من أمر الله وإذنه . أما ذلك الذي كان في الجاهلية فقد سقط ولم يعد له وجود من الناحية الشرعية .

كذلك حين يحيل الفقه الإسلامي على " العرف " في بعض المسائل فهو يمنح العرف ابتداء سلطانا من عنده هو - بأمر الله - فتصبح للعرف - في هذه المسائل - قوة الشريعة ، استمدادا من سلطان الشارع - وهو الله - لا استمدادا من الناس ومن البيئة التي تواضعت على هذا العرف من قبل . فليس تواضع البيئة على هذا العرف هو الذي يمنحه السلطان . . كلا . . إنما الذي يمنحه السلطان هو اعتبار الشارع إياه مصدرا في بعض المسائل . وإلا بقي على بطلانه الأصلي ، لأنه لم يستمد من أمر الله . وهو وحده مصدر السلطان . وهو يقول عما كانت الجاهلية تشرعه مما لم يأذن به الله : ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ؟ ) فيشير إلى أن الله وحده هو الذي يشرع . فهل لهم آلهة شرعت لهم ما لم يأذن به الله ؟

هذا الأصل الكبير ، الذي تشير إليه هذه اللمسة : ( كتاب الله عليكم ) تقرره وتؤكده النصوص القرآنيةفي كل مناسبات التشريع ، فما من مرة ذكر القرآن تشريعا إلا أشار إلى المصدر الذي يجعل لهذا التشريع سلطانا . أما حين يشير إلى شرائع الجاهلية وعرفها وتصوراتها فهو يردفها غالبا بقوله : ما نزل الله بها من سلطان لتحريرها من السلطان ابتداء ، وبيان علة بطلانها ، وهي كونها لم تصدر من ذلك المصدر الوحيد الصحيح .

وهذا الأصل الذي نقرره هنا هو شيء آخر غير الأصل المعروف في التشريع الإسلامي . من أن الأصل في الأشياء الحل ، ما لم يرد بتحريمها نص . فكون الأصل في الاشياء الحل ، إنما هو كذلك بأمر الله وإذنه . فهو راجع إلى الأصل الذي قررناه ذاته . إنما نحن نتحدث عما تشرعه الجاهلية لنفسها دون رجوع إلى ما شرعه الله . وهذا الأصل فيه البطلان جملة وكلية ، حتى يقرر شرع الله ما يرى تقريره منه من جديد ، فيكتسب منذ أن يرد في شرع الله المشروعية والسلطان .

فإذا انتهى السياق من بيان المحرمات ، وربطها بأمر الله وعهده ، أخذ في بيان المجال الذي يملك فيه الناس أن يلبوا دوافع فطرتهم في التزاوج ، والطريقة التي يحب الله أن يلتقي بها أفراد الجنسين لتكوين البيوت ، وإقامة مؤسسات الأسرة ، والمتاع بهذا الالتقاء في نظافة وطهر وجد تليق بهذا الأمر العظيم :

( وأحل لكم - ما وراء ذلكم - أن تبتغوا بأموالكم . . محصنين غير مسافحين . . فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن - فريضة - ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة . إن الله كان عليما حكيما ) . .

ففيما وراء هذه المحرمات المذكورة فالنكاح حلال ، وللراغبين فيه أن يبتغوا النساء ، بأموالهم - أي لأداء صداقهن - لا لشراء أعراضهن بالأموال من غير نكاح ! ومن ثم قال :

( محصنين غير مسافحين ) . .

وجعلها قيدا وشرطا للابتغاء بالأموال ، قبل أن يتم الجملة ، وقبل أن يمضي في الحديث . ولم يكتف بتقرير هذا القيد في صورته الإيجابية المثبته : ( محصنين ) بل أردفها بنفي الصورة الأخرى : ( غير مسافحين ) زيادة في التوكيد والإيضاح ، في معرض التشريع والتقنين . . ثم لكي يرسم صورة لطبيعة العلاقة الأولى التي يحبها ويريدها . . علاقة النكاح . . وصورة لطبيعة العلاقة الأخرى التي يكرهها وينفيها . . علاقة المخادنة أو البغاء . . وقد كانت هذه وتلك معروفة في مجتمع الجاهلية ، ومعترفا بها كذلك من المجتمع !

جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها - :

" ان النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء : فنكاح منها نكاح الناس اليوم . يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته ، فيصدقها ثم ينكحها . . والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته - إذا طهرت من طمثها - أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه . فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب . وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد ! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع . . ونكاح آخر . يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة ، كلهم يصيبها ، فإذا حملت ووضعت ، ومر عليها ليال ، بعد أن تضع حملها ، أرسلت إليهم ، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع ، حتى يجتمعوا عندها ، تقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم ، وقد ولدت ، فهو ابنك يا فلان . تسمى من أحبت باسمه فيلحق به ولدها ، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل . والنكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما ، فمن أرادهن دخل عليهن ، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها ، جمعوا لها ودعوا لهم القافة ، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون ، فالتاطه ، ودعى ابنه لا يمتنع من ذلك "

فالنوعان الثالث والرابع هما السفاح الذي ينص على نفيه - سواء منه المخادنة والبغاء - والأول هو الإحصان الذي ينص على طلبه . . أما الثاني فما ندري كيف نسميه ! ! !

والقرآن يصور طبيعة النوع الذي يريده الله . . فهو إحصان . . هو حفظ وصيانة . . هو حماية ووقاية . . هو إحصان للرجل وإحصان للمرأة . ففي هذه القراءة( محصنين )بصيغة اسم الفاعل ، وفي قراءة أخرى : ( محصنين ) بصيغة اسم المفعول . وكلا المعنيين يتحقق في هذه الصورة النظيفة القويمة العفيفة . وهو إحصان للبيت والأسرة والأطفال . إحصان لهذة المؤسسة التي تقوم على هذا الأساس ثابتة راسخة وطيدة .

والآخر : سفاح . . مفاعلة من السفح ، وهو إراقة الماء في المنحدر الواطى ء ! مسافحة يشترك فيها الرجل والمرأة ، فيريقان ماء الحياة ، الذي جعله الله لامتداد النوع ، ورقيه ، عن طريق اشتراك الرجل والمرأة في إنجاب الذرية وتربيتها وحضانتها وصيانتها . فإذا هما يريقانه للذة العابرة ، والنزوة العارضة . يريقانه في السفح الواطى ء ! فلا يحصنهما من الدنس ، ولا يحصن الذرية من التلف ، ولا يحصن البيت من البوار !

وهكذا يرسم التعبير القرآني صورتين كاملتين لنوعين من الحياة ؛ في كلمتين اثنتين . ويبلغ غايته من تحسين الصورة التي يرتضيها ، وتبشيع الصورة التي لا يرتضيها ، بينما هو يقرر حقيقة كل من الصورتين في واقع الحياة . وذلك من بدائع التعبير في القرآن .

فإذا انتهى من هذا القيد للابتغاء بالأموال . عاد ليقرر كيف يبتغى بالأموال :

( فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ) .

فهو يجعل صداق المرأة فريضة لها مقابل الاستمتاع بها . فمن أراد أن يستمتع بامرأة من الحلائل - وهن ما وراء ذلكم من المحرمات - فالطريق هو ابتغاؤها للإحصان - أي عن طريق النكاح [ الزواج ] لا عن أي طريق آخر - وعليه أن يؤدي لها صداقها حتما مفروضا ، لا نافلة ، ولا تطوعا منه ، ولا إحسانا ، فهو حق لها عليه مفروض . وليس له أن يرثها وراثة بلا مقابل - كما كان يقع في بعض الأحوال في الجاهلية - وليس له أن يقايض عليها مقايضة كما كان يقع في زواج الشغار في الجاهلية . وهو أن يتزوج الرجل امرأة في مقابل أن يدفع لوليها امرأة من عنده ! كأنهما بهيمتان ! أو شيئان !

وبعد تقرير هذا الحق للمرأة وفرضيته ، يدع الباب مفتوحا لما يتراضى عليه الزوجان بينهما وفق مقتضيات حياتهما المشتركة ، ووفق مشاعرهما وعواطفهما أحدهما تجاه الآخر :

( ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ) .

فلا حرج عليهما في أن تتنازل الزوجة عن مهرها - كله أو بعضه - بعد بيانه وتحديده . وبعد أن أصبح حقا لها خالصا تتصرف فيه كما تتصرف في سائر أموالها بحرية - ولا جناح عليهما في أن يزيدها الزوج على المهر ، أو يزيدها فيه . فهذا شأنه الخاص . وهذا شأنهما معا يتراضيان عليه في حرية وسماحة .

ثم يجىء التعقيب . يربط هذه الأحكام بمصدرها ؛ ويكشف عما وراءها من العلم الكاشف ، والحكمة البصيرة :

( إن الله كان عليما حكيما ) . .

فهو الذي شرع هذه الأحكام . وهو الذي شرعها عن علم وعن حكمة . . فيعرف ضمير المسلم من أين يتلقى الأحكام في كل شأن من شئون حياته - وأخصها هذا الذي بينه وبين زوجه - ويطمئن إلى ما يتلقاه من هذه الأحكام ، الصادرة عن العلم وعن الحكمة ( إن الله كان عليما حكيما ) . . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۖ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَٰلِكُمۡ أَن تَبۡتَغُواْ بِأَمۡوَٰلِكُم مُّحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَۚ فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا تَرَٰضَيۡتُم بِهِۦ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡفَرِيضَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (24)

وقوله [ تعالى ]{[7007]} { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي : وحرم عليكم الأجنبيات المحصنات وهي المزوجات { إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } يعني : إلا ما{[7008]} ملكتموهن بالسبي ، فإنه يحل لكم وطؤهن إذا استبرأتموهن ، فإن الآية نزلت في ذلك .

قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان - هو الثوري - عن عثمان البَتِّي ، عن أبي الخليل ، عن أبي سعيد الخدري قال : أصبنا نساء{[7009]} من سبي أوطاس ، ولهن أزواج ، فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج ، فسألنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فنزلت هذه الآية : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [ قال ]{[7010]} فاستحللنا فروجهن .

وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع ، عن هُشَيم ، ورواه النسائي من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج ، ثلاثتهم عن عثمان البتي ، ورواه ابن جرير من حديث أشعث بن سواري عن عثمان البتي ، ورواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة عن قتادة ، كلاهما عن أبي الخليل صالح بن أبي مريم ، عن أبي سعيد الخدري ، فذكره ، وهكذا رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة عن أبي الخليل ، عن أبي سعيد ، به{[7011]} .

وقد روي من وجه آخر عن أبي الخليل ، عن أبي عَلْقَمَةَ الهاشمي ، عن أبي سعيد قال الإمام أحمد :

حدثنا ابن أبي عَدِيّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أبي الخليل ، عن أبي عَلْقَمَةَ ، عن أبي سعيد الخدري ؛ أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابوا سبايا يوم أوطاس ، لهن أزواج من أهل الشرك ، فكان أناسًا{[7012]} من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفوا وتأثموا{[7013]} من غشيانهن قال : فنزلت هذه الآية في ذلك : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }

وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث سعيد بن أبي عَرُوبة - زاد مسلم : وشعبة - ورواه الترمذي من حديث همام بن يحيى ، ثلاثتهم عن قتادة ، بإسناده نحوه . وقال الترمذي : هذا حديث حسن ، ولا أعلم أن أحدا ذكر أبا علقمة في هذا الحديث إلا ما ذكر همام عن قتادة . كذا قال . وقد تابعه سعيد وشعبة ، والله أعلم{[7014]} .

وقد روى الطبراني من طريق الضحاك عن ابن عباس : أنها نزلت في سبايا خيبر ، وذكر مثل حديث أبي سعيد ، وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن بيع الأمة يكون طلاقا لها من زوجها ، أخذا بعموم هذه الآية . قال ابن جرير : حدثنا ابن مثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : أنه سُئل عن الأمة تباع ولها زوج ؟ قال : كان عبد الله يقول : بيعها طلاقها ، ويتلو هذه الآية{[7015]} { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }

وكذا رواه سفيان{[7016]} عن منصور ، ومغيرة والأعمشن عن إبراهيم ، عن ابن مسعود قال : بيعها طلاقها . وهو منقطع .

وقال سفيان الثوري ، عن خالد ، عن أبي قِلابة ، عن ابن مسعود قال : إذا بيعت الأمة ولها زوج فسيدها أحق ببضعها .

ورواه سعيد ، عن قتادة قال : إن أبي بن كعب ، وجابر بن عبد الله ، وابن عباس قالوا : بيعها طلاقها .

وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، [ حدثنا ]{[7017]} ابن علية ، عن خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : طلاق الأمة ست{[7018]} بيعها طلاقها ، وعتقها طلاقها ، وهبتها طلاقها ، وبراءتها طلاقها ، وطلاق زوجها طلاقها .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب قوله : { وَالْمُحْصَناَتُ مِنَ النِّسَاءِ } قال : هُن{[7019]} ذوات الأزواج ، حرّم الله نكاحهن إلا ما ملكت يمينك{[7020]} فبيعها طلاقها وقال معمر : وقال الحسن مثل ذلك .

وهكذا رواه سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } قال : إذا كان لها زوج فبيعها طلاقها .

وقال عوف ، عن الحسن : بيع الأمة طلاقها وبيعُه طلاقُها .

فهذا قول هؤلاء من السلف [ رحمهم الله ]{[7021]} وقد خالفهم الجمهور قديمًا وحديثًا ، فرأوا أن بيع الأمة ليس طلاقها{[7022]} ؛ لأن المشتري نائب عن البائع ، والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة وباعها مسلوبة عنها ، واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرج في الصحيحين وغيرهما ؛ فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها وَنَجَّزَتْ عتقها ، ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث ، بل خيرها النبي صلى الله عليه وسلم بين الفسخ والبقاء ، فاختارت الفسخ ، وقصتها مشهورة ، فلو كان بيع الأمة طلاقها - كما قال{[7023]} هؤلاء لما خيرها النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما خيرها دل على بقاء النكاح ، وأن المراد من الآية المسبيات فقط ، والله أعلم .

وقد قيل : المراد بقوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ } يعني : العفائف حرام عليكم حتى تملكوا عصمتهن بنكاح وشهود ومهور وولي واحدة أو اثنتين{[7024]} أو ثلاثًا أو أربعا . حكاه ابن جرير عن أبي العالية وطاوس وغيرهما . وقال عُمَر وعبيدة : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ } ما عدا الأربع حرام عليكم إلا ما ملكت أيمانكم .

وقوله : { كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ } أي : هذا التحريم كتاب كتبه الله عليكم ، فالزموا كتابه ، ولا تخرجوا عن حدوده ، والزموا شرعه وما فرضه .

وقد قال عبيدة وعطاء والسّدّي في قوله : { كِتَابَ الله عَلَيْكُم } يعني الأربع . وقال إبراهيم : { كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ } يعني : ما حرم عليكم .

وقوله : { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } أي : ما عدا من ذكرن من المحارم هن لكم حلال ، قاله عطاء وغيره . وقال عبيدة والسدي : { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } ما دون الأربع ، وهذا بعيد ، والصحيح قول عطاء كما تقدم . وقال قتادة { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } يعني : ما ملكت أيمانكم .

وهذه الآية هي{[7025]} التي احتج بها من احتج على تحليل الجمع بين الأختين ، وقول من قال : أحلتهما آية وحرمتهما آية{[7026]} .

وقوله : { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } أي : تحصلوا بأموالكم من الزوجات إلى أربع أو السراري ما شئتم بالطريق الشرعي ؛ ولهذا قال : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ }

وقوله : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } أي : كما تستمتعون بهن فآتوهن مهورهن في مقابلة ذلك ، كقوله : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ{[7027]} إِلَى بَعْضٍ } [ النساء : 21 ] وكقوله { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } وكقوله [ النساء : 4 ] { وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا } [ البقرة : 229 ]

وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة ، ولا شك أنه كان مشروعًا في ابتداء الإسلام ، ثم نسخ بعد ذلك . وقد ذهب الشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه أبيح ثم نسخ ، ثم أبيح ثم نسخ ، مرتين . وقال آخرون أكثر من ذلك ، وقال آخرون : إنما أبيح مرة ، ثم نسخ ولم يبح بعد ذلك .

وقد رُويَ عن ابن عباس وطائفة من الصحابة القولُ بإباحتها للضرورة ، وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل ، رحمهم الله تعالى . وكان ابن عباس ، وأبيّ بن كعب ، وسعيد بن جُبَيْر ، والسُّدِّي يقرءون : " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة " . وقال مجاهد : نزلت في نكاح المتعة ، ولكن الجمهور على خلاف ذلك ، والعمدة ما ثبت في الصحيحين ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ]{[7028]} قال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر{[7029]} ولهذا الحديث ألفاظ مقررة هي في كتاب " الأحكام " .

وفي صحيح مسلم عن الربيع بن سَبْرَة بن معبد الجهني ، عن أبيه : أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة ، فقال : " يأيها الناس ، إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء ، وإن الله قد حَرم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن{[7030]} شيء فليخل سبيله ، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا " وفي رواية لمسلم في حجة الوداع{[7031]} وله ألفاظ موضعها كتاب " الأحكام " .

وقوله : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } من حمل هذه الآية على نكاح المتعة إلى أجل مسمى قال : فلا{[7032]} جناح عليكم إذا انقضى الأجل أن تراضوا{[7033]} على زيادة به وزيادة للجعل{[7034]} .

قال السدي : إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى - يعني الأجر الذي أعطاها على تمتعه بها - قبل انقضاء الأجل بينهما فقال : أتمتع منك أيضا بكذا وكذا ، فازداد{[7035]} قبل أن يستبرئ رحمها يوم تنقضي المدة ، وهو قوله : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } .

قال السدي : إذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل ، وهي منه بريئة ، وعليها أن تستبرئ ما في رحمها ، وليس بينهما ميراث ، فلا{[7036]} يرث واحد منهما صاحبه .

ومن قال بالقول الأول جعل معناه كقوله : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ]{[7037]} } [ النساء : 4 ] أي : إذا فرضت{[7038]} لها صداقًا فأبرأتك منه ، أو عن شيء منه فلا جناح عليك ولا عليها في ذلك .

وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه قال : زعم الحضرمي أن رجالا كانوا يفرضون{[7039]} المهر ، ثم عسى أن يدرك أحدهم العسرة ، فقال : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أيها الناس { فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرَيضَةِ } يعني : إن وضعت لك منه شيئا فهو لك سائغ ، واختار هذا القول ابن جرير ، وقال [ علي ]{[7040]} بن أبي طلحة عن ابن عباس : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } والتراضي أن يُوَفيها صداقها ثم يخيرها ، ويعني{[7041]} في المقام أو الفراق .

وقوله : { إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } مناسب ذكر هذين الوصفين بعد شرع هذه المحرمات [ العظيمة ]{[7042]} .


[7007]:زيادة من أ.
[7008]:في أ: "يعنى الإماء".
[7009]:في أ: "سبيًا".
[7010]:زيادة من جـ، أ.
[7011]:تفسير عبد الرزاق (1/153) وسنن الترمذي برقم (3017) وسنن النسائي الكبرى برقم (11097) وصحيح مسلم برقم (1456) وتفسير الطبري (8/153).
[7012]:في أ: "وكان ناس".
[7013]:في جـ، ر: "أو تأثموا".
[7014]:المسند (3/84) وصحيح مسلم برقم (1456) وسنن أبي داود برقم (2155) وسنن النسائي (6/110) وسنن الترمذي برقم (3016).
[7015]:في أ: "الآيات".
[7016]:في أ: "شقيق".
[7017]:زيادة من جـ، ر، أ.
[7018]:المذكور في رواية كل النسخ خمس لا ست.
[7019]:في جـ، ر، أ: "هذه".
[7020]:في ر: "يمينك فيها".
[7021]:زيادة من جـ، أ.
[7022]:في ر، أ: "طلاقا لهما".
[7023]:في جـ، ر، أ: "قاله".
[7024]:في أ: "واحد أو اثنين".
[7025]:في جـ، ر، أ: "هي الآية".
[7026]:في أ: "أحلتها آية وحرمتها آية".
[7027]:في أ: "بعضهم".
[7028]:زيادة من جـ.
[7029]:صحيح البخاري رقم (4216) وصحيح مسلم برقم (1407).
[7030]:في أ: "منه".
[7031]:صحيح مسلم برقم (1406).
[7032]:في جـ: "لا جناح".
[7033]:في جـ: "تتراضوا"
[7034]:في جـ: "الجعل".
[7035]:في جـ، ر: "فإن زاد".
[7036]:في جـ، أ: "ليس".
[7037]:زيادة من جـ، ر، أ، وفي هـ: "الآية".
[7038]:في ر: "فرضتم".
[7039]:في أ: "يقرضون".
[7040]:زيادة من ر، أ.
[7041]:في أ: "بعد".
[7042]:زيادة من جـ، أ.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۖ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَٰلِكُمۡ أَن تَبۡتَغُواْ بِأَمۡوَٰلِكُم مُّحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَۚ فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا تَرَٰضَيۡتُم بِهِۦ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡفَرِيضَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (24)

{ والمحصنات من النساء } ذوات الأزواج ، أحصنهن التزويج أو الأزواج . وقرأ الكسائي بكسر الصاد في جميع القرآن لأنهن أحصن فروجهن . { إلا ما ملكت أيمانكم } يريد ما ملكت أيمانكم من اللاتي سبين ولهن أزواج كفار فهن حلال للسابين ، والنكاح مرتفع بالسبي لقول أبي سعيد رضي الله تعالى عنه : أصبنا سبايا يوم أوطاس ولهن أزواج كفار ، فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت الآية فاستحللناهن . وإياه عنى الفرزدق بقوله :

وذات حليل أنكحتها رماحنا *** حلال لمن يبني بها لم تطلق

وقال أبو حنيفة لو سبي الزوجان لم يرتفع النكاح ولم تحل للسابي . وإطلاق الآية والحديث حجة عليه . { كتاب الله عليكم } مصدر مؤكد ، أي كتب الله عليكم تحريم هؤلاء كتابا وقرئ كتب الله بالجمع والرفع أي هذه فرائض الله عليكم " وكتب الله " بلفظ الفعل . { وأحل لكم } عطف على الفعل المضمر الذي نصب كتاب الله وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم على البناء للمفعول عطفا على { حرمت } . { ما وراء ذلكم } ما سوى المحرمات الثمان المذكورة . وخص عنه بالسنة ما في معنى المذكورات كسائر محرمات الرضاع ، والجمع بين المرأة وعمتها وخالتها . { أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين } مفعول له والمعنى أحل لكم ما وراء ذلكم إرادة أن تبتغوا النساء بأموالكم بالصرف في مهورهن ، أو أثمانهن في حال كونكم محصنين غير مسافحين ، ويجوز أن لا يقدر مفعول تبتغوا وكأنه قيل إرادة أن تصرفوا أموالكم محصنين غير مسافحين أو بدل مما وراء ذلكم بدل الاشتمال . واحتج به الحنفية على أن المهر لا بد وأن يكون مالا . ولا حجة فيه . والإحصان العفة فإنها تحصين للنفس عن اللوم والعقاب ، والسفاح الزنا من السفح وهو صب المني فإنه الغرض منه . { فما استمتعتم به منهن } فمن تمتعتم به من المنكوحات ، أو فما استمتعتم به منهن من جماع أو عقد عليهن . { فآتوهن أجورهن } مهورهن فإن المهر في مقابلة الاستمتاع . { فريضة } حال من الأجور بمعنى مفروضة ، أو صفة مصدر محذوف أي إيتاء مفروضا أو مصدر مؤكد . { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } فيما يزاد على المسمى أو يحط عنه بالتراضي ، أو فيما تراضيا به من نفقة أو مقام أو فراق . وقيل : نزلت الآية في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتحت مكة ثم نسخت ، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام أباحها ثم أصبح يقول : " يا أيها الناس إني كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء ألا أن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة " . وهي النكاح المؤقت بوقت معلوم سمي بها إذ الغرض منه مجرد الاستمتاع بالمرأة ، أو تمتيعها بما تعطي . وجوزها ابن عباس رضي الله عنهما ثم رجع عنه . { إن الله كان عليما } بالمصالح . { حكيما } فيما شرع من الأحكام .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۖ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَٰلِكُمۡ أَن تَبۡتَغُواْ بِأَمۡوَٰلِكُم مُّحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَۚ فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا تَرَٰضَيۡتُم بِهِۦ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡفَرِيضَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (24)

{ والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم كتاب الله عَلَيْكُمْ } .

عطف على { وأن تجمعوا } [ النساء : 23 ] والتقدير : وحُرّمت عليكم المحصنات من النساء إلخ . . . فهذا الصنف من المحرّمات لعارض نظيرَ الجمع بين الأختين .

والمحصنات بفتح الصاد من أحصنها الرجل إذا حفظها واستقّل بها عن غيره ، ويقال : امرأة محصنة بكسر الصاد أحصنت نفسها عن غير زوجها ، ولم يقرأ قوله : { والمحصنات } في هذه الآية إلاَّ بالفتح .

ويقال أحصَنَ الرجُلُ فهو محصِن بكسر الصاد لا غير ، ولا يقال محصَن : ولذلك لم يقرأ أحد : محصَنين غير مسافحين بفتح الصاد ، وقريء قوله : { ومحصنات } بالفتح والكسر وقوله : { فإذا أحصن } [ النساء : 25 ] بضم الهمزة وكسر الصاد ، وبفتح الهمزة وفتح الصاد . والمراد هنا المعنى الأول ، أي وحرّمت عليكم ذوات الأزواج ما دُمن في عصمة أزواجهنّ ، فالمقصود تحريم اشتراك رجلين فأكثر في عصمة امرأة ، وذلك إبطال لنوع من النكاح كان في الجاهلية يسمّى الضِّمَاد ، ولنوع آخر ورد ذكره في حديث عائشة : أن يشترك الرجال في المرأة وهم دون العشرة ، فإذا حملت ووضعت حملها أرسلت إليهم فلا يستطيع أحد منهم أن يمتنع ، فتقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان ، تسمّي من أحبّت باسمه فيلحق به . ونوع آخر يسمّى نكاح الاستبضاع ؛ وهو أن يقول الزوج لامرأته إذا طَهرت من حيضها : أرسلي إلى فلان ، فاستبضعي منه ، ويعتزلها زوجها ولا يمسّها حتّى يتبيّن حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه ، فإذا تبيّن حملها أصابها زوجها . قالت عائشة : وإنما يفعل هذا رغبة في نجابة الولد ، وأحسب أنّ هذا كان يقع بتراض بين الرجلين ، والمقصد لا ينحصر في نجابة الولد ، فقد يكون لبذل مال أو صحبة . فدَلّت الآية على تحريم كلّ عقد على نكاح ذات الزوج ، أي تحريم أن يكون للمرأة أكثر من زوج واحد . وأفادت الآية تعميم حرمتهنّ ولو كان أزواجهنّ مشركين ، ولذلك لزم الاستثناء بقوله : { إلا ما ملكت أيمانكم } أي إلاّ اللائي سبَيتُموهنّ في الحرب ، لأنّ اليمين في كلام العرب كناية عن اليد حين تمسك السيف .

وقد جعل الله السبي هادما للنكاح تقريراً لمعتاد الأمم في الحروب ، وتخويفاً أن لا يناصبوا الإسلام لأنّهم لو رفع عنهم السبي لتكالبوا على قتال المسلمين ، إذ لا شيء يحذره العربي من الحرب أشدّ من سبي نسوته ، ثم من أسره ، كما قال النابغة :

حِذاراً على أن لا تُنال مقادتي *** ولاَ نسوتي حتّى يمُتْن حَرائراً

واتّفق المسلمون على أنّ سبي المرأة دون زوجها يهدم النكاح ، ويُحلّها لمن وقعت في قسمته عند قسمة المغانم . واختلفوا في التي تسبَى مع زوجها : فالجمهور على أنّ سبيها يهدم نكاحها ، وهذا إغضاء من الحكمة التي شرع لأجلها إبقاء حكم الاسترقاق بالأسر .

وأومأت إليها الصلة بقوله : { ملكت أيمانكم } وإلاّ لقال : إلاّ ما تركت أزواجهنّ .

ومن العلماء من قال : إنّ دخول الأمة ذاتِ الزوج في ملك جديد غير ملك الذي زوَّجها من ذلك الزوج يسوّغ لمالكها الجديد إبطال عقد الزوجية بينها وبين زوجها ، كالتي تباع أو توهب أو تورث ، فانتقال الملك عندهم طلاق . وهذا قول ابن مسعود ، وأبَي بن كعب ، وجابر بن عبد الله ، وابن عباس ، وسعيد ، والحسن البصري ، وهو شذوذ ؛ فإنّ مالكها الثاني إنّما اشتراها عالماً بأنّها ذات زوج ، وكأنَّ الحامل لهم على ذلك تصحيح معنى الاستثناء ، وإبقاء صيغة المضيّ على ظاهرها في قوله : { ملكت } أي ما كن مملوكات لهم من قبل . والجواب عن ذلك أن المراد بقوله : { ملكت } ما تجدّد ملكها بعد أن كانت حرّة ذات زوج . فالفعل مستعمل في معنى التجدّد .

وقد نقل عن ابن عباس أنّه تحيّر في تفسير هذه الآية ، وقال : « لو أعلم أحداً يعلم تفسيرها لضربت إليه أكباد الإبل » . ولعلّه يعني من يعلم تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان بعض المسلمين في الزمن الأول يتوهّم أنّ أمة الرجل إذا زوَّجها من زوج لا يحرم على السيّد قِربانها ، مع كونها ذات زوج . وقد رأيت منقولاً عن مالك : أنّ رجلا من ثقيف كان فعل ذلك في زمان عُمر ، وأنّ عمر سأله عن أمته التي زوجّها وهل يطَؤها ، فأنكر ، فقال له : لو اعترفتَ لجعلتُكَ نَكَالاً .

وقوله : { كتاب الله عليكم } تذييل ، وهو تحريض على وجوب الوقوف عند كتاب الله ، ف { عليكم } نائب مناب ( الزَمُوا ) ، وهو مُصيَّر بمعنى اسم الفعل ، وذلك كثير في الظروف والمجرورات المنزَّلة منزلة أسماء الأفعال بالقرينة ، كقولهم : إليك ، ودُونك ، وعَليك . و { كتاب الله } مفعوله مُقدّم عليه عند الكوفيين ، أو يجعل منصوباً ب ( عليكم ) محذوفاً دلّ عليه المذكور بعده ، على أنّه تأكيد له ، تخريجاً على تأويل سيبويه في قول الراجز :

يأيُّها المائِحُ دلوي دُونك *** إنّي رأيت الناس يحمدونك

ويجوز أن يكون { كتاب } مصدراً نائباً مناب فعلِه ، أي كَتَب الله ذلك كتاباً ، و { عليكم } متعلّقاً به .

{ وأحل لكم ما وراء ذالكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين }

عطف على قوله : { حرمت عليكم أمهاتكم } [ النساء : 23 ] وما بعدَه ، وبذلك تلتئم الجمل الثلاث في الخبرية المراد بها الإنشاء ، وفي الفعلية والماضوية .

وقرأ الجمهور : { وأحل لكم } بالبناء للفاعل ، والضمير المستتر عائد إلى اسم الجلالة من قوله : { كتاب الله عليكم } .

وأسند التحليل إلى الله تعالى إظهاراً للمنّة ، ولِذلك خالف طريقة إسناد التحريم إلى المجهول في قوله : { حرمت عليكم أمهاتكم } لأنّ التحريم مشقّة فليس المقام فيه مقام منّة .

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر : { وأحل } بضم الهمزة وكسر الحاء على البناء للنائب على طريقة { حرمت عليكم أمهاتكم } .

والوراء هنا بمعنى غير ودُون ، كقول النابغة :

وليسَ وراءَ اللَّه للمرءِ مذهب

وهو مجاز ؛ لأنّ الوراء هو الجهة التي هي جهة ظهر ما يضاف إليه . والكلام تمثيل لحال المخاطبين بحال السائر يَترك ما وراءه ويتجاوزه .

والمعنى : أحلّ لكم ما عَدا أولئكم المحرّمات ، وهذا أنزِل قبل تحريم ما حرّمته السُّنة نحو ( لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ) ، ونحو ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) .

وقوله : { أن تبتغوا بأموالكم } يجوز أن يكون بدل اشتمال من ( ما ) باعتبار كون الموصول مفعولا ل ( أحَلَّ ) ، والتقدير : أن تبتغوهنّ بأموالكم فإنّ النساء المبَاحات لا تحلّ إلاّ بعد العقد وإعطاء المهور ، فالعقد هو مدلول ( تبتغوا ) ، وبذل المهر هو مدلول ( بأموالكم ) ، ورابط الجملة محذوف : تقديره أن تبتغوه ، والاشتمال هنا كالاشتمال في قول النابغة :

مخافة عمرو أن تكون جياده *** يقدن إلينا بين حاف وناعل

ويجوز أن يجعل { أن تبتغوا } معمولا للام التعليل محذوفةٍ ، أي أحَلَّهُن لتبتغوهنّ بأموالكم ، والمقصود هو عين ما قرّر في الوجه الأول .

و { محصنِين } حال من فاعل ( تبتغوا ) أي محصنين أنفسكم من الزنى ، والمراد متزوّجين على الوجه المعروف . { غير مسافحين } حال ثانية ، والمسافح الزاني ، لأنّ الزنى يسمّى السفاح ، مشتقّا من السفح ، وهو أن يهراق الماء دون حَبْس ، يقال : سَفَح الماءُ . وذلك أنّ الرجل والمرأة يبذل كلّ منهما للآخر ما رامه منه دون قيد ولا رضَى وليّ ، فكأنّهم اشتقّوه من معنى البذل بلا تقيّد بأمرٍ معروف ؛ لأنّ المِعطاء يطلق عليه السَّفَّاح . وكان الرجل إذا أراد من المرأة الفاحشة يقول لها : سافحيني ، فرجع معنى السفاح إلى التباذل وإطلاق العنان ، وقيل : لأنّه بلا عقد ، فكأنّه سَفَح سفحاً ، أي صبّا لا يحجبه شيء ، وغير هذا في اشتقاقه لا يَصحّ ، لأنّه لا يختصّ بالزنى .

{ فما استمتعتم به منهن فئاتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما } .

تفريع على { أن تبتغوا بأموالكم } وهو تفريع لفظي لبيان حقّ المرأة في المهر وأنّه في مقابلة الاستمتاع تأكيداً لما سبقه من قوله تعالى : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } [ النساء : 4 ] سواء عند الجمهور الذين يجعلون الصداق ركنا للنكاح ، أو عند أبي حنيفة الذي يجعله مجرّد حقّ للزوجة أن تطالب به ؛ ولذلك فالظاهر أن تجعل ( ما ) اسم شرط صادقاً على الاستمتاع ، لبيان أنّه لا يجوز إخلاء النكاح عن المهر ، لأنّه الفارق بينه وبين السفاح ، ولذلك قرن الخبر بالفاء في قوله : { فأتوهن أجزرهن فريضة } لأنّه اعتبر جواباً للشرط .

والاستمتاع : الانتفاع ، والسين والتاء فيه للمبالغة ، وسمَّى الله النكاح استمتاعاً لأنّه منفعة دنيوية ، وجميع منافع الدنيا متاع ، قال تعالى : { وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع } [ الرعد : 26 ] .

والضمير المجرور بالباء عائد على ( مَا ) . و ( مِنْ ) تبعيضية ، أي : فإن استمتعتم بشيء منهن فآتوهنّ ؛ فلا يجوز استمتاع بهنّ دون مهر .

أو يكون ( مَا ) صادقة على النساء ، والمجرور بالباء عائداً إلى الاستمتاع المأخوذ من استمتعتم و ( من ) بيانية ، أي فأي امرأة استمتعتم بها فآتوها .

ويجوز أن تجعل ( مَا ) موصولة ، ويكون دخول الفاء في خبرها لمعاملتها معاملة الشرط ، وجيء حينئذ ب ( ما ) ولم يعبر ب ( مَن ) لأنّ المراد جنس النساء لا القصد إلى امرأة واحدة ، على أنّ ( ما ) تجيء للعاقل كثيراً ولا عكس : و { فريضةً } حال من { أجورهن } أي مفروضة ، أي مقدرة بينكم .

والمقصد من ذلك قطع الخصومات في أعظم معاملة يقصد منها الوثاق وحسن السمعة .

وأمّا نكاح التفويض : وهو أن ينعقد النكاح مع السكوت عن المهر ، وهو جائز عند جميع الفقهاء ؛ فجوازه مبني على أنّهم لا يفوّضون إلاّ وهم يعلمون معتاد أمثالهم ، ويكون ( فريضة ) بمعنى تقديراً ، ولذلك قال : { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } ، أي فيما زدتم لهنّ أو أسقطن لكم عن طيب نفس . فهذا معنى الآية بيّنا لا غبار عليه .

وذهب جمع : منهم ابن عباس ، وأُبيّ بن كعب ، وابن جبير : أنّها نزلت في نكاح المتعة لما وقع فيها من قوله : { فما استمتعتم به منهن } . ونكاح المتعة : هو الذي تعاقد الزوجان على أن تكون العصمة بينهما مؤجّلة بزمان أو بحالة ، فإذا انقضى ذلك الأجل ارتفعت العصمة ، وهو نكاح قد أبيح في الإسلام لا محالة ، ووقع النهي عنه يوم خيبر ، أو يوم حنين على الأصحّ . والذين قالوا : حُرّم يوم خيبر قالوا : ثم أبيح في غزوة الفتح ، ثم نهي عنه في اليوم الثالث من يوم الفتح . وقيل : نهي عنه في حجّة الوداع ، قال أبو داود : وهو أصحّ . والذي استخلصناه أنّ الروايات فيها مضطربة اضطراباً كبيراً .

وقد اختلف العلماء في الأخير من شأنه : فذهب الجمهور إلى أنّ الأمر استقرّ على تحريمه ، فمنهم من قال : نسخته آية المواريث لأنّ فيها { ولكم نصف ما ترك أزواجكم ولهن الربع مما تركتم } [ النساء : 12 ] فجعل للأزواج حَظّا من الميراث ، وقد كانت المتعة لا ميراث فيها . وقيل : نسخها ما رواه مسلم عن سَبْرة الجهني ، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسنداً ظهره إلى الكعبة ثالث يوم من الفتح يقول : " أيها الناس إن كنت أذنت لكم في الاستمتاع من هذه النساء إلا أن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة " . وانفراد سبرة به في مِثل ذلك اليوم مغمز في روايته ، على أنّه ثبت أنّ الناس استمتعوا . وعن علي بن أبي طالب ، وعمران بن حصين ، وابن عباس ، وجماعة من التابعين والصحابة أنّهم قالوا بجوازه . قيل : مطْلقاً ، وهو قول الإمَامية ، وقيل : في حال الضرورة عند أصحاب ابن عباس من أهل مكة واليمن .

وروي عن ابن عباس أنّه قال : لولا أنّ عُمر نهى عن المتعة ما زنى إلاَّ شَفى . وعن عمران بن حصين في « الصحيح » أنه قال : « نزلت آية المتعة في كتاب الله ولم ينزل بعدَها آية تنسخها ، وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال رجلٌ برأيه ما شَاء » يعني عُمر بن الخطاب حين نهى عنها في زمن من خلافته بعد أن عملوا بها في معظم خلافته ، وكان ابن عباس يفتي بها ، فلمّا قال له سعيد بن جبير : أتدري ما صنعتَ بفتواك فقد سارت بها الركبان حتّى قال القائل :

قد قلتُ للركب إذْ طال الثَّواءُ بنـا *** يا صاح هل لك في فتوى ابن عبّاس

في بَضَّةِ رخصةِ الأطراف ناعمةٍ *** تَكُونُ مثواكَ حتّى مَرْجعِ النـــاس

أمسك عن الفتوى وقال : إنّما أحللت مثل ما أحلّ الله الميتة والدم ، يريد عند الضرورة . واختلف العلماء في ثبات علي على إباحتها ، وفي رجوعه . والذي عليه علماؤنا أنّه رجع عن إباحتها . أمّا عمران بن حصين فثبت على الإباحة . وكذلك ابن عباس على « الصحيح » . وقال مالك : يُفسخ نكاح المتعة قبل البناء وبعد البناء ، وفسخه بغير طلاق ، وقيل : بطلاق ، ولا حدَّ فيه على الصحيح من المذهب ، وأرجح الأقوال أنّها رخصة للمسافر ونحوه من أحوال الضرورات ، ووجه مخالفتها للمقصد من النكاح ما فيها من التأجيل . وللنظر في ذلك مجال .

والذي يُستخلص من مختلف الأخبار أنّ المتعة أذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين ، ونهى عنها مرتين ، والذي يفهم من ذلك أن ليس ذلك بنسخ مكرّر ولكنّه إناطة إباحتها بحال الاضطرار ، فاشتبه على الرواة تحقيق عذر الرخصة بأنّه نسخ . وقد ثبت أنّ الناس استمتعوا في زمن أبي بكر ، وعمر ، ثم نهى عنها عمر في آخر خلافته . والذي استخلصناه في حكم نكاح المتعة أنّه جائز عند الضرورة الداعية إلى تأجيل مدّة العصمة ، مثل الغربة في سفر أو غزو إذا لم تكن مع الرجل زوجهُ . ويشترط فيه ما يشترط في النكاح من صداق وإشهاد ووليّ حيث يُشترط ، وأنّها تبين منه عند انتهاء الأجل ، وأنّها لا ميراث فيها بين الرجل والمرأة ، إذا مات أحدهما في مدة الاستمتاع ، وأنّ عدّتها حيضة واحدة ، وأنّ الأولاد لاَحقون بأبيهم المستمتِع . وشذّ النحّاس فزعم أنّه لا يلحق الولد بأبيه في نكاح المتعة . ونحن نرى أنّ هذه الآية بمعزل عن أن تكون نازلة في نكاح المتعة ، وليس سياقها سامحا بذلك ، ولكنّها صالحة لاندراج المتعة في عموم { ما استمتعتم } فيُرجع في مشروعية نكاح المتعة إلى ما سمعتَ آنفاً .