تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِن كَادُواْ لَيَفۡتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ لِتَفۡتَرِيَ عَلَيۡنَا غَيۡرَهُۥۖ وَإِذٗا لَّٱتَّخَذُوكَ خَلِيلٗا} (73)

{ 73-77 } { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا * وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا }

يذكر تعالى منته على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وحفظه له من أعدائه الحريصين على فتنته بكل طريق ، فقال : { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا } أي : قد كادوا لك أمرًا لم يدركوه ، وتحيلوا لك ، على أن تفتري على الله غير الذي أنزلنا إليك ، فتجيء بما يوافق أهواءهم ، وتدع ما أنزل الله إليك .

{ وَإِذَا } لو فعلت ما يهوون { لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا } أي حبيبًا صفيًا ، أعز عليهم من أحبابهم ، لما جبلك الله عليه من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الآداب ، المحببة للقريب والبعيد ، والصديق والعدو .

ولكن لتعلم أنهم لم يعادوك وينابذوك العداوة ، إلا للحق الذي جئت به لا لذاتك ، كما قال الله تعالى { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِن كَادُواْ لَيَفۡتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ لِتَفۡتَرِيَ عَلَيۡنَا غَيۡرَهُۥۖ وَإِذٗا لَّٱتَّخَذُوكَ خَلِيلٗا} (73)

73

( وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره . وإذا لاتخذوك خليلا . ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا . إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ، ثم لا تجد لك علينا نصيرا . وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ، وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا . سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ) . .

يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسول [ ص ] وأولها محاولة فتنته عما أوحى الله إليه ، ليفتري عليه غيره ، وهو الصادق الأمين .

لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى . . منها مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم . ومنها مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراما كالبيت العتيق الذي حرمه الله . ومنها طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلسا غير مجلس الفقراء . .

والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصلها ، ليذكر فضل الله على الرسول في تثبيته على الحق ، وعصمته من الفتنة ، ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوه خليلا . وللقي عاقبة الركون إلى فتنة المشركين ، وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات ، دون أن يجد له نصيرا منهم يعصمه من الله .

هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله ، هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائما . محاولة إغرائهم لينحرفوا - ولو قليلا - عن استقامة الدعوة وصلابتها . ويرضوا بالحلول الوسط التي يغزونهم بها في مقابل مغانم كثيرة . ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هينا ، فأصحاب السلطان لا يطلبون إليه أن يترك دعوته كلية ، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق . وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة ، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها !

ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق . وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسير ، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل ، لا يملك أن يقف عند ما سلم به أول مرة . لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء !

والمسألة مسألة إيمان بالدعوة كلها . فالذي ينزل عن جزء منها مهما صغر ، والذي يسكت عن طرف منها مهما ضؤل ، لا يمكن أن يكون مؤمنا بدعوته حق الإيمان . فكل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر . وليس فيها فاضل ومفضول . وليس فيها ضروري ونافلة . وليس فيها ما يمكن الاستغناء عنه ، وهي كل متكامل يفقد خصائصه كلها حين يفقد أحد أجزائه . كالمركب يفقد خواصه كلها إذا فقد أحد عناصره !

وأصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات . فإذا سلموا في الجزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم ، وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة ، وارتفاع السعر ينتهيان إلى تسليم الصفقة كلها !

والتسليم في جانب ولو ضئيل من جوانب الدعوة لكسب أصحاب السلطان إلى صفها ؛ هو هزيمة روحية بالاعتماد على أصحاب السلطان في نصرة الدعوة . والله وحده هو الذي يعتمد عليه المؤمنون بدعوتهم . ومتى دبت الهزيمة في أعماق السريرة ، فلن تنقلب الهزيمة نصرا !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِن كَادُواْ لَيَفۡتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ لِتَفۡتَرِيَ عَلَيۡنَا غَيۡرَهُۥۖ وَإِذٗا لَّٱتَّخَذُوكَ خَلِيلٗا} (73)

يخبر تعالى عن تأييد{[17693]} رسوله ، صلوات الله عليه وسلامه{[17694]} ، وتثبيته ، وعصمته وسلامته من شر الأشرار وكيد الفجار ، وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره ، وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه ، بل هو وليه وحافظه وناصره ومؤيده ومظفره ، ومظهر{[17695]} دينه على من عاداه وخالفه وناوأه ، في مشارق الأرض ومغاربها ، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرًا إلى يوم الدين .


[17693]:في ف: "تأييده".
[17694]:في ت: "صلوات الله وسلامه عليه".
[17695]:في ت: "فيظهر".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِن كَادُواْ لَيَفۡتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ لِتَفۡتَرِيَ عَلَيۡنَا غَيۡرَهُۥۖ وَإِذٗا لَّٱتَّخَذُوكَ خَلِيلٗا} (73)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاّتّخَذُوكَ خَلِيلاً } .

اختلف أهل التأويل في الفتنة التي كاد المشركون أن يفتنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بها عن الذي أوحى الله إليه إلى غيره فقال بعضهم : ذلك الإلمام بالاَلهة ، لأن المشركين دعوه إلى ذلك ، فهمّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القُمّي ، من جعفر ، عن سعيد ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود ، فمنعته قريش ، وقالوا : لا نَدَعُه حتى يلم بآلهتنا ، فحدّث نفسه ، وقال : «ما عَلَيّ أنْ أُلمّ بِها بَعْدَ أنْ يَدَعُونِي أسْتَلِمُ الحَجَرَ ، وَاللّهُ يَعْلَمُ أنّي لَهَا كارِهٌ » ، فَأَبَى الله ، فَأنْزَلَ اللّهُ : وإنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الّذِي أَوْحَيْنا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غيرَهُ الاَية .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلَوْلا أنْ ثَبّتْناكَ لَقَدْ كدْتَ تَرْكَن إلَيْهِمْ شَيْئا قَلِيلاً ذكر لنا أن قريشا خلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخمونه ويسودونه ويقاربونه ، وكان في قولهم أن قالوا : إنك تأتي بشيء لا يأتي به أحد من الناس ، وأنت سيدنا وابن سيدنا ، فما زالوا يكلّمونه حتى كاد أن يقارفهم ثم منعه الله وعصمه من ذلك ، فقال : وَلَوْلا أنْ ثَبّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئا قَلِيلاً .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غيرَهُ قال : أطافوا به ليلة ، فقالوا : أنت سيدنا وابن سيدنا ، فأرادوه على بعض ما يريدون فهمّ أن يقارفَهُمْ في بعض ما يريدون ، ثم عصمه الله ، فذلك قوله : لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئا قَلِيلاً الذي أرادوا فهمّ أن يقارفهم فيه .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : قالوا له : ائت آلهتنا فامْسَسْها ، فذلك قوله : شَيْئا قليلاً .

وقال آخرون : إنما كان ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم همّ أن يُنِظر قوما بإسلامهم إلى مدة سألوه الإنظار إليها . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَإنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَن الّذي أوْحَيْنا إلَيْكَ لِتَفْتَري عَلَيْنا غيرَهُ وإذا لاتّخَذوكَ خَلِيلاً وذلك أن ثقيفا كانوا قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : يا رسول لله أَجّلنا سنة حتى يُهْدَى لاَلهتنا ، فإذا قبضنا الذي يُهْدى لاَلهتنا أخذناه ، ثم أسلمنا وكسرنا الاَلهة ، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ، وأن يؤجّلهم ، فقال الله : وَلَوْلا أنْ ثَبّتْناكَ لَقَدْ كَدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئا قَلِيلاً .

والصواب من

القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، أن المشركين كادوا أن يفتنوه عما أوحاه الله إليه ليعمل بغيره ، وذلك هو الافتراء على الله وجائز أن يكون ذلك كان ما ذكر عنهم من ذكر أنهم دعوه أن يمسّ آلهتهم ، ويلمّ بها ، وجائز أن يكون كان ذلك ما ذُكر عن ابن عباس من أمر ثقيف ، ومسألتهم إياه ما سألواه مما ذكرنا وجائز أن يكون غير ذلك ، ولا بيان في الكتاب ولا في خبر يقطع العذر أيّ ذلك كان ، والاختلاف فيه موجود على ما ذكرنا ، فلا شيء فيه أصوب من الإيمان بظاهره ، حتى يأتي خبر يجب التسليم له ببيان ما عُنِي بذلك منه .

وقوله : وَإذا لاتّخَذُوكَ خَلِيلاً يقول تعالى ذكره : ولو فعلت ما دَعَوْك إليه من الفتنة عن الذي أوحينا إليك لاتخذوك إذا لأنفسهم خليلاً ، وكنت لهم وكانوا لك أولياء .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِن كَادُواْ لَيَفۡتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ لِتَفۡتَرِيَ عَلَيۡنَا غَيۡرَهُۥۖ وَإِذٗا لَّٱتَّخَذُوكَ خَلِيلٗا} (73)

وقوله { وإن كادوا ليفتنونك } الآية ، { إن } هذه عند سيبويه هي المخففة من الثقيلة ، واللام في قوله { ليفتنونك } لام تأكيد ، و { إن } هذه عند الفراء بمعنى ما ، واللام بمعنى إلا والضمير في قوله { كادوا } قيل هو لقريش وقيل لثقيف ، فأما لقريش ، فقال ابن جبير ومجاهد : نزلت الآية لأنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ندعك تستلم الحجر الأسود حى تمس أيضاً أوثاننا على معنى التشرع بذلك ، قال الطبري وغيره : فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يظهر لهم ذلك ، وقلبه منكر فنزلت الآية في ذلك قال الزجاج : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه «وما علي أن أفعل لهم ذلك والله تعالى يعلم ما في نفسي » وقال ، ابن إسحاق وغيره ، إنهم اجتمعوا إليه ليلة فعظموه ، وقالوا له : أنت سيدنا ولكن أقبل على بعض أمرنا ونقبل على بعض أمرك ، فنزلت الآية في ذلك فهي في معنى قوله تعالى :

{ ودّوا لو تدهن فيدهنون }{[7647]} . وحكى الزجاج أن الآية قيل إنها فيما أرادوه من طرد فقراء أصحابه ، وأما لثقيف ، فقال ابن عباس وغيره : لأنهم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخرهم بعد إسلامهم سنة يعبدون فيها اللات ، وقالوا إنا نريد أن نأخذ ما يهدى لنا ، ولكن إن خفت أن تنكر ذلك عليك العرب ، فقل : أوحى الله ذلك إلي ، فنزلت الآية في ذلك ، ويلزم قائل هذا القول أن يجعل الآية مدنية ، وقد روي ذلك ، وروى قائلو الأقوال الأخر أنها مكية .

قال القاضي أبو محمد : وجميع ما أريد من النبي صلى الله عليه وسلم بحسب هذا الاختلاف قد أوحى الله إليه خلافه ، إما في معجز وإما في غير معجز ، وفعله هو أن لو وقع افتراء على الله إذ أفعاله وأقواله إنما هي كلها شرع . وقوله { وإذاً لاتخذوك خليلاً } توقيف على ما نجاه الله منه من مخالفة الكفار والولاية لهم .


[7647]:الآية (9) من سورة (القلم).