{ 121 } { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }
ويدخل تحت هذا المنهي عنه ، ما ذكر عليه اسم غير الله كالذي يذبح للأصنام ، وآلهتهم ، فإن هذا مما أهل لغير الله به ، المحرم بالنص عليه خصوصا .
ويدخل في ذلك ، متروك التسمية ، مما ذبح لله ، كالضحايا ، والهدايا ، أو للحم والأكل ، إذا كان الذابح متعمدا ترك التسمية ، عند كثير من العلماء .
ويخرج من هذا العموم ، الناسي بالنصوص الأخر ، الدالة على رفع الحرج عنه ، ويدخل في هذه الآية ، ما مات بغير ذكاة من الميتات ، فإنها مما لم يذكر اسم الله عليه .
ونص الله عليها بخصوصها ، في قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } ولعلها سبب نزول الآية ، لقوله { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } بغير علم .
فإن المشركين -حين سمعوا تحريم الله ورسوله الميتةَ ، وتحليله للمذكاة ، وكانوا يستحلون أكل الميتة- قالوا -معاندة لله ورسوله ، ومجادلة بغير حجة ولا برهان- أتأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون ما قتل الله ؟ يعنون بذلك : الميتة .
وهذا رأي فاسد ، لا يستند على حجة ولا دليل بل يستند إلى آرائهم الفاسدة التي لو كان الحق تبعا لها لفسدت السماوات والأرض ، ومن فيهن .
فتبا لمن قدم هذه العقول على شرع الله وأحكامه ، الموافقة للمصالح العامة والمنافع الخاصة . ولا يستغرب هذا منهم ، فإن هذه الآراء وأشباهها ، صادرة عن وحي أوليائهم من الشياطين ، الذين يريدون أن يضلوا الخلق عن دينهم ، ويدعوهم ليكونوا من أصحاب السعير .
{ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } في شركهم وتحليلهم الحرام ، وتحريمهم الحلال { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } لأنكم اتخذتموهم أولياء من دون الله ، ووافقتموهم على ما به فارقوا المسلمين ، فلذلك كان طريقكم ، طريقهم .
ودلت هذه الآية الكريمة على أن ما يقع في القلوب من الإلهامات والكشوف ، التي يكثر وقوعها عند الصوفية ونحوهم ، لا تدل –بمجردها على أنها حق ، ولا تصدق حتى تعرض على كتاب الله وسنة رسوله .
فإن شهدا لها بالقبول قبلت ، وإن ناقضتهما ردت ، وإن لم يعلم شيء من ذلك ، توقف فيها ولم تصدق ولم تكذب ، لأن الوحي والإلهام ، يكون الرحمن ويكون من الشيطان ، فلا بد من التمييز بينهما والفرقان ، وبعدم التفريق بين الأمرين ، حصل من الغلط والضلال ، ما لا يحصيه إلا الله .
ثم ينهى عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح التي كانوا يذكرون عليها أسماء آلهتهم ؛ أو ينحرونها للميسر ويستقسمونها بالأزلام ؛ أو من الميتة التي كانوا يجادلون المسلمين في تحريمها ، يزعمون أن الله ذبحها ! فكيف يأكل المسلمون مما ذبحوا بأيديهم ، ولا يأكلون مما ذبح الله ؟ ! وهو تصور من تصورات الجاهلية التي لا حد لسخفها وتهافتها في جميع الجاهليات ! وهذا ما كانت الشياطين - من الإنس والجن - توسوس به لأوليائها ليجادلوا المسلمين فيه من أمر هذه الذبائح مما تشير إليه الآيات :
( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه - وإنه لفسق - وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم . . وإن أطعتموهم إنكم لمشركون . . ) . .
وأمام هذا التقرير الأخير نقف ، لنتدبر هذا الحسم وهذه الصراحة في شأن الحاكمية والطاعة والاتباع في هذا الدين . .
إن النص القرآني لقاطع في أن طاعة المسلم لأحد من البشر في جزئية من جزئيات التشريع التي لا تستمد من شريعة الله ، ولا تعتمد على الاعتراف له وحده بالحاكمية . . أن طاعة المسلم في هذه الجزئية تخرجه من الإسلام لله ، إلى الشرك بالله .
" وقوله تعالى : ( وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) . . أي حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه ، إلى قول غيره ، فقدمتم عليه غيره . . فهذا هو الشرك . . كقوله تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) . . الآية . وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عدي بن حاتم أنه قال : يا رسول الله ما عبدوهم . فقال : " بلى ! إنهم أحلوا لهم الحرام ، وحرموا عليهم الحلال . فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم " .
كذلك روى ابن كثير عن السدي في قوله تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله )
الآية قوله : [ استنصحوا الرجال ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم . ولهذا قال تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً ) أي الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام ، وما حلله فهو الحلال ، وما شرعه اتبع ، وما حكم به نفذ ] . .
فهذا قول السدي وذاك قول ابن كثير . . وكلاهما يقرر في حسم وصرامة ووضوح - مستمدة من حسم النص القرآني وصرامته ووضوحه ، ومن حسم التفسير النبوي للقرآن وصرامته ووضوحه كذلك - أن من اطاع بشراً في شريعة من عند نفسه ، ولو في جزئية صغيرة ، فإنما هو مشرك . وإن كان في الأصل مسلماً ثم فعلها فإنما خرج بها من الإسلام الى الشرك أيضاً . . مهما بقي بعد ذلك يقول : أشهد أن لا إله إلا الله بلسانه . بينما هو يتلقى من غير الله ، ويطيع غير الله .
وحين ننظر إلى وجه الأرض اليوم - في ضوء هذه التقريرات الحاسمة - فإننا نرى الجاهلية والشرك - ولا شيء غير الجاهلية والشرك - إلا من عصم الله ، فأنكر على الأرباب الأرضية ما تدعيه من خصائص الألوهية ؛ ولم يقبل منها شرعاً ولا حكماً . . . إلا في حدود الإكراه . .
فأما الحكم الفقهي المستفاد من قوله تعالى : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) فيما يتعلق بحل الذبائح وحرمتها عند التسمية وعدم التسمية فقد لخصها ابن كثير في التفسير في هذه الفقرات قال :
" استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها ، وإن كان الذابح مسلماً " . .
" وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه المسألة على ثلاثة اقوال :
" فمنهم من قال : لا تحل هذه الذبيحة بهذه الصفة . وسواء متروك التسمية عمداً أو سهواً . وهو مروي عن ابن عمر ، ونافع مولاه ، وعامر الشعبي ، ومحمد بن سيرين . وهو رواية عن الإمام مالك ، ورواية عن أحمد بن حنبل ، نصرها طائفة من أصحابه المتقدمين والمتأخرين . وهو اختيار أبي ثور ، وداود الظاهري . واختار ذلك ابو الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي من متأخري الشافعية في كتابه الأربعين ، واحتجوا لمذهبهم بهذه الآية ، وبقوله في آية الصيد : ( فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه ) . . ثم قد أكد ذلك بقوله : ( وإنه لفسق ) والضمير قيل : عائد على الأكل ، وقيل : عائد على الذبح لغير الله . وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد ، كحديثي عدي بن حاتم وأبي ثعلبة : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك . وهما في الصحيحين . وحديث رافع بن خديج : ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه . وهو في الصحيحين أيضاً . . .
" والمذهب الثاني في المسألة : أنه لا يشترط التسمية ، بل هي مستحبة ، فإن تركها عمداً أو نسياناً لا يضر . وهذا مذهب الإمام الشافعي ، رحمه الله ، وجميع أصحابه . ورواية عن الإمام أحمد نقلها عنه حنبل . وهو رواية عن الإمام مالك ، ونص على ذلك أشهب بن عبد العزيز من أصحابه . وحكي عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وعطاء بن أبي رباح . والله أعلم . وحمل الشافعي الآية الكريمة : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق على ما ذبح لغير الله كقوله تعالى : ( أو فسقا أهل لغير الله به ) . وقال ابن جريج عن عطاء : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) . . قال : ينهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش للأوثان ، وينهى عن ذبائح المجوس . . وهذا المسلك الذي طرقه الإمام الشافعي قوي . . .
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، أنبأنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الآية : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) قال : هي الميتة . وقد استدل لهذا المذهب بما رواهأبو داود في المراسيل من حديث ثور بن يزيد عن الصلت السدوسي مولى سويد بن ميمون أحد التابعين الذين ذكرهم أبو حاتم بن حبان في كتاب الثقات . قال : قال رسول الله [ ص ] : " ذبيحة المسلم حلال ، ذكر اسم الله أو لم يذكر . إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله " . . وهذا مرسل يعضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال : " إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل . فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله " .
" المذهب الثالث : إن ترك البسملة على الذبيحة نسياناً لم يضر ، وإن تركها عمدا لم تحل . . هذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل ، وبه يقول أبو حنيفة وأصحابه . وإسحاق بن راهويه . وهو محكي عن علي ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، وطاووس ، والحسن البصري ، وأبي مالك ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وجعفر بن محمد ، وربيعة بن ابي عبد الرحمن . . . "
" قال ابن جرير : وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية : هل نسخ من حكمها شيء أم لا ؟ فقال بعضهم : لم ينسخ منها شيء ، وهي محكمة فيما عينت به . وعلى هذا قول مجاهد وعامة أهل العلم . وروي عن الحسن البصري وعكرمة ما حدثنا به ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين بن واقد ، عن عكرمة والحسن البصري ، قالا : قال الله : ( فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ) وقال : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) فنسخ ، واستثنى من ذلك فقال : ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ) وقال ابن أبي حاتم : قرأ علي العباس بن الوليد بن يزيد ، حدثنا محمد بن شعيب ، أخبرني النعمان - يعني ابن المنذر - عن مكحول قال : أنزل الله في القرآن : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) . ثم نسخها الرب ورحم المسلمين فقال : ( اليوم أحل لكم الطيبات ، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) فنسخها بذلك ، وأحل طعام أهل الكتاب . ثم قال ابن جرير : والصواب : أنه لا تعارض بين حل طعام أهل الكتاب وبين تحريم مالم يذكر اسم الله عليه . . وهذا الذي قاله صحيح . ومن أطلق من السلف النسخ هنا ، فإنما أراد التخصيص ، والله سبحانه وتعالى أعلم " . . . انتهى .
استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أنه لا تحل الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها ، ولو كان الذابح مسلما ، وقد اختلف الأئمة ، رحمهم الله ، في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :
فمنهم من قال : لا تحل هذه الذبيحة بهذه الصفة ، وسواء متروك التسمية عمدًا أو سهوًا . وهو مروي عن ابن عمر ، ونافع مولاه ، وعامر الشعبي ، ومحمد بن سيرين . وهو رواية عن الإمام مالك ، ورواية عن أحمد بن حنبل نصرها طائفة من أصحابه المتقدمين والمتأخرين ، وهو اختيار أبي ثور ، وداود الظاهري ، واختار ذلك أبو الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي{[11111]} من متأخري الشافعية في كتابه " الأربعين " ، واحتجوا لمذهبهم هذا بهذه الآية ، وبقوله في آية الصيد : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } [ المائدة : 4 ] . ثم قد أكد في هذه الآية بقوله : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } والضمير قيل : عائد على الأكل ، وقيل : عائد على الذبح لغير الله - وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد ، كحديثي عدي بن حاتم وأبي ثعلبة : " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك " . وهما في الصحيحين ، وحديث رافع بن خُدَيْج . " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه " . وهو في الصحيحين أيضًا ، وحديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجن : " لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه " {[11112]} رواه مسلم . وحديث جُنْدَب بن سفيان البَجَلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى ، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله " . أخرجاه{[11113]} وعن عائشة ، رضي الله عنها ، أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري : أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ قال : " سموا عليه أنتم وكلوا " . قالت : وكانوا حديثي عهد بالكفر . رواه البخاري . ووجه الدلالة أنهم فهموا أن التسمية لا بد منها ، [ وأنهم ]{[11114]} خشوا ألا تكون وجدت من أولئك ، لحداثة إسلامهم ، فأمرهم بالاحتياط بالتسمية عند الأكل ، لتكون كالعوض عن المتروكة عند الذبح إن لم تكن وجدت ، وأمرهم بإجراء أحكام المسلمين على السداد ، والله [ تعالى ]{[11115]} أعلم .
والمذهب الثاني في المسألة : أنه لا يشترط التسمية ، بل هي مستحبة ، فإن تركت عمدًا أو نسيانًا لم تضر{[11116]} وهذا مذهب الإمام الشافعي ، رحمه الله ، وجميع أصحابه ، ورواية عن الإمام أحمد . نقلها عنه حنبل . وهو رواية عن الإمام مالك ، ونص على ذلك أشهب بن عبد العزيز من أصحابه ، وحكي عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وعطاء بن أبي رباح ، والله أعلم .
وحمل الشافعي الآية الكريمة : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } على ما ذبح لغير الله ، كقوله تعالى { أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } [ الأنعام : 145 ] .
وقال ابن جُرَيْج ، عن عطاء : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } قال : ينهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش عن الأوثان ، وينهى عن ذبائح المجوس ، وهذا المسلك الذي طرقه الإمام الشافعي [ رحمه الله ]{[11117]} قوي ، وقد حاول بعض المتأخرين أن يقويه بأن جعل " الواو " في قوله : { وإِنَّهُ لَفِسْقٌ } حالية ، أي : لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه في حال كونه فسقًا ، ولا يكون فسقا حتى يكون قد أهل به لغير الله . ثم ادعى أن هذا متعين ، ولا يجوز أن تكون " الواو " عاطفة . لأنه يلزم منه عطف جملة اسمية خبرية على جمله فعلية طلبية . وهذا ينتقض عليه بقوله : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ } فإنها عاطفة لا محاولة ، فإن كانت " الواو " التي{[11118]} ادعى أنها حالية صحيحة على ما قال ؛ امتنع عطف هذه عليها ، فإن عطفت{[11119]} على الطلبية ورد عليه ما أورد على غيره ، وإن لم تكن " الواو " حالية ، بطل ما قال من أصله ، والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، أنبأنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قوله : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } قال : هي الميتة .
ثم رواه ، عن أبي زُرْعَة ، عن يحيى بن أبي كثير{[11120]} عن ابن لَهِيعَة ، عن عطاء - وهو ابن السائب - به .
وقد استدل لهذا المذهب بما رواه أبو داود في المراسيل ، من حديث ثور بن يزيد ، عن الصلت السدوسي - مولى سُوَيْد بن مَنْجوف{[11121]} أحد التابعين الذين ذكرهم أبو حاتم بن حبان في كتاب الثقات - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذَبِيحَة المسلم حلال ذُكِر اسمُ اللهِ أو لم يُذْكَرْ ، إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله " {[11122]}
وهذا مرسل يعضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال : إذا ذبح المسلم - ولم يذكر اسم الله فليأكل ، فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله " {[11123]}
واحتج البيهقي أيضًا بحديث عائشة ، رضي الله عنها ، المتقدم أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، إن قوما حديثي عهد بجاهلية يأتونا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ فقال : " سَمّوا أنتم وكُلُوا " . قال : فلو كان وجود التسمية شرطا لم يرخص لهم إلا مع تحققها ، والله أعلم .
المذهب الثالث في المسألة : [ أنه ]{[11124]} إن ترك البسملة على الذبيحة نسيانا لم يضر وإن تركها عمدًا لم تحل .
هذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك ، وأحمد بن حنبل ، وبه يقول أبو حنيفة وأصحابه ، وإسحاق بن راهويه : وهو محكي عن علي ، وابن عباس ، وسعيد بن المُسَيَّب ، وعَطَاء ، وطاوس ، والحسن البصري ، وأبي مالك ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وجعفر بن محمد ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن .
ونقل الإمام أبو الحسن المرغيناني في كتابه " الهداية " الإجماع - قبل الشافعي على تحريم متروك التسمية عمدا ، فلهذا قال أبو يوسف والمشايخ : لو حكم حاكم بجواز بيعه لم ينفذ لمخالفة الإجماع .
وهذا الذي قاله غريب جدًا ، وقد تقدم نقل الخلاف عمن قبل الشافعي ، والله أعلم .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : من حرم ذبيحة الناسي ، فقد خرج من قول جميع الحجة ، وخالف الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك{[11125]}
يعني ما رواه الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا أبو أمية الطرسوسي ، حدثنا محمد بن يزيد ، حدثنا معقل بن عبيد الله ، عن عمرو بن دينار ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المسلم يكفيه اسمه ، إن نسي أن يسمي حين يذبح ، فليذكر اسم الله وليأكله " {[11126]}
وهذا الحديث رفعه خطأ ، أخطأ فيه معقل بن عبيد الله الجزيري{[11127]} فإنه{[11128]} وإن كان من رجال مسلم إلا أن سعيد بن منصور ، وعبد الله بن الزبير الحميدي روياه عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن أبي الشعثاء ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس ، من قوله . فزادا في إسناده " أبا الشعثاء " ، ووقفا{[11129]} والله [ تعالى ]{[11130]} أعلم . وهذا أصح ، نص عليه البيهقي [ وغيره من الحفاظ ]{[11131]}
وقد نقل ابن جرير وغيره . عن الشعبي ، ومحمد بن سيرين ، أنهما كرها متروك التسمية نسيانا ، والسلف يطلقون الكراهية على التحريم كثيرا ، والله أعلم . إلا أن من قاعدة ابن جرير أنه لا يعتبر قول الواحد ولا الاثنين مخالفا لقول الجمهور ، فيعده إجماعا ، فليعلم هذا ، والله الموفق .
قال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبو أسامة ، عن جَهِير بن يزيد قال : سئل الحسن ، سأله رجل أتيت بطير كَرًى{[11132]} فمنه ما قد ذبح فذكر اسم الله عليه ، ومنه ما نسي أن يذكر اسم الله عليه ، واختلط الطير ، فقال الحسن : كله ، كله . قال : وسألت محمد بن سيرين فقال : قال الله [ تعالى ]{[11133]} { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ }
واحتج لهذا المذهب بالحديث المروي من طرق عند ابن ماجه ، عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وأبي ذر{[11134]} وعقبة بن عامر ، وعبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه " {[11135]} وفيه نظر ، والله أعلم .
وقد روى الحافظ أبو أحمد بن عدي ، من حديث مروان بن سالم القرقساني ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اسم الله على كل مسلم " {[11136]}
ولكن هذا إسناده{[11137]} ضعيف ، فإن مروان بن سالم القرقساني أبا عبد الله الشامي ، ضعيف ، تكلم فيه غير واحد من الأئمة ، والله أعلم .
وقد أفردت هذه المسألة على حدة ، وذكرت مذاهب{[11138]} الأئمة ومآخذهم وأدلتهم ، ووجه الدلالات والمناقضات والمعارضات{[11139]} ، والله أعلم .
قال ابن جرير : وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية : هل نسخ من حكمها شيء أم لا ؟ فقال بعضهم : لم ينسخ منها شيء وهي محكمة فيما عُنيت به . وعلى هذا قول عامة أهل العلم .
وروي عن الحسن البصري وعكرمة . ما حدثنا به ابن حُميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين بن واقد ، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال الله : { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ } وقال { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } فنسخ واستثنى من ذلك فقال : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } [ المائدة : 5 ] .
وقال ابن أبي حاتم : قرئ علي العباس بن الوليد بن مزيد{[11140]} ، حدثنا محمد بن شعيب ، أخبرني النعمان - يعني ابن المنذر - عن مكحول قال : أنزل الله في القرآن : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } ثم نسخها الرب ورحم المسلمين فقال : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } فنسخها بذلك وأحل طعام أهل الكتاب .
ثم قال ابن جرير : والصواب أنه لا تعارض بين حل طعام أهل الكتاب ، وبين تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه .
وهذا الذي قاله صحيح ، ومن أطلق من السلف النسخ هاهنا فإنما أراد التخصيص ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وقوله تعالى : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق قال : قال رجل لابن عمر : إن المختار يزعم أنه يوحى إليه ؟ قال : صدق ، وتلا هذه الآية : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ }
وحدثنا أبي ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا عكرمة بن عمار ، عن أبي زُمَيْل قال : كنت قاعدًا عند ابن عباس ، وحج المختار ابن أبي عبيد ، فجاءه{[11141]} رجل فقال : يا ابن عباس ، وزعم أبو إسحاق أنه أوحي{[11142]} إليه الليلة ؟ فقال ابن عباس : صدق ، فنفرت وقلت : يقول ابن عباس صدق . فقال ابن عباس : هما وحيان ، وحي الله ، ووحي الشيطان ، فوحي الله [ عَزَّ وجل ]{[11143]} إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، ووحي الشيطان إلى أوليائه ، ثم قرأ : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ{[11144]} لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ }
وقد تقدم عن عكرمة في قوله : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } نحو هذا .
وقوله [ تعالى ]{[11145]} : { لِيُجَادِلُوكُمْ } قال ابن أبي حاتم : : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَيْر قال : خاصمت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : نأكل مما قتلنا ، ولا نأكل مما قتل الله ؟ فأنزل الله : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ }
هكذا رواه مرسلا ورواه أبو داود متصلا فقال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله ؟ فأنزل الله : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ] }{[11146]} .
وكذا رواه ابن جَرير ، عن محمد بن عبد الأعلى وسفيان{[11147]} بن وَكِيع ، كلاهما عن عمران بن عيينة ، به .
ورواه البزار ، عن محمد بن موسى الحَرَشي ، عن عمران بن عيينة ، به . {[11148]} وهذا فيه نظر من وجوه ثلاثة : أحدها :
أن اليهود لا يرون إباحة الميتة حتى يجادلوا .
الثاني : أن الآية من الأنعام ، وهي مكية .
الثالث : أن هذا الحديث رواه الترمذي ، عن محمد بن موسى الحَرَشِي ، عن زياد بن عبد الله البكائي ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس . ورواه الترمذي بلفظ{[11149]} : أتى ناس النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وقال : حسن غريب ، رُوي عن سعيد بن جبير مرسلا{[11150]} .
وقال الطبراني : حدثنا علي بن المبارك ، حدثنا زيد بن المبارك ، حدثنا موسى بن عبد العزيز ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } أرسلت فارس إلى قريش : أن خاصموا محمدًا وقولوا له : كَمَا تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال ، وما ذبح الله ، عَزَّ وجل ، بشمشير من ذهب - يعني الميتة - فهو حرام . فنزلت هذه الآية : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } قال : الشياطين من فارس ، وأوليائهم [ من ]{[11151]} قريش{[11152]} .
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا إسرائيل ، حدثنا سِماك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ } يقولون : ما ذبح الله فلا تأكلوه . وما ذبحتم أنتم فكلوه ، فأنزل الله : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ }
ورواه ابن ماجه وابن أبي حاتم ، عن عمرو بن عبد الله ، عن وكيع ، عن إسرائيل ، به{[11153]} . وهذا إسناد صحيح .
ورواه ابن جرير من طرق متعددة ، عن ابن عباس ، وليس فيه ذكر اليهود ، فهذا هو المحفوظ{[11154]} ، والله أعلم .
وقال ابن جُرَيْج : قال عمرو بن دينار ، عن عكرمة : إن مشركي قريش كاتبوا فارس على الروم ، وكاتبتهم فارس ، وكتب فارس إلى مشركي قريش : أن محمدًا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله ، فما ذبح الله بسكين من ذهب فلا يأكله محمد وأصحابه - للميتة وما{[11155]} ذبحوه هم يأكلون . فكتب بذلك المشركون إلى أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء ، فأنزل الله{[11156]} : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ [ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ] }{[11157]} ونزلت : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا }
وقال السُّدِّي في تفسير هذه الآية : إن المشركين قالوا للمؤمنين : كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة الله ، وما ذبح الله فلا تأكلونه ، وما ذبحتم أنتم أكلتموه ؟ فقال الله : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } فأكلتم الميتة { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }
وهكذا قاله مجاهد ، والضحاك ، وغير واحد من علماء السلف ، رحمهم الله .
وقوله تعالى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } أي : حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره ، فقدمتم عليه غيره فهذا هو الشرك ، كما قال تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ] }{[11158]} [ التوبة : 31 ] .
وقد روى الترمذي في تفسيرها ، عن عدي بن حاتم أنه قال : يا رسول الله ، ما عبدوهم ، فقال : " بل إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال ، فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم " {[11159]} .
{ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } ظاهر في تحريم متروك التسمية عمدا أو نسيانا ، وإليه ذهب داود وعن أحمد مثله ، وقال مالك والشافعي بخلافه لقوله عليه الصلاة والسلام " ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله عليه " وفرق أبو حنيفة رحمه الله بين العمد والنسيان وأوله بالميتة أو بما ذكر غير اسم الله عليه لقوله : { وإنه لفسق } فإن الفسق ما أهل لغير الله به ، والضمير لما ويجوز أن يكون للأكل الذي دل عليه ولا تأكلوا . { وإن الشياطين ليوحون } ليوسوسون . { إلى أوليائهم } من الكفار . { ليجادلوكم } بقولهم تأكلون ما قتلتم أنتم وجوارحكم وتدعون ما قتله الله ، وهو يؤيد التأويل بالميتة . { وإن أطعتموهم } في استحلال ما حرم . { إنكم لمشركون } فإن من ترك طاعة الله تعالى إلى طاعة غيره واتبعه في دينه فقد أشرك ، وإنما حسن حذف الفاء فيه لأن الشرط بلفظ الماضي .
جملة : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } معطوفة على جملة : { فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه } [ الأنعام : 118 ] .
و ( ما ) في قوله : { مما لم يذكر اسم الله عليه } موصولة ، وما صْدق الموصول هنا : ذَكِيَ ، بقرينة السّابق الّذي ما صْدقه ذلك بقرينة المقام . ولمّا كانت الآية السّابقة قد أفادت إباحة أكل ما ذكر اسمُ الله عليه ، وأفهمت النّهيَ عمَّا لم يذكر اسم الله عليه ، وهو الميتة ، وتَمّ الحكم في شأن أكل الميتة والتفرقةُ بينها وبين ما ذُكّي وذُكر اسم الله عليه ، ففي هذه الآية أفيد النّهي والتّحذير من أكل ما ذُكر اسم غيرِ الله عليه . فمعنى : { لم يذكر اسم الله عليه } : أنَّه تُرِك ذكر اسم الله عليه قصداً وتجنّبا لذكره عليه ، ولا يكون ذلك إلاّ لقصد أن لا يكون الذّبح لله ، وهو يساوي كونه لغير الله ، إذ لا واسطة عندهم في الذكاة بين أن يذكروا اسم الله أو يذكروا اسم غير الله ، كما تقدّم بيانه عند قوله : { فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه } [ الأنعام : 118 ] . وممّا يرشّح أنّ هذا هو المقصود قولُه هنا : { وإنه لفسق } وقوله في الآية الآتية : { أو فِسْقا أهِلّ لغير الله به } [ الأنعام : 145 ] ، فعلم أنّ الموصوف بالفسق هنا : هو الّذي وصف به هنالك ، وقيد هنالك بأنَّه أُهلّ لغير الله به ، وبقرينة تعقيبه بقوله : { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } لأنّ الشّرك إنَّما يكون بذكر أسماء الأصنام على المذكَّى ، ولا يكون بترك التّسمية .
وربّما كان المشركون في تَحيّلهم على المسلمين في أمر الذكاة يقتنعون بأن يسألوهم ترك التّسمية ، بحيث لا يُسمّون الله ولا يسمّون للأصنام ، فيكون المقصود من الآية : تحذير المسلمين من هذا التّرك المقصود به التمويه ، وأن يسمّى على الذّبائح غيرُ أسماء آلهتهم .
فإن اعتددنا بالمقصد والسّياق ، كان اسم الموصول مراداً به شيء معيّن ، لم يذكر اسم الله عليه ، فكان حكمها قاصراً على ذلك المعيّن ، ولا تتعلّق بها مسألةُ وجوب التّسمية في الذكاة ، ولا كونها شرطاً أو غير شرط بله حكم نسيانها . وإن جعلنا هذا المقصد بمنزلة سبب للنّزول ، واعتددنا بالموصول صادقاً على كلّ ما لم يذكر اسم الله عليه ، كانت الآية من العامّ الوارد على سبب خاصّ ، فلا يخصّ بصورة السّبب ، وإلى هذا الاعتبار مال جمهور الفقهاء المختلفين في حكم التّسمية على الذّبيحة .
وهي مسألة مختلف فيها بين الفقهاء على أقوال : أحدها : أنّ المسلم إن نسي التّسمية على الذبح تؤكل ذبيحته ، وإن تعمَّد ترك التّسمية استخفافاً أو تجنّبا لها لم تؤكل ( وهذا مثل ما يفعله بعض الزّنوج من المسلمين في تونس وبعض بلاد الإسلام الّذين يزعمون أنّ الجنّ تمتلكهم ، فيتفادَون من أضرارها بقرابين يذبحونها للجنّ ولا يسمّون اسم الله عليها ، لأنَّهم يزعمون أنّ الجنّ تنفر من اسم الله تعالى خِيفة منه ، ( وهذا متفشّ بينهم في تونس ومصر ) فهذه ذبيحة لا تؤكل .
ومستند هؤلاء ظاهر الآية مع تخصيصها أو تقييدها بغير النّسيان ، إعمالاً لقاعدة رفع حكم النّسيان عن النّاس . وإنْ تعمّد ترك التّسمية لا لقصد استخفاف أو تجنّب ولكنّه تثاقل عنها ، فقال مالك ، في المشهور ، وأبو حنيفة ، وجماعة ، وهو رواية عن أحمد : لا تؤكل . ولا شكّ أنّ الجهل كالنّسيان ، ولعلّهم استدلّوا بالأخذ بالأحوط في احتمال الآية اقتصارا على ظاهر اللّفظ دون معونة السِياق .
الثّاني : قال الشّافعي ، وجماعة ، ومالك ، في رواية عنه : تؤكل ، وعندي أنّ دليل هذا القول أنّ التّسمية تكملة للقربة ، والذكاة بعضها قربة وبعضها ليست بقربة ، ولا يبلغ حكم التّسمية أن يكون مفسداً للإباحة . وفي « الكشاف » أنَّهم تأوّلوا ما لم يذكر اسم الله عليه بأنَّه الميتة خاصّة ، وبما ذُكر غيرُ اسم الله عليه . وفي « أحكام القرآن » لابن العربي ، عن إمام الحرمين : ذِكر الله إنَّما شرع في القُرَب ، والذبحُ ليس بقربة . وظاهر أنّ العامد آثم وأنّ المستخفّ أشدّ إثماً . وأمّا تعمّد ترك التّسمية لأجل إرضاءِ غير الله فحكمه حكم من سمَّى لِغير الله تعالى . وقيل : إنْ ترَك التّسميةَ عمداً يُكره أكلها ، قاله أبو الحسن بن القصّار ، وأبو بكر الأبهري من المالكيّة . ولا يعدّ هذا خلافاً ، ولكنّه بيان لقول مالك في إحدى الرّوايتين . وقال أشهب ، والطبرِي : تؤكل ذبيحة تارك التّسمية عمداً ، إذا لم يتركها مستخِفاً . وقال عبد الله بن عمر ، وابن سيرين ، ونافِع ، وأحمد بن حنبل ، وداودُ : لا تؤكل إذا لم يسمّ عليها عَمْداً أو نسياناً ، أخذاً بظاهر الآية ، دون تأمّل في المقصد والسّياق .
وأرجح الأقوال : هو قول الشّافعي . والرّوايةُ الأخرى عن مالك ، إنْ تعمّد ترك التّسميه تؤكل ، وأنّ الآية لم يُقْصد منها إلاّ تحريم ما أهل به لغير الله بالقرائن الكثيرة التي ذكرناها آنفاً ، وقد يكون تارك التّسمية عمداً آثماً ، إلاّ أنّ إثمه لا يُبطل ذكاته ، كالصّلاة في الأرض المغصوبة عند غير أحمد .
وجملة : { وإنه لفسق } معطوفة على جملة { ولا تأكلوا } عطف الخبر على الإنشاء ، على رأي المحقّقين في جوازه ، وهو الحقّ ، لا سيما إذا كان العطف بالواو ، وقد أجاز عطف الخبر على الإنشاء بالواو بعض من منعه بغير الواو ، وهو قول أبي عليّ الفارسي ، واحتجّ بهذه الآية كما في « مغنى اللّبيب » . وقد جعلها الرّازي وجماعة : حالاً { مما لم يذكر اسم الله عليه } بناء على منع عطف الخبر على الإنشاء .
والضّمير في قوله : { وإنه لفسق } يعود على { مما لم يذكر اسم الله عليه } والإخبار عنه بالمصدر وهو { فسق } مبالغة في وصف الفعل ، وهو ذكرُ اسم غير الله ، بالفسق حتّى تجاوز الفسق صفة الفعل أن صار صفة المفعول فهو من المصدر المراد به اسم المفعول : كالخَلق بمعنى المخلوق ، وهذا نظير جعله فسقاً في قوله بعدُ : { أو فسقاً أهِلّ لغير الله به } [ الأنعام : 145 ] . والتّأكيد بإنّ : لزيادة التّقرير ، وجعل في « الكشاف » الضّمير عائداً إلى الأكل المأخوذ من { ولا تأكلوا } ، أي وإنّ أكْلَه لفسق .
وقوله : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجدلوكم } عطف على : { وإنه لفسق } ، أي : واحذروا جَدَل أولياء الشّياطين في ذلك ، والمراد بأولياء الشّياطين : المشركون ، وهم المشار إليهم بقوله ، فيما مرّ : { يُوحي بعضهم إلى بعض } [ الأنعام : 112 ] وقد تقدّم بيانه .
والمجادلة المنازعة بالقول للإقناع بالرأي ، وتقدّم بيانها عند قوله تعالى : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } في سورة النساء ( 107 ) ، والمراد هنا المجادلة في إبطال أحكام الإسلام وتحبيب الكفر وشعائره ، مثل قولهم : كيف نأكل ما نقتل بأيدينا ولا نأكل ما قتله الله .
وقوله : { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } حُذف متعلّق { أطعتموهم } لدلالة المقام عليه ، أي : إن أطعتموهم فيما يجادلونكم فيه ، وهو الطّعن في الإسلام ، والشكّ في صحّة أحكامه . وجملة : { إنكم لمشركون } جواب الشّرط . وتأكيد الخبر بإنّ لتحقيق التحاقهم بالمشركين إذا أطاعوا الشّياطين ، وإن لم يَدْعوا لله شركاء ، لأنّ تخطئة أحكام الإسلام تساوي الشرك ، فلذلك احتيج إلى التّأكيد ، أو أراد : إنَّكم لصائرون إلى الشّرك ، فإنّ الشّياطين تستدرجكم بالمجادلة حتّى يبلغوا بكم إلى الشرك ، فيكون اسم الفاعل مراداً به الاستقبال . وليس المعنى : إن أطعتموهم في الإشراك بالله فأشركتم بالله إنَّكم لمشركون ، لأنَّه لو كان كذلك لم يكن لتأكيد الخبر سبب ، بل ولا للإخبار بأنّهم مشركون فائدة .
وجملة : { إنكم لمشركون } جواب الشرط ، ولم يَقترن بالفاء لأنّ الشّرط إذا كان مضافاً يحسن في جوابه التّجريد عن الفاء ، قاله أبو البقاء العُكبري ، وتبعه البيضاوي ، لأنّ تأثير الشّرط الماضي في جزائه ضعيف ، فكما جاز رفع الجزاء وهو مضارع ، إذا كان شرطه ماضياً ، كذلك جاز كونه جملة اسميّة غير مقترنة بالفاء . على أنّ كثيراً من محقّقي النّحويين يجيز حذف فاء الجواب في غير الضّرورة ، فقد أجازه المبرّد وابن مالك في شرحه على « مشكل الجامع الصّحيح » . وجعل منه قوله صلى الله عليه وسلم " إنك إنْ تَدَعْ ورثتَك أغنياء خيرُ من أن تدعهم عالة " على رواية إنْ بكسر الهمزة دون رواية فتح الهمزة .