ثم قال تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }
وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصحة ما جاء به ، فقال : { وإن كنتم } معشر المعاندين للرسول ، الرادين دعوته ، الزاعمين كذبه في شك واشتباه ، مما نزلنا على عبدنا ، هل هو حق أو غيره ؟ فهاهنا أمر نصف ، فيه الفيصلة بينكم وبينه ، وهو أنه بشر مثلكم ، ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم{[67]} وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم ، لا يكتب ولا يقرأ ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله ، وقلتم أنتم أنه تقوَّله وافتراه ، فإن كان الأمر كما تقولون ، فأتوا بسورة من مثله ، واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم ، فإن هذا أمر يسير عليكم ، خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة ، والعداوة العظيمة للرسول ، فإن جئتم بسورة من مثله ، فهو كما زعمتم ، وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز ، ولن تأتوا بسورة من مثله ، ولكن هذا التقييم{[68]} على وجه الإنصاف والتنزل معكم ، فهذا آية كبرى ، ودليل واضح [ جلي ] على صدقه وصدق ما جاء به ، فيتعين عليكم اتباعه ، واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة [ والشدة ] ، أن كانت وقودها الناس والحجارة ، ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب ، وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله . فاحذروا الكفر برسوله ، بعد ما تبين لكم أنه رسول الله .
وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات التحدي ، وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، قال تعالى { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا }
وكيف يقدر المخلوق من تراب ، أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب ؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه ، أن يأتي بكلام ككلام الكامل ، الذي له الكمال المطلق ، والغنى الواسع من كل الوجوه ؟ هذا ليس في الإمكان ، ولا في قدرة الإنسان ، وكل من له أدنى ذوق ومعرفة [ بأنواع ] الكلام ، إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء ، ظهر له الفرق العظيم .
وفي قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } إلى آخره ، دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة : [ هو ] الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلال ، فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق{[69]} إن كان صادقا في طلب الحق .
وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه ، فهذا لا يمكن رجوعه ، لأنه ترك الحق بعد ما تبين له ، لم يتركه عن جهل ، فلا حيلة فيه .
وكذلك الشاك غير الصادق{[70]} في طلب الحق ، بل هو معرض غير مجتهد في طلبه ، فهذا في الغالب أنه لا يوفق .
وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم ، دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم ، قيامه بالعبودية ، التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين .
كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء ، فقال : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } وفي مقام الإنزال ، فقال : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ }
وفي قوله : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } ونحوها من الآيات ، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة ، أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة ، وفيها أيضا ، أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار ، لأنه قال : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } فلو كان [ عصاة الموحدين ] يخلدون فيها ، لم تكن معدة للكافرين وحدهم ، خلافا للخوارج والمعتزلة .
وفيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه ، وهو الكفر ، وأنواع المعاصي على اختلافها .
وهذا التحدي ظل قائما في حياة الرسول [ ص ] وبعدها ، وما يزال قائما إلى يومنا هذا وهو حجة لا سبيل إلى المماحكة فيها . . وما يزال القرآن يتميز من كل كلام يقوله البشر تميزا واضحا قاطعا . وسيظل كذلك أبدا . سيظل كذلك تصديقا لقول الله تعالى في الآية التالية :
( فإن لم تفعلوا - ولن تفعلوا - فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافري ) والتحدي هنا عجيب ، والجزم بعدم إمكانه أعجب ، ولو كان في الطاقة تكذيبه ما توانوا عنه لحظة . وما من شك أن تقرير القرآن الكريم أنهم لن يفعلوا ، وتحقق هذا كما قرره هو بذاته معجزة لا سبيل إلى المماراة فيها . ولقد كان المجال أمامهم مفتوحا ، فلو أنهم جاءوا بما ينقض هذا التقرير القاطع لأنهارت حجية القرآن ولكن هذا لم يقع ولن يقع كذلك فالخطاب للناس جميعا ، ولو أنه كان في مواجهة جيل من أجيال الناس .
وهذه وحدها كلمة الفصل التاريخية .
على أن كل من له دراية بتذوق أساليب الأداء ؛ وكل من له خبرة بتصورات البشر للوجود وللأشياء ؛ وكل من له خبرة بالنظم والمناهج والنظريات النفسية أو الاجتماعية التي ينشئها البشر . . لا يخالجه شك في أن ما جاء به القرآن في هذه المجالات كلها شيء آخر ليس من مادة ما يصنعه البشر . والمراء في هذا لا ينشأ إلا عن جهالة لا تميز ، أو غرض يلبس الحق بالباطل . .
ومن ثم كان هذا التهديد المخيف لمن يعجزون عن هذا التحدي ثم لا يؤمنون بالحق الواضح :
( فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ) . .
ففيم هذا الجمع بين الناس والحجارة ، في هذه الصورة المفزعة الرعيبة ؟ لقد أعدت هذه النار للكافرين . الكافرين الذين سبق في أول السورة وصفهم بأنهم ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة ) . . والذين يتحداهم القرآن هنا فيعجزون ، ثم لا يستجيبون . . فهم إذن حجارة من الحجارة ! وإن تبدوا في صورة آدمية من الوجهة الشكلية ! فهذا الجمع بين الحجارة من الحجر والحجارة من الناس هو الأمر المنتظر !
على أن ذكر الحجارة هنا يوحي إلى النفس بسمة أخرى في المشهد المفزع : مشهد النار التي تأكل الأحجار . ومشهد الناس الذين تزحمهم هذه الأحجار . . في النار . .
" ولن " : لنفي التأبيد{[1371]} أي : ولن تفعلوا ذلك أبدًا . وهذه - أيضًا - معجزة أخرى ، وهو أنه أخبر أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبدا{[1372]} وكذلك وقع الأمر ، لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن ، وَأنَّى يَتَأتَّى ذلك لأحد ، والقرآن كلام الله خالق كل شيء ؟ وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين ؟ !
ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونًا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى ، قال الله تعالى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [ هود : 1 ] ، فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف ، فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يجارى ولا يدانى ، فقد أخبر عن مغيبات ماضية وآتية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء ، وأمر بكل خير ، ونهى عن كل شر كما قال : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا } [ الأنعام : 115 ] أي : صدقًا في الأخبار وعدلا في الأحكام ، فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء ،
كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها ، كما قيل في الشعر : إن أعذبه أكذبه ، وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر ، أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع ، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئًا إلا قدرة المتكلم المعبر على التعبير على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح ، ثم تجد له فيها بيتًا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر لا طائل تحته .
وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلا وإجمالا ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير ، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة ، سواء كانت مبسوطة أو وجيزة ، وسواء تكررت أم لا وكلما تكرر حلا وعلا لا يَخلق عن كثرة الرد ، ولا يمل منه العلماء ، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات ، فما ظنك بالقلوب الفاهمات ، وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان ، ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن ، كما قال في الترغيب : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ السجدة : 17 ] وقال : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ الزخرف : 71 ] ، وقال في الترهيب : { أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ } [ الإسراء : 68 ] ، { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } [ الملك : 16 ، 17 ] وقال في الزجر : { فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ } [ العنكبوت : 40 ] ، وقال في الوعظ : { أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ } [ الشعراء : 205 - 207 ] إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة ، وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي ، اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب ، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء ؛ كما قال ابن مسعود وغيره من السلف : إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فأوعها سمعك فإنه خير ما يأمر به أو شر ينهى عنه . ولهذا قال تعالى : { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } الآية [ الأعراف : 157 ] ، وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم ، بشرت به وحذرت وأنذرت ؛ ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات ، وزهدت في الدنيا ورغبت في الأخرى ، وثبتت على الطريقة المثلى ، وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم ، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم .
ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعْطِيَ من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليَّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا{[1373]} يوم القيامة » لفظ{[1374]} مسلم . وقوله : «وإنما كان الذي أوتيته وحيًا » أي : الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز{[1375]} للبشر أن يعارضوه ، بخلاف غيره من الكتب الإلهية ، فإنها ليست معجزة [ عند كثير من العلماء ]{[1376]} والله أعلم . وله عليه الصلاة والسلام من الآيات الدالة على نبوته ، وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر ، ولله الحمد والمنة .
[ وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصوفية ، فقال : إن كان هذا القرآن معجزًا في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ولا في قواهم معارضته ، فقد حصل المدعى وهو المطلوب ، وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع شدة عداوتهم له ، كان ذلك دليلا على أنه من عند الله ؛ لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك ، وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته ، كما قررنا ، إلا أنها تصلح على سبيل التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق وبهذه الطريقة أجاب فخر الدين في تفسيره عن سؤاله في السور القصار كالعصر و { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } ] {[1377]} .
وقوله تعالى : { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } أما الوَقُود ، بفتح الواو ، فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه ، كما قال : { وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا } [ الجن : 15 ] وقال تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [ الأنبياء : 98 ] .
والمراد بالحجارة هاهنا : هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة ، وهي أشد الأحجار حرا إذا حميت ، أجارنا الله منها .
قال عبد الملك بن ميسرة الزرّاد{[1378]} عن عبد الرحمن بن سابط ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله بن مسعود ، في قوله تعالى : { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } قال : هي حجارة من كبريت ، خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا ، يعدها للكافرين . رواه ابن جرير ، وهذا لفظه . وابن أبي حاتم ، والحاكم في مستدركه وقال : على شرط الشيخين{[1379]} .
وقال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } أما الحجارة فهي حجارة في النار من كبريت أسود ، يعذبون به مع النار .
وقال مجاهد : حجارة من كبريت أنتن من الجيفة . وقال أبو جعفر محمد بن علي : [ هي ]{[1380]} حجارة من كبريت . وقال ابن جريج : حجارة من كبريت أسود في النار ، وقال لي عمرو بن دينار : أصلب من هذه الحجارة وأعظم .
[ وقيل : المراد بها : حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قال : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } الآية [ الأنبياء : 98 ] ، حكاه القرطبي وفخر الدين ورجحه على الأول ؛ قال : لأن أخذ النار في حجارة الكبريت ليس بمنكر فجعلها هذه الحجارة أولى ، وهذا الذي قاله ليس بقوي ؛ وذلك أن النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى لسعيرها ، ولا سيما على ما ذكره السلف من أنها حجارة من كبريت معدة لذلك ، ثم إن أخذ النار في هذه الحجارة - أيضا - مشاهد ، وهذا الجص يكون أحجارًا فتعمل فيه بالنار حتى يصير كذلك . وكذلك سائر الأحجار تفخرها النار وتحرقها . وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها ، وشدة ضرامها وقوة لهبها كما قال : { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } [ الإسراء : 97 ] . وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمى ويشتد لهبها قال : ليكون ذلك أشد عذابًا لأهلها ، قال : وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كل مؤذ في النار " وهذا الحديث ليس بمحفوظ ولا معروف{[1381]} ثم قال القرطبي : وقد فسر بمعنيين ، أحدهما : أن كل من آذى الناس دخل النار{[1382]} ، والآخر : كل ما يؤذي فهو في النار يتأذى به أهلها من السباع والهوام وغير ذلك ]{[1383]} .
وقوله تعالى : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } الأظهر أنّ الضمير في { أُعِدَّتْ } عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة ، ويحتمل عوده على الحجارة ، كما قال ابن مسعود ، ولا منافاة بين القولين في المعنى ؛ لأنهما متلازمان .
و{ أُعِدَّتْ } أي : أرصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله ، كما قال [ محمد ]{[1384]} بن إسحاق ، عن محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } أي : لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر .
وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن لقوله : { أُعِدَّتْ } أي : أرصدت وهيئت وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها : " تحاجت الجنة والنار " ومنها : " استأذنت النار ربها فقالت : رب أكل بعضي بعضًا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف " ، وحديث ابن مسعود سمعنا وجبة فقلنا ما هذه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها » وهو عند مسلم{[1385]} وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الأندلس .
{ فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة } لما بين لهم ما يتعرفون به أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وميز لهم الحق عن الباطل ، رتب عليه ما هو كالفذلكة له ، وهو أنكم إذا اجتهدتم في معارضته وعجزتم جميعا عن الإتيان بما يساوي أو يدانيه ، ظهر أنه معجز والتصديق به واجب ، فآمنوا به واتقوا العذاب المعد لمن كذب ، فعبر عن الإتيان المكيف بالفعل الذي يعم الإتيان وغيره إيجازا ، ونزل لازم الجزاء منزلته على سبيل الكناية تقريرا للمكنى عنه ، وتهويلا لشأن العناد ، وتصريحا بالوعيد مع الإيجاز ، وصدر الشرطية بإن التي للشك والحال يقتضي إذا الذي للوجوب ، فإن القائل سبحانه وتعالى لم يكن شاكا في عجزهم ، ولذلك نفى إتيانهم معترضا بين الشرط والجزاء تهكما بهم وخطابا معهم على حسب ظنهم ، فإن العجز قبل التأمل لم يكن محققا عندهم . و{ تفعلوا } جزم ب{ لم } لأنها واجبة الإعمال مختصة بالمضارع متصلة بالمعمول ، ولأنها لما صيرته ماضيا صارت كالجزء منه ، وحرف الشرط كالداخل على المجموع فكأنه قال :
فإن تركتم الفعل ، ولذلك ساغ اجتماعهما . { ولن } كلا في نفي المستقبل غير أنه أبلغ وهو حرف مقتضب عند سيبويه والخليل في إحدى الروايتين عنه ، وفي الرواية الأخرى أصله لا أن ، وعند الفراء لا فأبدلت ألفها نونا . والوقود بالفتح ما توقد به النار ، وبالضم المصدر وقد جاء المصدر بالفتح قال سيبويه : وسمعنا من يقول وقدت النار وقودا عاليا ، واسم بالضم ولعله مصدر سمي به كما قيل : فلان فخر قومه وزين بلده ، وقد قرئ به والظاهر أن المراد به الاسم ، وإن أريد به المصدر فعلى حذف مضاف أي : وقودها احتراق الناس ، والحجارة : وهي جمع حجر . كجمالة جمع جمل وهو قليل غير منقاس ، والمراد بها الأصنام التي نحتوها وقرنوا بها أنفسهم وعبدوها طمعا في شفاعتها والانتفاع بها واستدفاع المضار لمكانتهم ، ويدل عليه قوله تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } . عذبوا بما هو منشأ جرمهم كما عذب الكافرون بما كنزوه . أو بنقيض ما كانوا يتوقعون زيادة في تحسرهم . وقيل : الذهب والفضة التي كانوا يكنزونها ويغترون بها ، وعلى هذا لم يكن لتخصيص إعداد هذا النوع من العذاب بالكفار وجه ، وقيل : حجارة الكبريت وهو تخصيص بغير دليل وإبطال للمقصود ، إذ الغرض تهويل شأنها وتفاقم لهبها بحيث تتقد بما لا يتقد به غيرها ، والكبريت تتقد به كل نار وإن ضعفت ، فإن صح هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فلعله عني به أن الأحجار كلها لتلك النار كحجارة الكبريت لسائر النيران . ولما كانت الآية مدنية نزلت بعد ما نزل بمكة قوله تعالى في سورة التحريم { نارا وقودها الناس والحجارة } . وسمعوه صح تعريف النار . ووقوع الجملة صلة " بإزائها " فإنها يجب أن تكون قصة معلومة .
{ أعدت للكافرين } هيئت لهم وجعلت عدة لعذابهم . وقرئ " أعتدت " من العتاد بمعنى العدة ، والجملة استئناف ، أو حال بإضمار قد من النار لا الضمير الذي في وقودها ، وإن جعلته مصدرا للفصل بينهما بالخبر . وفي الآيتين ما يدل على النبوة من وجوه :
الأول : ما فيهما من التحدي والتحريض على الجد وبذل الوسع في المعارضة بالتقريع والتهديد ، وتعليق الوعيد على عدم الإتيان بما يعارض أقصر سورة من سور القرآن ، ثم إنهم مع كثرتهم واشتهارهم بالفصاحة وتهالكهم على المضادة لم يتصدوا لمعارضته ، التجأوا إلى جلاء الوطن وبذل المهج .
الثاني : أنهما يتضمنان الإخبار عن الغيب على ما هو به ، فإنهم لو عارضوه بشيء لامتنع خفاؤه عادة سيما والطاعنون فيه أكثر من الذابين عنه في كل عصر .
الثالث : أنه صلى الله عليه وسلم لو شك في أمره لما دعاهم إلى المعارضة بهذه المبالغة ، مخافة أن يعارض فتدحض حجته وقوله تعالى { أعدت للكافرين } دل على أن النار مخلوقة معدة الآن لهم .