هذا تقرير من الله تعالى للتوحيد بأعظم الطرق الموجبة له ، وهي شهادته تعالى وشهادة خواص الخلق وهم الملائكة وأهل العلم ، أما شهادته تعالى فيما أقامه من الحجج والبراهين القاطعة على توحيده ، وأنه لا إله إلا هو ، فنوع الأدلة في الآفاق والأنفس على هذا الأصل العظيم ، ولو لم يكن في ذلك إلا أنه ما قام أحد بتوحيده إلا ونصره على المشرك الجاحد المنكر للتوحيد ، وكذلك إنعامه العظيم الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه ، ولا يدفع النقم إلا هو ، والخلق كلهم عاجزون عن المنافع والمضار لأنفسهم ولغيرهم ، ففي هذا برهان قاطع على وجوب التوحيد وبطلان الشرك ، وأما شهادة الملائكة بذلك فنستفيدها بإخبار الله لنا بذلك وإخبار رسله ، وأما شهادة أهل العلم فلأنهم هم المرجع في جميع الأمور الدينية خصوصا في أعظم الأمور وأجلها وأشرفها وهو التوحيد ، فكلهم من أولهم إلى آخرهم قد اتفقوا على ذلك ودعوا إليه وبينوا للناس الطرق الموصلة إليه ، فوجب على الخلق التزام هذا الأمر المشهود عليه والعمل به ، وفي هذا دليل على أن أشرف الأمور علم التوحيد لأن الله شهد به بنفسه وأشهد عليه خواص خلقه ، والشهادة لا تكون إلا عن علم ويقين ، بمنزلة المشاهدة للبصر ، ففيه دليل على أن من لم يصل في علم التوحيد إلى هذه الحالة فليس من أولي العلم . وفي هذه الآية دليل على شرف العلم من وجوه كثيرة ، منها : أن الله خصهم بالشهادة على أعظم مشهود عليه دون الناس ، ومنها : أن الله قرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته ، وكفى بذلك فضلا ، ومنها : أنه جعلهم أولي العلم ، فأضافهم إلى العلم ، إذ هم القائمون به المتصفون بصفته ، ومنها : أنه تعالى جعلهم شهداء وحجة على الناس ، وألزم الناس العمل بالأمر المشهود به ، فيكونون هم السبب في ذلك ، فيكون كل من عمل بذلك نالهم من أجره ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، ومنها : أن إشهاده تعالى أهل العلم يتضمن ذلك تزكيتهم وتعديلهم وأنهم أمناء على ما استرعاهم عليه ، ولما قرر توحيده قرر عدله ، فقال : { قائمًا بالقسط } أي : لم يزل متصفا بالقسط في أفعاله وتدبيره بين عباده ، فهو على صراط مستقيم في ما أمر به ونهى عنه ، وفيما خلقه وقدره ، ثم أعاد تقرير توحيده فقال { لا إله إلا هو العزيز الحكيم } واعلم أن هذا الأصل الذي هو توحيد الله وإفراده بالعبودية قد دلت عليه الأدلة النقلية والأدلة العقلية ، حتى صار لذوي البصائر أجلى من الشمس ، فأما الأدلة النقلية فكل ما في كتاب الله وسنة رسوله ، من الأمر به وتقريره ، ومحبة أهله وبغض من لم يقم به وعقوباتهم ، وذم الشرك وأهله ، فهو من الأدلة النقلية على ذلك ، حتى كاد القرآن أن يكون كله أدلة عليه ، وأما الأدلة العقلية التي تدرك بمجرد فكر العقل وتصوره للأمور فقد أرشد القرآن إليها ونبه على كثير منها ، فمن أعظمها : الاعتراف بربوبية الله ، فإن من عرف أنه هو الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور أنتج له ذلك أنه هو المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، ولما كان هذا من أوضح الأشياء وأعظمها أكثر الله تعالى من الاستدلال به في كتابه . ومن الأدلة العقلية على أن الله هو الذي يؤله دون غيره انفراده بالنعم ودفع النقم ، فإن من عرف أن النعم الظاهرة والباطنة القليلة والكثيرة كلها من الله ، وأنه ما من نقمة ولا شدة ولا كربة إلا وهو الذي ينفرد بدفعها وإن أحدا من الخلق لا يملك لنفسه - فضلا عن غيره- جلب نعمة ولا دفع نقمة ، تيقن أن عبودية ما سوى الله من أبطل الباطل وأن العبودية لا تنبغي إلا لمن انفرد بجلب المصالح ودفع المضار ، فلهذا أكثر الله في كتابه من التنبيه على هذا الدليل جدا ، ومن الأدلة العقلية أيضا على ذلك : ما أخبر به تعالى عن المعبودات التي عبدت من دونه ، بأنها لا تملك نفعا ولا ضرا ، ولا تنصر غيرها ولا تنصر نفسها ، وسلبها الأسماع والأبصار ، وأنها على فرض سماعها لا تغني شيئا ، وغير ذلك من الصفات الدالة على نقصها غاية النقص ، وما أخبر به عن نفسه العظيمة من الصفات الجليلة والأفعال الجميلة ، والقدرة والقهر ، وغير ذلك من الصفات التي تعرف بالأدلة السمعية والعقلية ، فمن عرف ذلك حق المعرفة عرف أن العبادة لا تليق ولا تحسن إلا بالرب العظيم الذي له الكمال كله ، والمجد كله ، والحمد كله ، والقدرة كلها ، والكبرياء كلها ، لا بالمخلوقات المدبرات الناقصات الصم البكم الذين لا يعقلون ، ومن الأدلة العقلية على ذلك ما شاهده العباد بأبصارهم من قديم الزمان وحديثه ، من الإكرام لأهل التوحيد ، والإهانة والعقوبة لأهل الشرك ، وما ذاك إلا لأن التوحيد جعله الله موصلا إلى كل خير دافعا لكل شر ديني ودنيوي ، وجعل الشرك به والكفر سببا للعقوبات الدينية والدنيوية ، ولهذا إذا ذكر تعالى قصص الرسل مع أمم المطيعين والعاصين ، وأخبر عن عقوبات العاصين ونجاة الرسل ومن تبعهم ، قال عقب كل قصة : { إن في ذلك لآية } أي : لعبرة يعتبر بها المعتبرون فيعلمون أن توحيده هو الموجب للنجاة ، وتركه هو الموجب للهلاك ، فهذه من الأدلة الكبار العقلية النقلية الدالة على هذا الأصل العظيم ، وقد أكثر الله منها في كتابه وصرفها ونوعها ليحيى من حيي عن بينة ، ويهلك من هلك عن بينة فله الحمد والشكر والثناء .
فلنأخذ في التفصيل بعد هذا الإجمال . .
( شهد الله أنه لا إله إلا هو - والملائكة وأولوا العلم - قائما بالقسط . لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) . .
هذه هي الحقيقة الأولى التي يقوم عليها التصور الاعتقادي في الإسلام . حقيقة التوحيد : توحيد الألوهية ، وتوحيد القوامة . . القوامة بالقسط . . وهي الحقيقة التي بدأت بها السورة : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) . . وهي تستهدف إقرار حقيقة العقيدة الإسلامية من جهة ، وجلاء الشبهات التي يلقيها أهل الكتاب من جهة . جلاءها عن أهل الكتاب أنفسهم ، وجلاءها عن المسلمين الذين قد تؤثر هذه الشبهات في عقيدتهم .
وشهادة الله - سبحانه - أنه لا إله إلا هو . . هي حسب كل من يؤمن بالله . . وقد يقال : إنه لا يكتفي بشهادة الله إلا من يؤمن بالله . وأن من يؤمن بالله ليس في حاجة إلى هذه الشهادة . . ولكن واقع الأمر أن أهل الكتاب كانوا يؤمنون بالله ولكنهم في نفس الوقت يجعلون له ابنا وشريكا . بل إن المشركين أنفسهم كانوا يؤمنون بالله ، ولكن الضلال كان يجيئهم من ناحية الشركاء والأنداد والأبناء والبنات ! فإذا قرر لهؤلاء وهؤلاء أن الله - سبحانه - شهد أنه لا إله إلا هو ، فهذا مؤثر قوي في تصحيح تصوراتهم .
على أن الأمر - كما يبدو من متابعة السياق كما تابعناه فيما تقدم - أعمق من هذا وأدق . فإن شهادة الله - سبحانه - بأنه لا إله إلا هو ، مسوقة هنا ليساق بعدها ما هو من مستلزماتها ؛ وهو أنه لا يقبل إذن من العباد إلا العبودية الخالصة له ، الممثلة في الإسلام بمعنى الاستسلام - لا اعتقادا وشعورا فحسب - ولكن كذلك عملا وطاعة واتباعا للمنهج العملي الواقعي المتمثل في أحكام الكتاب . . ومن هذه الناحية نجد كثيرين في كل زمان يقولون : إنهم يؤمنون بالله ، ولكنهم يشركون معه غيره في الألوهية ، حين يتحاكمون إلى شريعة من صنع غيره ، وحين يطيعون من لا يتبع رسوله وكتابه ؛ وحين يتلقون التصورات والقيم والموازين والأخلاق والآداب من غيره . . فهذه كلها تناقض القول بأنهم يؤمنون بالله . ولا تستقيم مع شهادة الله - سبحانه - بأنه لا إله إلا هو .
وأما شهادة الملائكة وشهادة أولي العلم ، فهي متمثلة في طاعتهم لأوامر الله وحدها ، والتلقي عن الله وحده ، والتسليم بكل ما يجيئهم من عنده بدون تشكك ولا جدال ، متى ثبت لهم أنها من عنده . وقد سبق في السورة بيان حال أولي العلم هؤلاء في قوله : ( والراسخون في العلم يقولون : آمنا به ، كل من عند ربنا ) . . فهذه شهادة أولي العلم وشهادة الملائكة : تصديق . وطاعة . واتباع . واستسلام .
وشهادة الله سبحانه وشهادة الملائكة وأولي العلم بوحدانية الله يصاحبها شهادتهم بأنه - تعالى - قائم بالقسط . بوصفها حالة ملازمة للألوهية .
( شهد الله أنه لا إله إلا هو - والملائكة وأولوا العلم - قائما بالقسط ) . .
فهي حالة ملازمة للألوهية كما تفيد صياغة العبارة . وهذا إيضاح للقوامة التي وردت في مطلع السورة :
( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) . . فهي قوامة بالقسط .
وتدبير الله لهذا الكون ولحياة الناس متلبس دائما بالقسط - وهو العدل - فلا يتحقق العدل المطلق في حياة الناس ، ولا تستقيم أمورهم استقامة أمور الكون ، التي يؤدي كل كائن معها دوره في تناسق مطلق مع دور كل كائن آخر . . لا يتحقق هذا إلا بتحكيم منهج الله الذي اختاره لحياة الناس ، وبينه في كتابه . وإلا فلا قسط ولا عدل ، ولا استقامة ولا تناسق ، ولا تلاؤم بين دورة الكون ودورة الإنسان . وهو الظلم إذن والتصادم والتشتت والضياع !
وها نحن أولاء نرى على مدار التاريخ أن الفترات التي حكم فيها كتاب الله وحدها هي التي ذاق فيها الناس طعم القسط ، واستقامت حياتهم استقامة دورة الفلك - بقدر ما تطيق طبيعة البشر المتميزة بالجنوح إلى الطاعة والجنوح إلى المعصية ، والتأرجح بين هذا وذاك ؛ والقرب من الطاعة كلما قام منهج الله ، وحكم في حياة الناس كتاب الله . وأنه حيثما حكم في حياة الناس منهج آخر من صنع البشر ، لازمه جهل البشر وقصور البشر . كما لازمه الظلم والتناقض في صورة من الصور . ظلم الفرد للجماعة . أو ظلم الجماعة للفرد . أو ظلم طبقة لطبقة . أو ظلم أمة لأمة . أو ظلم جيل لجيل . . وعدل الله وحده هو المبرأ من الميل لأي من هؤلاء . وهو إله جميع العباد . وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء .
( لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) . .
يؤكد حقيقة وحدة الألوهية مرة أخرى في الآية الواحدة ، مصحوبة بصفة العزة وصفة الحكمة . والقدرة والحكمة لازمتان كلتاهما للقوامة بالقسط . فالقسط يقوم على وضع الأمور في مواضعها مع القدرة على إنفاذها . وصفات الله سبحانه تصور وتوحي بالفاعلية الإيجابية . فلا سلبية في التصور الإسلامي لله . وهو أكمل تصور وأصدقه لأنه وصف الله لنفسه سبحانه . وقيمة هذه الفاعلية الإيجابية أنها تعلق القلب بالله وإرادته وفعله ، فتصبح العقيدة مؤثرا حيا دافعا لا مجرد تصور فكري بارد !
شهد{[4897]} تعالى - وكفى به شهيدا ، وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم ، وأصدق القائلين - { أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } أي : المتفَرد بالإلهية لجميع الخلائق ، وأن الجميع عبيده وخلقه ، والفقراء إليه ، وهو الغني عما سواه كما قال تعالى : { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ{[4898]} شَهِيدًا } الآية [ النساء : 166 ] .
ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته فقال : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ } وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام .
{ قَائِمًا بِالْقِسْطِ } منصوب على الحال ، وهو في جميع الأحوال كذلك .
{ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } تأكيد لما سبق { الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } العزيز : الذي لا يرام جنابه عظمةً وكبرياء ، الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد ، حدثني جبير بن عَمْرو القرشي ، حدثنا أبو سَعِيد{[4899]} الأنصاري ، عن أبي يحيى مولى آل الزبير بن العوام ، عن الزبير بن العوام ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفةَ يقرأ هذه الآية : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } " وأَنَا عَلَى ذلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ يا رَبِّ " {[4900]} .
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر ، فقال : حدثنا علي بن حسين ، حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني ، حدثنا عُمَر بن حفص بن ثابت أبو سعيد الأنصاري ، حدثنا عبد الملك بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن جده ، عن الزبير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرأ هذه الآية : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ } قال : " وأَنَا أشْهَدُ أيْ رَبِّ " {[4901]} .
{ شَهِدَ اللّهُ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
يعني بذلك جل ثناؤه : شهد الله أنه لا إله إلا هو ، وشهدت الملائكة ، وأولو العلم . فالملائكة معطوف بهم على اسم الله ، و«أنه » مفتوحة بشَهِد .
وكان بعض البصريين يتأول قوله شهد الله : قضى الله ، ويرفع «الملائكة » ، بمعنى : والملائكة شهود وأولو العلم . وهكذا قرأت قراء أهل الإسلام بفتح الألف من أنه على ما ذكرت من إعمال «شهد » في «أنه » الأولى وكسر الألف من «إنّ » الثانية وابتدائها ، سوى أن بعض المتأخرين من أهل العربية كان يقرأ ذلك جميعا بفتح ألفيهما ، بمعنى : شهد الله أنه لا إلَه إلا هو ، وأن الدين عند الله الإسلام ، فعطف بأنّ الدين على «أنه » الأولى ، ثم حذف واو العطف وهي مرادة في الكلام . واحتج في ذلك بأن ابن عباس قرأ ذلك : «شَهِدَ اللّهُ إنّهُ لا إلَهَ إلاّ هُوَ » . . . الاَية ، ثم قال : { أنّ الدّينَ } بكسر «إن » الأولى وفتح «أنّ » الثانية بإعمال «شهد » فيها ، وجعل «أن » الأولى اعتراضا في الكلام غير عامل فيها «شهد »¹ وأن ابن مسعود قرأ : { شَهِدَ اللّهُ أنّهُ لا إلَهَ إلاّ هُوَ } بفتح «أنّ » ، وكسر
«إنّ » من : { إنّ الدّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسْلامُ } على معنى إعمال الشهادة في «أن » الأولى و«أنّ » الثانية مبتدأة ، فزعم أنه أراد بقراءته إياهما بالفتح جمع قراءة ابن عباس وابن مسعود . فخالف بقراءته ما قرأ من ذلك على ما وصفت جميع قراء أهل الإسلام المتقدمين منهم والمتأخرين ، بدعوى تأويل على ابن عباس وابن مسعود زعم أنهما قالاه وقرآ به ، وغير معلوم ما ادعى عليهما برواية صحيحة ، ولا سقيمة . وكفى شاهدا على خطإ قراءته خروجها من قراءة أهل الإسلام . فالصواب إذ كان الأمر على ما وصفنا من قراءة ذلك فتح الألف من «أنه » الأولى ، وكسر الألف من «إنّ » الثانية ، أعني من قوله : { إنّ الدّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسْلام } ابتداء .
وقد رُوي عن السدي في تأويل ذلك قول كالدّال على تصحيح ما قرأ به في ذلك من ذكرنا قوله من أهل العربية في فتح
«أن » من قوله : { أنّ الدّينَ } وهو ما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط عن السدي : { شَهِدَ اللّهُ أنّهُ لاَ إلَهَ إلاّ هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ } إلى : { لا إلَهَ إلاّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } فإن الله يشهد هو والملائكة والعلماء من الناس أن الدين عند الله الإسلام .
فهذا التأويل يدل على أن الشهادة إنما هي عامة في «أن » الثانية التي في قوله : { أنّ الدّينَ عِندَ اللّهِ الإسْلام } فعلى هذا التأويل جائز في «أن » الأولى وجهان من التأويل : أحدهما أن تكون الأولى منصوبة على وجه الشرط ، بمعنى : شهد الله بأنه واحد ، فتكون مفتوحة بمعنى الخفض في مذهب بعض أهل العربية ، وبمعنى النصب في مذهب بعضهم ، والشهادة عاملة في «أنّ » الثانية ، كأنك قلت : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ، لأنه واحد ، ثم تقدم «لأنه واحد » فتفتحها على ذلك التأويل .
والوجه الثاني : أن تكون «إن » الأولى مكسورة بمعنى الابتداء لأنها معترض بها ، والشهادة واقعة على «أن » الثانية ، فيكون معنى الكلام : شهد الله فإنه لا إلَه إلا هو والملائكة ، أن الدين عند الله الإسلام ، كقول القائل : أشهد فإني محق أنك مما تعاب به بريء ، ف«إنّ » الأولى مكسورة لأنها معترضة ، والشهادة واقعة على «أن » الثانية .
وأما قوله : { قائما بالقِسطِ } فإنه بمعنى أنه الذي يلي العدل بين خلقه . والقسط : هو العدل ، من قولهم : هو مقسط ، وقد أقسط ، إذا عدل ، ونصب «قائما » على القطع .
وكان بعض نحويي أهل البصرة يزعم أنه حال من «هو » التي في «لا إلَه إلا هو » .
وكان بعض نحويي الكوفة يزعم أنه حال من اسم الله الذي مع قوله : { شَهِدَ اللّهُ } فكان معناه : شهد الله القائم بالقسط أنه لا إلَه إلا هو . وقد ذكر أنها في قراءة ابن مسعود كذلك : «وأولُو العِلْمِ القَائِمُ بالقِسْطِ » ، ثم حذفت الألف واللام من القائم فصار نكرة وهو نعت لمعرفة ، فنصب .
وأولى القولين بالصواب في ذلك عندي قول من جعله قطعا على أنه من نعت الله جل ثناؤه ، لأن الملائكة وأولي العلم معطوفون عليه ، فكذلك الصحيح أن يكون قوله «قائما » حالاً منه .
وأما تأويل قوله : { لا إلَهَ إلاّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } فإنه نفى أن يكون شيء يستحق العبودية غير الواحد الذي لا شريك له في ملكه . ويعني بالعزيز : الذي لا يمتنع عليه شيء أراده ، ولا ينتصر منه أحد عاقبة أو انتقم منه ، الحكيم في تدبيره ، فلا يدخله خلل .
وإنما عنى جل ثناؤه بهذه الاَية نفي ما أضافت النصارى الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى من البنوة ، وما نسب إليه سائر أهل الشرك من أن له شريكا ، واتخاذهم دونه أربابا . فأخبرهم الله عن نفسه أنه الخالق كل ما سواه ، وأنه رب كل ما اتخذه كل كافر وكل مشرك ربا دونه ، وأن ذلك مما يشهد به هو وملائكته وأهل العلم به من خلقه . فبدأ جل ثناؤه بنفسه تعظيما لنفسه ، وتنزيها لها عما نسب الذين ذكرنا أمرهم من أهل الشرك به ما نسبوا إليها ، كما سن لعباده أن يبدءوا في أمورهم بذكره قبل ذكر غيره ، مؤدبا خلقه بذلك .
والمراد من الكلام : الخبر عن شهادة من ارتضاهم من خلقه فقدموه من ملائكته وعلماء عباده ، فأعلمهم أن ملائكته التي يعظمها العابدون غيره من أهل الشرك ويعبدها الكثير منهم وأهلَ العلم منهم منكرون ما هم عليه مقيمون من كفرهم ، وقولهم في عيسى وقول من اتخذ ربا غيره من سائر الخلق ، فقال شهدت الملائكة وأولو العلم أنه لا إلَه إلا هو ، وأن كل من اتخذ ربا دون الله فهو كاذب¹ احتجاجا منه لنبيه عليه الصلاة والسلام على الذين حاجوه من وفد نجران في عيسى ، واعترض بذكر الله وصفته على ما نبينه ، كما قال جل ثناؤه : { وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنّ لِلّهِ خُمُسَهُ } افتتاحا باسمه الكلام ، فكذلك افتتح باسمه والثناء على نفسه الشهادة بما وصفنا من نفي الألوهة من غيره وتكذيب أهل الشرك به . فأما ما قال الذي وصفنا قوله من أنه عَنَى بقوله شهد : قضى ، فمما لا يعرف في لغة العرب ولا العجم ، لأن الشهادة معنى ، والقضاء غيرها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك رُوي عن بعض المتقدمين القول في ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { شَهِدَ اللّهُ أنّهُ لاَ إلَهَ إلاّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وأُولُو العِلْمِ } بخلاف ما قالوا ، يعني : بخلاف ما قال وفد نجران من النصارى ، { قائما بالْقِسْطِ } أي بالعدل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { بالقِسْطِ } بالعدل .
استئناف وتمهيد لقوله : { إن الدين عند اللَّه الإسلام } [ آل عمران : 19 ] ذلك أنّ أساس الإسلام هو توحيد الله ، وإعلان هذا التوحيد ، وتخليصه من شوائب الإشراك ، وفيه تعريض بالمشركين وبالنصارى واليهود ، وإن تفاوَتوا في مراتب الإشراك ، وفيه ضرب من ردّ العجز على الصدر : لأنّه يؤكد ما افتتحت به السورة من قوله : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، نزل عليك الكتاب بالحق } ( آل عمران : 2 ، 3 ) .
والشهادة حقيقتها خبر يصدَّق به خَبَرُ مُخْبِرٍ وقد يكذّب به خبرُ آخرَ كما تقدم عند قوله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } في سورة البقرة ( 282 ) . وإذ قد كان شأنه أن يكون للتصديق والتكذيب في الحقوق ، كان مظنّة اهتمام المخبِر به والتثبّتِ فيه ، فلذلك أطلق مجازاً على الخبر الذي لا ينبغي أن يشكّ فيه قال تعالى : { واللَّه يشهد إن المنافقين لكاذبون } [ المنافقون : 1 ] وذلك على سبيل المجاز المرسل بعلاقة التلازم ، فشهادة اللَّه تحقيقُه وحدانيتَه بالدلائل التي نصبها على ذلك ، وشهادةُ الملائكة تحقيقهم ذلك فيما بينهم ، وتبليغ بعضهم ذلك إلى الرسل ، وشهادة أولي العلم تحقيقهم ذلك بالحجج والأدلة .
فإطلاق الشهادة على هذه الأخبار مجاز بعلاقة اللزوم ، أو تشبيه الإخبار بالإخبار أو المخبِر بالمخبِر ، ولك أن تجعل « شهد » بمعنى بيَّن وأقام الأدلة ، شُبه إقامة الأدلة على وحدانيته : من إيجاد المخلوقات ونصب الأدلة العقلية ، بشهادة الشاهد بتصديق الدعوى في البيان والكشف على طريق الاستعارة التَبعية ، وبَيّن ذلك الملائكة بما نَزَلوا به من الوحي على الرسل ، وما نطقوا به من محامد ، وبيَّن ذلك أولو العلم بما أقاموا من الحجج على الملاحدة ، ولك أن تجعل شهادة الله بمعنى الدلالة ونصب الأدلة ، وشهادة الملائكة وأولي العلم بمعنى آخر وهو الإقرار أو بمعنيين : إقرار الملائكة ، واحتجاج أولي العلم ، ثم تِبْنيَه على استعمال شهد في معانٍ مجازية ، مثل : { إنّ الله وملائكته يصلّون } [ الأحزاب : 56 ] ، أو على استعمال شهد في مجاز أعم ، وهو الإظهار ، حتى يكون نصب الأدلة والإقرار والاحتجاج من أفراد ذلك العام ، بناء على عموم المجاز .
وانتصب { قائماً بالقسط } على الحال من الضمير في قوله : { إلاّ هو } أي شهد بوحدانيته وقيامِه بالعدل ، ويجوز أن يكون حالاً من اسم الجلالة من قوله : { شهد الله } فيكون حالاً مؤكدة لمضمون شهد ؛ لأنّ الشهادة هذه قيام بالقسط ، فالشاهد بها قائم بالقسط ، قال تعالى : { كونوا قوامين للَّه شهداء بالقسط } [ المائدة : 8 ] . وزعم ابن هشام في الباب الرابع : أنّ كونه حالاً مؤكدة وهَم ، وعلّله بما هو وهَم . وقد ذكر الشيخ محمد الرصاع جريان بحث في إعرَاب مثل هذه الحال من سورة الصف في درس شيخه محمد ابن عقاب .
والقيام هنا بمعنى المواظبة كقوله : { أفمن هو قائم على كلّ نفس بما كسبت } [ الرعد : 33 ] وقوله :
{ ليقوم الناس بالقسط } [ الحديد : 25 ] وتقول : الأمير قائم بمصالح الأمة ، كما تقول : ساهر عليها ، ومنه « إقام الصلاة » وقول أيمن بن خُريم الأنصاري :
أقامتْ غَزالةُ سُوقَ الضِّراب *** لأِهْل العِراقَيْننِ حَوْلاً قميطاً
والقسط : العدل وهو مختصر من القسطاس بضم القاف روى البخاري عن مجاهد أنّه قال : القسطاس : العدل بالرومية وهذه الكلمة ثابتة في اللغات الرومية وهي من اللاطينية ، ويطلق القسط والقسطاس على الميزان ، لأنّه آلة للعدل قال تعالى : { وزنوا بالقسطاس المستقيم } [ الإسراء : 35 ] وقال : { ونضع الموازين القِسط ليوم القيامة } [ الأنبياء : 47 ] . وقد أقام الله القسط في تكوين العوالم على نُظُمها ، وفي تقدير بقاء الأنواع ، وإيداع أسباب المدافعة في نفوس الموجودات ، وفيما شرع للبشر من الشرائع في الاعتقاد والعمل : لدفع ظلم بعضهم بعضاً ، وظلمِهم أنفسَهم ، فهو القائم بالعدل سبحانه ، وعَدْل الناس مقتبس من محاكاة عدله .
وقوله : { لا إله إلا هو } تمجيد وتصديق ، نشأ عن شهادة الموجودات كلّها له بذلك فهو تلقينُ الإقرار له بذلك على نحو قوله تعالى : { إن الله وملائكته يصلّون على النبي يأيها الذين ءامنوا صلّوا عليه وسلموا تسليماً } [ الأحزاب : 56 ] أي اقتداء بالله وملائكته ، على أنّه يفيد مع ذلك تأكيد الجملة السابقة ، ويمهّد لوصفه تعالى بالعزيز الحكيم .