ثم وصف أولي الألباب بأنهم { يذكرون الله } في جميع أحوالهم : { قياما وقعودا وعلى جنوبهم } وهذا يشمل جميع أنواع الذكر بالقول والقلب ، ويدخل في ذلك الصلاة قائما ، فإن لم يستطع فقاعدا ، فإن لم يستطع فعلى جنب ، وأنهم { يتفكرون في خلق السماوات والأرض } أي : ليستدلوا بها على المقصود منها ، ودل هذا على أن التفكر عبادة من صفات أولياء الله العارفين ، فإذا تفكروا بها ، عرفوا أن الله لم يخلقها عبثا ، فيقولون : { ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك } عن كل ما لا يليق بجلالك ، بل خلقتها بالحق وللحق ، مشتملة على الحق .
{ فقنا عذاب النار } بأن تعصمنا من السيئات ، وتوفقنا للأعمال الصالحات ، لننال بذلك النجاة من النار .
ما الآيات التي تتراءى لأولي الألباب عندما يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ، وهم يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ؟ وما علاقة التفكر في هذه الآيات بذكرهم الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ؟ وكيف ينتهون من التفكر فيها إلى هذا الدعاء الخاشع الواجف :
( ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ! فقنا عذاب النار ) . .
إن التعبير يرسم هنا صورة حية من الاستقبال السليم للمؤثرات الكونية في الإدراك السليم . وصورة حية من الاستجابة السليمة لهذه المؤثرات المعروضة للأنظار والأفكار في صميم الكون ، بالليل والنهار .
والقرآن يوجه القلوب والأنظار توجيها مكررا مؤكدا إلى هذا الكتاب المفتوح ؛ الذي لا تفتأ صفحاته تقلب ، فتتبدى في كل صفحة آية موحية ، تستجيش في الفطرة السليمة إحساسا بالحق المستقر في صفحات هذا الكتاب ، وفي " تصميم " هذا البناء ، ورغبة في الاستجابة لخالق هذا الخلق ، ومودعه هذا الحق ، مع الحب له والخشية منه في ذات الأوان ! ! ! وأولو الألباب . . أولو الإدراك الصحيح . . يفتحون بصائرهم لاستقبال آيات الله الكونية ؛ ولا يقيمون الحواجز ، ولا يغلقون المنافذ بينهم وبين هذه الآيات . ويتوجهون إلى الله بقلوبهم قياما وقعودا وعلى جنوبهم ، فتتفتح بصائرهم ، وتشف مداركهم ، وتتصل بحقيقة الكون التي أودعها الله إياه ، وتدرك غاية وجوده ، وعلة نشأته ، وقوام فطرته . بالإلهام الذي يصل بين القلب البشري ونواميس هذا الوجود .
ومشهد السماوات والأرض ، ومشهد اختلاف الليل والنهار . لو فتحنا له بصائرنا وقلوبنا وإدراكنا . لو تلقيناه كمشهد جديد تتفتح عليه العيون أول مرة . لو استنقذنا حسنا من همود الإلف ، وخمود التكرار . . لارتعشت له رؤانا ، ولاهتزت له مشاعرنا ، ولأحسسنا أن وراء ما فيه من تناسق لا بد من يد تنسق ؛ ووراء ما فيه من نظام لا بد من عقل يدبر ؛ ووراء ما فيه من إحكام لا بد من ناموس لا يتخلف . . وأن هذا كله لا يمكن أن يكون خداعا ، ولا يمكن أن يكون جزافا ، ولا يمكن أن يكون باطلا .
ولا ينقص من اهتزازنا للمشهد الكوني الرائع أن نعرف أن الليل والنهار ، ظاهرتان ناشئتان من دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس . ولا أن تناسق السماوات والأرض مرتكز إلى " الجاذبية " أو غير الجاذبية . . هذه فروض تصح أو لا تصح ، وهي في كلتا الحالتين لا تقدم ولا تؤخر في استقبال هذه العجيبة الكونية ، واستقبال النواميس الهائلة الدقيقة التي تحكمها وتحفظها . . وهذه النواميس - أيا كان اسمها عند الباحثين من بني الإنسان - هي آية القدرة ، وآية الحق ، في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار .
والسياق القرآني هنا يصور خطوات الحركة النفسية التي ينشئها استقبال مشهد السماوات والأرض ، واختلاف الليل والنهار في مشاعر أولي الألباب تصويرا دقيقا ، وهو في الوقت ذاته تصوير إيحائي ، يلفت القلوب إلى المنهج الصحيح ، في التعامل مع الكون ، وفي التخاطب معه بلغته ، والتجاوب مع فطرته وحقيقته ، والانطباع بإشاراته وإيحاءاته . ويجعل من كتاب الكون المفتوح كتاب " معرفة " للإنسان المؤمن الموصول بالله ، وبما تبدعه يد الله .
وإنه يقرن ابتداء بين توجه القلب إلى ذكر الله وعبادته : ( قياما وقعودا وعلى جنوبهم ) . . وبين التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار . . فيسلك هذا التفكر مسلك العبادة ، ويجعله جانبا من مشهد الذكر . . فيوحي بهذا الجمع بين الحركتين بحقيقتين هامتين .
الحقيقة الأولى : أن التفكر في خلق الله ، والتدبر في كتاب الكون المفتوح ، وتتبع يد الله المبدعة ، وهي تحرك هذا الكون ، وتقلب صفحات هذا الكتاب . . هو عبادة لله من صميم العبادة ، وذكر لله من صميم الذكر . ولو اتصلت العلوم الكونية ، التي تبحث في تصميم الكون ، وفي نواميسه وسننه ، وفي قواه ومدخراته ، وفي أسراره وطاقاته . . لو اتصلت هذه العلوم بتذكر خالق هذا الكون وذكره ، والشعور بجلاله وفضله . لتحولت من فورها إلى عبادة لخالق هذا الكون وصلاة . ولاستقامت الحياة - بهذه العلوم - واتجهت إلى الله . ولكن الاتجاه المادي الكافر ، يقطع ما بين الكون وخالقه ، ويقطع ما بين العلوم الكونية والحقيقة الأزلية الأبدية ؛ ومن هنا يتحول العلم - أجمل هبة من الله للإنسان - لعنة تطارد الإنسان ، وتحيل حياته إلى جحيم منكرة ، وإلى حياة قلقة مهددة ، وإلى خواء روحي يطارد الإنسان كالمارد الجبار !
والحقيقة الثانية : أن آيات الله في الكون ، لا تتجلى على حقيقتها الموحية ، إلا للقلوب الذاكرة العابدة . وأن هؤلاء الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم - وهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار - هم الذين تتفتح لبصائرهم الحقائق الكبرى المنطوية في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ، وهم الذين يتصلون من ورائها بالمنهج الإلهي الموصل إلى النجاة والخير والصلاح . . فأما الذين يكتفون بظاهر من الحياة الدنيا ، ويصلون إلى أسرار بعض القوى الكونية - بدون هذا الاتصال - فهم يدمرون الحياة ويدمرون أنفسهم بما يصلون إليه من هذه الأسرار ، ويحولون حياتهم إلى جحيم نكد ، وإلى قلق خانق . ثم ينتهون إلى غضب الله وعذابه في نهاية المطاف !
فهما أمران متلازمان ، تعرضهما هذه الصورة التي يرسمها القرآن لأولي الألباب في لحظة الاستقبال والاستجابة والاتصال .
إنها لحظة تمثل صفاء القلب ، وشفافية الروح ، وتفتح الإدراك ، واستعداده للتلقي . كما تمثل الاستجابة والتأثر والانطباع . .
إنها لحظة العبادة . وهي بهذا الوصف لحظة اتصال ، ولحظة استقبال . فلا عجب أن يكون الاستعداد فيها لإدراك الآيات الكونية أكبر ؛ وأن يكون مجرد التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ، ملهما للحقيقة الكامنة فيها ، ولإدراك أنها لم تخلق عبثا ولا باطلا . ومن ثم تكون الحصيلة المباشرة ، للخطة الواصلة .
( ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ! ) . .
ما خلقت هذا الكون ليكون باطلا . ولكن ليكون حقا . الحق قوامه . والحق قانونه . والحق أصيل فيه . إن لهذا الكون حقيقة ، فهو ليس " عدما " كما تقول بعض الفلسفات ! وهو يسير وفق ناموس ، فليس متروكا للفوضى . وهو يمضي لغاية ، فليس متروكا للمصادقة . وهو محكوم في وجوده وفي حركته وفي غايته بالحق لا يتلبس به الباطل .
هذه هي اللمسة الأولى ، التي تمس قلوب ( أولي الألباب ) من التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار بشعور العبادة والذكر والاتصال . وهي اللمسة التي تطبع حسهم بالحق الأصيل في تصميم هذا الكون ، فتطلق ألسنتهم بتسبيح الله وتنزيهه عن أن يخلق هذا الكون باطلا :
ثم وصف تعالى أولي الألباب فقال : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } كما ثبت في صحيح البخاري عن عِمْران بن حُصَين ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " صَلِّ قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لَم تستطع فَعَلَى جَنْبِكَ{[6362]} {[6363]} أي : لا يقطعون ذِكْره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : يفهمون ما فيهما من الحكَم الدالة على عظمة الخالق وقدرته ، وعلمه وحكمته ، واختياره ورحمته .
وقال الشيخ أبو سليمان الداراني : إني لأخرجُ من منزلي ، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عَلَي فيه نِعْمَة ، أوْ لِي فيه عِبْرَة . رواه ابن أبي الدنيا في كتاب " التفكر{[6364]} والاعتبار " .
وعن الحسن البصري أنه قال : تَفَكُّر سَاعَة خير من قيام ليلة . وقال الفُضَيل : قال الحسن : الفكرة مِرْآة تريك حَسنَاتك وسيئاتك . وقال سفيان بن عيينة : الفكرة نور يدخل قلبك . وربما تمثل بهذا البيت :
إذا المرء كانت له فكْرَةٌ *** ففي كل شيء له عبرَة
وعن عيسى ، عليه السلام ، أنه قال : طُوبَى لمن كان قِيلُه تذكّرًا ، وصَمْته تَفكُّرًا ، ونَظَره عبرًا .
وقال لقمان الحكيم : إن طول الوحدة ألْهَمُ للفكرة ، وطولَ الفكْرة دليل على طَرْق باب الجنة .
وقال وهب بن مُنَبِّه : ما طالت فكرة امرِئ قط إلا فهم ، وما{[6365]} فهم امرؤ قط إلا علم ، وما علم امرؤ قط إلا عمل .
وقال عمر بن عبد العزيز : الكلام بذكر الله ، عز وجل ، حَسَن ، والفكرة في نعم الله أفضل العبادة .
وقال مغيث الأسود : زوروا القبور كل يوم تفكركم ، وشاهدوا الموقف بقلوبكم ، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار ، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها ، وكان يبكي عند ذلك حتى يُرْفع صَريعا من بين أصحابه ، قد ذهب عقله .
وقال عبد الله بن المبارك : مَرَّ رجل برَاهبٍ عند مَقْبَرة ومَزْبَلَة ، فناداه فقال : يا راهب ، إن عندك كَنزين من كنوز الدنيا لك فيهما مُعْتَبَر ، كنز الرجال وكنز الأموال .
وعن ابن عمر : أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه ، يأتي الخَرِبة فيقف على بابها ، فينادي بصوت حزين فيقول : أين أهْلُك ؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] .
وعن ابن عباس أنه قال : ركعتان مقتصدتان في تَفكُّر ، خير من قيام ليلة والقلب ساه{[6366]} .
وقال الحسن : يا ابن آدم ، كُلْ في ثلث بطنك ، واشرب في ثلثه ، ودع ثلثه الآخر تتنفَّس للفكرة .
وقال بعض الحكماء : من نظر إلى الدنيا بغير العبرة انطَمَسَ مِنْ بَصَرِ قلبه بقدر تلك الغَفْلَة .
وقال بِشْر بن الحارث الحافي : لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه .
وقال الحسن ، عن عامر بن عبد قيس قال : سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون : إن ضياء الإيمان ، أو نور الإيمان ، التفكر .
وعن عيسى ، عليه السلام ، أنه قال : يا ابن آدم الضعيف ، اتق الله حيثما كنت ، وكُنْ في الدنيا ضَيْفًا ، واتَّخِذِ المساجدَ بيتا ، وعَلِّم عينيك البكاء ، وجَسَدك الصَّبْر ، وقلبك الفِكْر ، ولا تهتم برزق غد .
وعن أمير المؤمنين عُمَرَ بن عبد العزيز ، رضي الله عنه ، أنه بكى يوما بين أصحابه ، فسُئل عن ذلك ، فقال : فَكَّرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها ، فاعتبرت منها بها ، ما تكاد شهواتها تَنْقَضي حتى تكدرها مرارتُها ، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادّكر .
وقال ابن أبي الدنيا : أنشدني الحُسَين بن عبد الرحمن :
نزهَة المؤمن الفكَرْ *** لذّة المؤمن العِبرْ
نحمدُ اللهَ وَحْدَه*** نحْنُ كل عَلَى خَطَرْ
رُبّ لاهٍ وعُمْرُه *** قد تَقَضّى وما شَعَرْ
رُبّ عيش قَدْ كَانَ فو *** ق المُنَى مُونقَ الزَهَرْ
في خَرير{[6367]} من العيُو *** ن وَظل من الشَّجَرْ
وسُرُور من النَّبا *** ت وَطيب منَ الثَمَرْ
غَيَّرَتْه وَأهْلَهُ{[6368]} *** سرعةُ الدّهْر بالغَيرْ
نَحْمَد الله وحده *** إنّ في ذا لمعتبر
إن في ذَا لَعبرةً *** للبيب إن اعْتَبَرْ
وقد ذمّ الله تعالى مَنْ لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته ، فقال : { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ . وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يوسف : 105 ، 106 ] ومدح عباده المؤمنين : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } قائلين { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا } أي : ما خلقت هذا الخلق عَبَثًا ، بل بالحق لتجزي{[6369]} الذين أساؤوا بما عملوا ، وتجزي{[6370]} الذين أحسنوا بالحسنى . ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل فقالوا : { سُبْحَانَكَ } أي : عَنْ أن تخلق شيئا باطلا { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } أي : يا من خَلَق الخلق بالحق والعدل يا من هو مُنزه عن النقائص والعيب والعبث ، قنا من{[6371]} عذاب النار بحولك وقوتك وَقيضْنَا لأعمال ترضى بها عنا ، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم ، وتجيرنا به من عذابك الأليم .
{ الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النّارِ } .
وقوله : { الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياما وَقُعُودا } من نعت «أولي الألباب » ، و«الذين » في موضع خفض ردّا على قوله : «لأولي الألباب » .
ومعنى الاَية : إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لاَيات لأولي الألباب ، الذاكرين الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ، يعني بذلك : قياما في صلاتهم وقعودا في تشهدهم وفي غير صلاتهم وعلى جنوبهم نياما . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياما وَقُعُودا } . . . الاَية ، قال : هو ذكر الله في الصلاة وفي غير الصلاة ، وقراءة القرآن .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { الّذِينَ يَذْكُرُون الله قِياما وَقُعُودا وَعَلى جُنُوبِهِمْ } وهذه حالاتك كلها يا ابن آدم ، فاذكره وأنت على جنبك يسرا من الله وتخفيفا .
فإن قال قائل : وكيف قيل : { وَعَلى جُنُوبِهِمْ } فعطف ب«على » ، وهي صفة على القيام والقعود وهما اسمان ؟ قيل : لأن قوله : { وَعَلى جُنُوبِهِمْ } في معنى الاسم ، ومعناه : ونياما أو مضطجعين على جنوبهم¹ فحسن عطف ذلك على القيام والقعود لذلك المعنى ، كما قيل : { وَإذَا مَسّ الإنْسانَ الضّرّ دَعانا لِجَنْبِهِ أوْ قاعِدا أو قائما } فعطف بقوله : { أوْ قاعِدا أوْ قائما } على قوله : { لِجَنْبِهِ } ، لأن معنى قوله : لجنبه مضطجعا ، فعطف بالقاعد والقائم على معناه ، فكذلك ذلك في قوله : { وَعَلى جُنُوبِهِمْ } .
وأما قوله : { وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّمَواتِ والأرْضِ } فإنه يعني بذلك أنهم يعتبرون بصنعة صانع ذلك ، فيعلمون أنه لا يصنع ذلك إلا من ليس كمثله شيء ، ومن هو مالك كل شيء ورازقه ، وخالق كل شيء ومدبره ، من هو على كل شيء قدير ، وبيده الإغناء والإفقار ، والإعزاز والإذلال ، والإحياء والإماتة ، والشقاء والسعادة .
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبّنا ما خَلَقْتَ هَذَا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذَابِ النّارِ } .
يعني بذلك تعالى ذكره : ويتفكرون في خلق السموات والأرض ، قائلين : { رَبّنا ما خَلَقْتَ هَذَا باطِلاً } فترك ذكر قائلين ، إذ كان فيما ظهر من الكلام دلالة عليه¹ وقوله : { ما خَلَقْتَ هَذَا باطِلاً } يقول : لم تخلق هذا الخلق عبثا ولا لعبا ، لم تخلقه إلا لأمر عظيم من ثواب وعقاب ومحاسبة ومجازاة ، وإنما قال : ما خلقت هذا باطلاً ، ولم يقل : ما خلقت هذه ، ولا هؤلاء ، لأنه أراد بهذا الخلق الذي في السموات والأرض ، يدل على ذلك قوله : { سُبْحانَكَ فَقِنا عَذَابَ النّارِ } ورغبتهم إلى ربهم في أن يقيهم عذاب الجحيم ، ولو كان المعنيّ بقوله : { ما خَلَقْتَ هَذَا باطِلاً } السموات والأرض ، لما كان لقول عقيب ذلك : { فَقِنا عَذَابَ النّارِ } معنى مفهوم ، لأن السموات والأرض أدلة على بارئها ، لا على الثواب والعقاب ، وإنما الدليل على الثواب والعقاب : الأمر والنهي¹ وإنما وصف جل ثناؤه أولي الألباب الذين ذكرهم في هذه الاَية ، أنهم إذا رأوا المأمورين المنهيين ، قالوا : يا ربنا لم تخلق هؤلاء باطلاً عبثا سبحانك ، يعني : تنزيها لك من أن تفعل شيئا عبثا ، ولكنك خلقتهم لعظيم من الأمر ، لجنة أو نار . ثم فزعوا إلى ربهم بالمسألة أن يجيرهم من عذاب النار ، وأن لا يجعلهم ممن عصاه وخالف أمره ، فيكونوا من أهل جهنم .
{ يذكرون الله } إمّا من الذِّكر اللساني وإمّا من الذُّكر القلبي وهو التفكّر ، وأراد بقوله : { قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } عموم الأحوال كقولهم : ضَربه الظهرَ والبطْن ، وقولهم : اشتهر كذا عند أهل الشرق والغرب ، على أنّ هذه الأحوال هي متعارَف أحوال البشر في السلامة ، أي أحوال الشغل والراحة وقصد النوم . وقيل : أراد أحوال المصلّين : من قادر ، وعاجز ، وشديد العجز . وسياق الآية بعيد عن هذا المعنى .
وقوله : { ويتفكرون في خلق السموات والأرض } عطف مرادف إن كان المراد بالذكر فيما سبق التفكّر ، وإعادتُه لأجل اختلاف المتفكَّر فيه ، أو هو عطف مغاير إذا كان المراد من قوله : { يذكرون } ذِكر اللسان . والتفكّر عبادة عظيمة . روى ابن القاسم عن مالك رحمه الله في جامع العتبية قال : قيل لأمّ الدرداء : ما كان شأن أبي الدرداء ؟ قالت : كان أكثر شأنه التفكّر ، قيل له : أترى التفكّر عَمَلاً من الأعمال ؟ قال : نعم ، هو اليقين .
{ والخلق } بمعنى كيفية أثر الخلق ، أو المخلوقات التي في السماء والأرض ، فالإضافة إمّا على معنى اللام ، وإمّا على معنى ( في ) .