تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰٓ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَهُمۡ فَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَأَغۡرَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَاوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ وَسَوۡفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ} (14)

{ 14 ْ } { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ْ }

أي : وكما أخذنا على اليهود العهد والميثاق ، فكذلك أخذنا على { الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ْ } لعيسى ابن مريم ، وزكوا أنفسهم بالإيمان بالله ورسله وما جاءوا به ، فنقضوا العهد ، { فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ْ } نسيانا علميا ، ونسيانا عمليا . { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ْ } أي : سلطنا بعضهم على بعض ، وصار بينهم من الشرور والإحن ما يقتضي بغض بعضهم بعضا ومعاداة بعضهم بعضا إلى يوم القيامة ، وهذا أمر مشاهد ، فإن النصارى لم يزالوا ولا يزالون في بغض وعداوة وشقاق . { وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ْ } فيعاقبهم عليه .

{ 15 ، 16 ْ } { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ْ }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰٓ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَهُمۡ فَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَأَغۡرَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَاوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ وَسَوۡفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ} (14)

كذلك يقص الله - سبحانه - على نبيه [ ص ] وعلى الجماعة المسلمة ، أنه أخذ ميثاق الذين قالوا : إنا نصارى ، من أهل الكتاب . ولكنهم نقضوا ميثاقهم كذلك . فنالهم جزاء هذا النقض للميثاق :

( ومن الذين قالوا : إنا نصارى أخذنا ميثاقهم ؛ فنسوا حظا مما ذكروا به ؛ فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة . وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ) .

ونجد هنا تعبيرا خاصا ذا دلالة خاصة :

( ومن الذين قالوا : إنا نصارى ) . .

ودلالة هذا التعبير : أنهم قالوها دعوى ، ولم يحققوها في حياتهم واقعا . . ولقد كان أساس هذا الميثاق هو توحيد الله . وهنا كانت نقطة الانحراف الأصيلة في خط النصرانية التاريخي . وهذا هو الحظ الذي نسوه مما ذكروا به ؛ ونسيانه هو الذي قاد بعد ذلك إلى كل انحراف . كما أن نسيانه هو الذي نشأ من عنده الخلاف بين الطوائف والمذاهب والفرق ، التي لا تكاد تعد . في القديم وفي الحديث [ كما سنبين إجمالا بعد قليل ] . وبينها ما بينها من العداوة والبغضاء ما يخبرنا الله سبحانه أنه باق فيهم إلى يوم القيامة . . جزاء وفاقا على نقض ميثاقهم معه ، ونسيانهم حظا مما ذكروا به . . ويبقى جزاء الآخرة عندما ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ؛ وعندما يجزيهم وفق ما ينبئهم به مما كانوا يصنعون !

ولقد وقع بين الذين قالوا : إنا نصارى من الخلاف والشقاق والعداوة والبغضاء في التاريخ القديم والحديث مصداق ما قصه الله - سبحانه - في كتابه الصادق الكريم ؛ وسال من دمائهم على أيدي بعضهم البعض ما لم يسل من حروبهم مع غيرهم في التاريخ كله . سواء كان ذلك بسبب الخلافات الدينية حول العقيدة ؛ أو بسبب الخلافات على الرياسة الدينية ؛ أو بسبب الخلافات السياسية والاقتصادية والاجتماعية . وفي خلال القرون الطويلة لم تسكن هذه العداوات والخلافات ولم تخمد هذه الحروب والجراحات . . وهي ماضية إلى يوم القيامة كما قال أصدق القائلين ، جزاء على نقضهم ميثاقهم ، ونسيانهم حظا مما ذكروا به من عهد الله ، وأول بند فيه هو بند التوحيد ، الذي انحرفوا عنه بعد فترة من وفاة المسيح عليه السلام . لأسباب لا مجال هنا لعرضها بالتفصيل

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰٓ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَهُمۡ فَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَأَغۡرَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَاوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ وَسَوۡفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ} (14)

وقوله : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ } أي : ومن الذين ادعوا لأنفسهم أنهم نصارى يتابعون المسيح ابن مريم عليه السلام ، وليسوا كذلك ، أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرسول ومناصرته ومؤازرته واقتفاء آثاره ، والإيمان بكل نبي يرسله الله إلى أهل الأرض ، أي : ففعلوا كما فعل اليهود ، خالفوا المواثيق ونقضوا العهود ؛ ولهذا قال : { فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } أي : فألقينا بينهم العداوة والتباغض لبعضهم بعضا ، ولا يزالون كذلك إلى{[9434]} قيام الساعة . وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين ، يكفر بعضهم بعضا ، ويلعن بعضهم بعضا ؛ فكل فرقة تُحَرم الأخرى ولا تدعها تَلجُ معبدها ، فالملكية تكفر اليعقوبية ، وكذلك الآخرون ، وكذلك النسطورية والآريوسية ، كل طائفة تكفر{[9435]} الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .

ثم قال تعالى : { وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله وعلى رسوله ، وما نسبوه إلى الرب ، عز وجل ، وتعالى وتقدس عن قولهم علوًا كبيرًا ، من جعلهم له صاحبة وولدا ، تعالى الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كُفوًا أحد .


[9434]:في أ: "إلى يوم القيامة وهو".
[9435]:في أ: "تلعن".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰٓ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَهُمۡ فَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَأَغۡرَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَاوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ وَسَوۡفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ} (14)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَمِنَ الّذِينَ قَالُواْ إِنّا نَصَارَىَ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مّمّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } . .

يقول عزّ ذكره : وأخذنا من النصارى الميثاق على طاعتي وأداء فرائضي واتباع رسلي والتصديق بهم ، فسلكوا في ميثاقي الذي أخذته عليهم منهاج الأمة الضالة من اليهود ، فبدّلوا كذلك دينهم ونقضوا نقضهم وتركوا حظهم من ميثاقي الذي أخذته عليهم بالوفاء بعهدي وضيعوا أمري . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَمِنَ الّذِينَ قالُوا إنّا نَصَارَى أخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّا مِمّا ذُكّرُوا بِهِ : نسوا كتاب الله بين أظهرهم ، وعهد الله الذي عهده إليه ، وأمر الله الذي أمرهم به .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : قالت النصارى مثل ما قالت اليهود ، ونسوا حظّا مما ذكّروا به .

القول في تأويل قوله تعالى : فَأغْرَيْنا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ .

يعني تعالى ذكره بقوله : فَأغْرَيْنا بَيْنَهُمْ : حرشنا بينهم وألقينا ، كما نُغزي الشيءَ بالشيء . يقول جلّ ثناؤه : لما ترك هؤلاء النصارى الذين أخذت ميثاقهم بالوفاء بعهدي حظهم ، مما عهدت إليهم من أمري ونهيي ، أغريت بينهم العداوة والبغضاء .

ثم اختلف أهل التأويل في صفة إغراء الله بينهم العداوة والبغضاء ، فقال بعضهم : كان إغراؤه بينهم بالأهواء التي حدثت بينهم . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوّام بن حوشب ، عن إبراهيم النخعي في قوله : فَأغْرَيْنا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ قال : هذه الأهواء المختلفة ، والتباغض فهو الإغراء .

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن العوّام بن حوشب ، قال : سمعت النخعي يقول : فَأغْرَيْنا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ قال : أغرى بعضهم ببعض بخصومات بالجدال في الدين .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني هشيم ، قال : أخبرنا العوّام بن حوشب ، عن إبراهيم النخعي والتيمي ، قوله : فَأغْرَيْنا بَيْنَهُمْ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ قال : ما أرى الإغراء في هذه الاَية إلا الأهواء المختلفة . وقال معاوية بن قرة : الخصومات في الدين تحبط الأعمال .

وقال آخرون : بل ذلك هو العداوة التي بينهم والبغضاء . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَأغْرَيْنا بَيْنَهُمْ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ . . . الاَية . إن القوم لما تركوا كتاب الله ، وعَصَوا رسله ، وضيعوا فرائضه ، وعطلوا حدوده ، ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة بأعمالهم أعمال السوء ، ولو أخذ القوم كتاب الله وأمره ، ما افترقوا ولا تباغضوا .

وأولى التأويلين في ذلك عندنا بالحقّ ، تأويل من قال : أغرى بينهم بالأهواء التي حدثت بينهم ، كما قال إبراهيم النخعي لأن عداوة النصارى بينهم ، إنما هي باختلافهم في قولهم في المسيح ، وذلك أهواء لا وحي من الله .

واختلف أهل التأويل في المعنىّ بالهاء والميم اللتين في قوله : فَأغْرَيْنا بَيْنَهُمُ فقال بعضهم : عني بذلك : اليهود والنصارى . فمعنى الكلام على قولهم وتأويلهم : فأغرينا بين اليهود والنصارى ، لنسيانهم حظّا مما ذكّروا به . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، وقال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قال في النصارى أيضا : فنسوا حظّا مما ذكّروا به ، فلما فعلوا ذلك أغرى الله عزّ وجلّ بينهم وبين اليهود العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : فَأغْرَيْنا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ إلى يَوْمه القيامَةِ قال : هم اليهود والنصارى . قال ابن زيد : كما تغري بين اثنين من البهائم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، ال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : فَأغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ قال : اليهود والنصارى .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : هم اليهود والنصارى ، أغرى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة .

وقال آخرون : بل عنى الله بذلك : النصارى وحدها . وقالوا : معنى ذلك : فأغرينا بين النصارى عقوبة لها بنيسانها حظا مما ذكرت به . قالوا : وعليها عادت الهاء والميم في بينهم دون اليهود . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : إن الله عزّ ذكره تقدّم إلى بني إسرائيل أن لا تشتروا بآيات الله ثمنا قليلاً ، وعلّموا الحكمة ولا تأخذوا عليها أجرا . فلم يفعل ذلك إلا قليل منهم ، فأخذوا الرشوة في الحكم وجاوزوا الحدود ، فقال في اليهود حيث حكموا بغير ما أمر الله : وألْقَيْنا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إلى يَوْمه القِيامَةِ وقال في النصارى : فَنَسُوا حَظّا مِمّا ذُكّرُوا بِهِ فأغْرَيْنا بَيْنَهُمْ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إلى يَوْمَ القِيامةِ .

وأولى التأويلين بالاَية عندي ما قاله الربيع بن أنس ، وهو أن المعنىّ بالإغراء بينهم : النصارى في هذه الاَية خاصة ، وأن الهاء والميم عائدتان على النصارى دون اليهود ، لأن ذكر الإغراء في خبر الله عن النصارى بعد تقضي خبره عن اليهود ، وبعد ابتدائه خبره عن النصارى ، فأن لا يكون ذلك معنيا به إلا النصارى خاصة أولى من أن يكون معنيا به الحزبان جميعا لما ذكرنا .

فإن قال قائل : وما العداوة التي بين النصارى ، فتكون مخصوصة بمعنى ذلك ؟ قيل : ذلك عداوة النّسطورية واليعقوبية والملكية النسطورية واليعقوبية ، وليس الذي قاله من قال معنى بذلك : إغراء الله بين اليهود والنصارى ببعيد ، غير أن هذا أقرب عندي وأشبه بتأويل الاَية لما ذكرنا .

القول في تأويل قوله تعالى : وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ اللّهُ بِمعا كانُوا يَصْنَعُونَ .

يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : اعف عن هؤلاء الذين هموا ببسط أيديهم إليك وإلى أصحابك ، واصفح فإن الله من وراء الانتقام منهم ، وسينبئهم الله عند ورودهم الله عليه في معادهم بما كانوا في الدنيا يصنعون من نقضهم ميثاقه ، ونكثهم عهده ، وتبديلهم كتابه ، وتحريفهم أمره ونهيه ، فيعاقبهم على ذلك حسب استحقاقهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰٓ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَهُمۡ فَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَأَغۡرَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَاوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ وَسَوۡفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ} (14)

{ من } متعلقة { بأخذنا } التقدير : وأخذنا من الذين قالوا إنّا نصارى ميثاقهم ، ويحتمل أن يكون قوله { ومن } معطوف على قوله { خائنة منهم } [ المائدة : 13 ] ، ويكون قوله { أخذنا ميثاقهم } ابتداء خبر عنهم ، والأول أرجح . وعلق كونهم نصارى بقولهم ودعواهم ، من حيث هو اسم شرعي يقتضي نصر دين الله ، وسموا به أنفسهم دون استحقاق ولا مشابهة بين فعلهم وقولهم ، فجاءت هذه العبارة موبخة لهم مزحزحة عن طريق نصر دين الله وأنبيائه ، وقوله تعالى : { فأغرينا بينهم } معناه أثبتناها بينهم وألصقناها ، والإغراء مأخوذ من الغراء الذي يلصق به ، والضمير في { بينهم } يحتمل أن يعود على اليهود والنصارى لأن العداوة بينهم ، موجودة مستمرة ، ويحتمل أن يعود على النصارى فقط لأنها أمة متقاتلة بينها الفتن إلى يوم القيامة ، ثم توعدهم الله تعالى بعقاب الآخرة إذ إنباؤهم بصنعهم إنما هو تقرير وتوبيخ متقدم للعذاب ، إذ صنعهم كفر يوجب الخلود في النار .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰٓ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَهُمۡ فَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَأَغۡرَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَاوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ وَسَوۡفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ} (14)

ذكر بعد ميثاق اليهود ميثاق النصارى . وجاءت الجملة على سبه اشتغال العامل عن المعمول بضميره حيث قُدّم متعلِّق { أخَذْنا ميثاقهم } وفيه اسْم ظاهر ، وجيء بضميره مع العامل للنكتة الداعية للاشتغال من تقرير المتعلِّق وتثبيته في الذهن إذ يتعلّق الحكم باسمه الظاهر وبضميره ، فالتقدير : وأخذنا ، من الذين قالوا : إنّا نصارى ، ميثاقهم ، وليس تقديم المجرور بالحرف لقصد الحصر . وقيل : ضمير { ميثاقهم } عائد إلى اليهود ، والإضافة على معنى التشبيه ، أي من النصارى أخذنا ميثاقَ اليهود ، أي مثلَه ، فهو تشبيه بليغ حذفت الأداة فانتصب المشبّه به . وهذا بعيد ، لأنّ ميثاق اليهود لم يفصّل في الآية السابقة حتّى يشبّه به ميثاق النّصارى .

وعبّر عن النصارى ب { الذين قالوا إنّا نصارى } هُنا وفي قوله الآتي : { ولتجدنّ أقربهم مودّة للّذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى } [ المائدة : 82 ] تسجيلاً عليهم بأنّ اسم دينهم مشير إلى أصل من أصوله ، وهو أن يكون أتباعه أنصاراً لِما يأمر به الله ، { كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاريَ إلى الله قال الحواريّون نحن أنصار الله } [ الصف : 14 ] . ومن جملة ذلك أن ينصروا القائم بالدّين بعْد عيسى من أتباعه ، مثل بُولس وبَطرس وغيرهما من دعاة الهدى ؛ وأعظم من ذلك كلّه أن ينصروا النبيءَ المبشَّر به في التَّوراة والإنجيل الّذي يجيء بعد عيسى قبل منتهى العالم ويخلِّص النّاس من الضلال { وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لَمَا آتيتكم من كتاب وحكمة ثُمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمِنُنّ به ولتَنْصُرُنَّه } [ آل عمران : 81 ] الآية . فجميع أتباع الرسل قد لزمهم ما التزمه أنبياؤهم وبخاصّة النّصارى ، فهذا اللقب ، وهو النصارى ، حجّة عليهم قائمة بهم متلبّسة بجماعتهم كلّها .

ويفيد لفظ { قالوا } بطريق التعريض الكنائي أنّ هذا القول غير موفًّى به وأنّه يجب أن يوفّى به . هذا إذا كان النصارى جمعاً لنَاصرِيّ أو نصْرانِي على معنى النسبة إلى النّصر مبالغة ، كقولهم : شَعْرَاني ، ولِحيَاني ، أي النّاصر الشديد النصر ؛ فإن كان النّصارى اسم جمع ناصريّ ، بمعنى المنسوب إلى الناصري ، والناصري عيسى ، لأنّه ظهر من مدينة الناصرة . فالناصري صفة عرف بها المسيح عليه السّلام في كتب اليهود لأنّه ظهر بدعوة الرسالة من بلد النّاصرة في فلسطين ؛ فلذلك كان معنى النسبة إليه النسبة إلى طريقته وشرعه ؛ فكلّ من حاد عن شرعه لم يكن حقيقاً بالنسبة إليه إلاّ بدعوى كاذبة ، فلذلك قال : { قالوا إنَّا نصارى } . وقيل : إنّ النصارى جمع نصراني ، منسوب إلى النصْر : كما قالوا : شعراني ، ولِحياني ، لأنّهم قالوا : نحن أنصار الله . وعليه فمعنى { قالوا : إنّا نصارى } أنّهم زعموا ذلك بقولهم ولم يؤيّدوه بفعلهم .

وقد أخذ الله على النصارى ميثاقاً على لسان المسيح عليه السّلام . وبعضه مذكور في مواضع من الأناجيل .

وقوله : { فأغرينا بينهم العداوة } حقيقة الإغراء حَثّ أحدٍ على فعل وتحسينُه إليه حتّى لا يتوانى في تحصيله ؛ فاستعير الإغراء لتكوين ملازمة العداوة والبغضاء في نفوسهم ، أي لزومهما لهم فيما بينهم ، شُبّه تكوين العداوة والبغضاء مع استمرارهما فيهم بإغراء أحد أحداً بعمل يعمل تشبيه معقول بمحسوس . ولمّا دلّ الظرف ، وهو { بينَهم } ، على أنّهما أغْرِيَتَا بهم استُغني عن ذكر متعلّق { أغرينا } . وتقدير الكلام : فأغرينا العداوة والبغضاء بِهم كائنتين بينهم . ويُشبه أن يكون العدول على تعدية « أغرينا » بحرف الجرّ إلى تعليقه بالظرف قرينة أو تجريداً لبيان أنّ المراد ب { أغرينا } ألْقينا .

وما وقع في « الكشاف » من تفسير { أغرينا } بمعنى ألصقنا تطوّح عن المقصود إلى رائحة الاشتقاق من الغِرَاءِ ، وهو الدهن الذي يُلْصق الخشب به ، وقد تنوسي هذا المعنى في الاستعمال . والعداوة والضمير المجرور بإضافة بينَ إليه يعود إلى النصارى لتنتسق الضّمائر .

والعداوَة والبغضاءُ اسمان لمعنيين من جنس الكراهية الشديدة ، فهما ضدّان للمحبّة .

وظاهر عطف أحدِ الاسمين على الآخر في مواضع من القرآن ، في هذه الآية وفي الآيتين بعدها في هذه السورة وفي آية سورة الممتحنة ، أنّهما ليسا من الأسماء المترادفة ؛ لأنّ التزام العطف بهذا الترتيب بُبعِّد أن يكون لمجرّد التّأكيد ، فليس عطف أحدهما على الآخر من قبيل عطف المرادف لمجرّد التّأكيد ، كقوله عَدِي :

وألْفَى قَولهَا كَذِبا وَمَيْنا

وقد ترك علماء اللّغة بيان التفرقة بين العداوة والبغضاء ، وتابعهم المفسّرون على ذلك ؛ فلا تجد من تصدّى للفرق بينهما سوى الشيخ ابن عرفة التّونسي ، فقال في « تفسيره » « العداوة أعمّ من البغضاء لأنّ العداوة سبب في البغضاء ؛ فقد يتعادى الأخ مع أخيه ولا يتمادى على ذلك حتّى تنشأ عنه المباغضة ، وقد يتمادى على ذلك » اهـ .

ووقع لأبي البقاء الكفوي في كتاب « الكليّات » أنّه قال : « العداوة أخصّ من البغضاء لأنّ كلّ عدوّ مبغض ، وقد يُبغِض من ليس بعدوّ » . وهو يخالف كلام ابن عرفة . وفي تعليليْهما مصادرة واضحة ، فإن كانت العداوة أعمّ من البغضاء زادتْ فائدةُ العطف لأنّه يصير في معنى الاحتراس ، وإن كانت العداوة أخصّ من البغضاء لم يكن العطف إلاّ للتّأكيد ، لأنّ التأكيد يحصل بذكر لفظ يدلّ على بعْضٍ مُطلقٍ من معنى الموكَّذ ، فيتقرّر المعنى ولو بوجه أعمّ أو أخصّ ، وذلك يحصل به معنى التّأكيد .

وعندي : أنّ كلا الوجهين غير ظاهر ، والذي أرى أنّ بين معنيي العداوة والبغضاء التضادّ والتباين ؛ فالعداوة كراهية تصدر عن صاحبها : معاملةٌ بجفاء ، أو قطيعة ، أو إضرار ، لأنّ العداوة مشتقّة من العدو وهو التجاوز والتباعد ، فإنّ مشتقّات مادة ( ع د و ) كلّها تحوم حول التفرّق وعدم الوئام . وأمّا البغضاء فهي شدّة البغض ، وليس في مادة ( ب غ ض ) إلاّ معنَى جنس الكراهية فلا سبيل إلى معرفة اشتقاق لفظها من مادتها . نعم يمكن أن يرجع فيه إلى طريقة القلب ، وهو من علامات الاشتقاق ، فإنّ مقلوب بَغِض يكون غَضِب لا غير ، فالبغضاء شدّة الكراهية غير مصحوبة بَعَدوْ ، فهي مضمرة في النفس .

فإذا كان كذلك لم يصحّ اجتماع معنيي العداوة والبغضاء في موصوف واحد في وقتٍ واحد فيتعيّن أن يكون إلقاؤهما بينهما على معنى التّوزيع ، أي أغرينا العداوة بين بعض منهم والبغضاءَ بين بعضٍ آخر . فوقع في هذا النظم إيجاز بديع ، لأنّه يرجع إلى الاعتماد على علم المخاطبين بعدم استقامة اجتماع المعنيين في موصوف واحد .

ومن اللّطائف ما ذكره ابن هشام ، في شرح قصيدة كعب بن زهير عند قول كعب :

لكنَّها خُلّة قد سِيط من دَمها *** فَجْع وولْع وإخلاف وتبديل

أنّ الزمخشري قال : إنّه رأى نفسه في النّوم يقول : العداوة مشتقّة من عُدوة الوادي ، أي جانبه ، لأنّ المتعاديين يكون أحدهما مفارقاً للآخر فكأنّ كلّ واحد منهما على عدوة اه . فيكون مشتقّاً من الاسم الجامد وهو بعيد .

وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم كان عقاباً في الدنيا لقوله : { إلى يوم القيامة وسوف ينبّئهم الله بما كانوا يصنعون } جزاء على نكثهم العهد . وأسباب العداوة والبغضاء شدّة الاختلاف : فتكون من اختلافهم في نحَل الدّين بين يعاقبة ، وملكانية ، ونسطورية ، وهراتقة ( بروتستانت ) ؛ وتكون من التحاسد على السلطان ومتاع الدّنيا ، كما كان بين ملوك النّصرانية ، وبينهم وبين رؤساء ديانتهم .

فإن قيل : كيف أغريت بينهم العداوة وهم لم يزالوا إلْبا على المسلمين ؟ فجوابه : أنّ العداوة ثابتة بينهم في الدين بانقسامهم فِرقاً ، كما قدّمناه في سورة النساء ( 171 ) عند قوله تعالى : { وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروح منه } ، وذلك الانقسام يجرّ إليهم العداوة وخذْل بعضهم بعضاً . ثمّ إنّ دولهم كانت منقسمة ومتحاربة ، ولم تزل كذلك ، وإنّما تألّبوا في الحروب الصّليبية على المسلمين ثمّ لم يلبثوا أن تخاذلوا وتحاربوا ، ولا يزال الأمر بينهم كذلك إلى الآن . وكم ضاعت مساعي الساعين في جمعهم على كلمة واحدة وتأليف اتّحاد بينهم ، وكان اختلافهم لطفاً بالمسلمين في مختلف عصور التّاريخ الإسلامي ، على أنّ اتّفاقهم على أمّة أخرى لا ينافي تمكُّن العداوة فيما بينهم ، وكفى بذلك عقاباً لهم على نسيانهم ما ذكّروا به .

وقيل : الضمير عائد على الفريقين ، أي بين اليهود والنصارى ، ولا إشكال في تجسّم العداوة بين الملّتين .

وقوله : { وسوف ينبّئُهم الله } تهديد لأنّ المراد بالإنباء إنباء المؤاخذة بصنيعهم ، كقوله : { فسوف تعلمون } [ الأنعام : 135 ] . وهذا يحتمل أن يحصل في الآخرة فالإنباء على حقيقته ، ويحتمل أن يحصل في الدنيا ، فالأنباء مجاز في تقدير الله لهم حوادث يعرفون بها سوء صنيعتهم .