ثم قال تعالى : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
أي : الأزواج الذين يموتون ويتركون خلفهم أزواجا فعليهم أن يوصوا { وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج } أي : يوصون أن يلزمن بيوتهم مدة سنة لا يخرجن منها { فإن خرجن } من أنفسهن { فلا جناح عليكم } أيها الأولياء { فيما فعلن في أنفسهم من معروف والله عزيز حكيم } أي : من مراجعة الزينة والطيب ونحو ذلك وأكثر المفسرين أن هذه الآية منسوخة بما قبلها وهي قوله : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وقيل لم تنسخها بل الآية الأولى دلت على أن أربعة أشهر وعشر واجبة ، وما زاد على ذلك فهي مستحبة ينبغي فعلها تكميلا لحق الزوج ، ومراعاة للزوجة ، والدليل على أن ذلك مستحب أنه هنا نفى الجناح عن الأولياء إن خرجن قبل تكميل الحول ، فلو كان لزوم المسكن واجبا لم ينف الحرج عنهم .
وتؤدي هذه اللمسة دورها في مجال الحديث عن أحكام الزواج والطلاق ؛ وفي تقرير التصور الإسلامي لقاعدة الإسلام الكبرى . وهي العبادة ممثلة في كل طاعة . ثم يعود السياق إلى ختام الأحكام :
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا : وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج . فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم . وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين . . كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون . .
والآية الأولى تقرر حق المتوفى عنها زوجها في وصية منه تسمح لها بالبقاء في بيته والعيش من ماله ، مدة حول كامل ، لا تخرج ولا تتزوج إن رأت من مشاعرها أو من الملابسات المحيطة بها ما يدعوها إلى البقاء . . وذلك مع حريتها في أن تخرج بعد أربعة أشهر وعشر ليال كالذي قررته آية سابقة . فالعدة فريضة عليها . والبقاء حولا حق لها . . وبعضهم يرى أن هذه الآية منسوخة بتلك . ولا ضرورة لافتراض النسخ ، لاختلاف الجهة كما رأينا . فهذه تقرر حقا لها إن شاءت استعملته . وتلك تقرر حقا عليها لا مفر منه :
( فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف ) . .
وكلمة ( عليكم ) توحي بمعنى الجماعة المتضامنة المسؤولة عن كل ما يقع فيها . فالجماعة هي التي يناط بها أمر هذه العقيدة وأمر هذه الشريعة وأمر كل فرد وكل فعل في محيطها . وهي التي يكون عليها جناح فيما يفعل أفرادها أو لا يكون . . ولهذا الإيحاء قيمته في إدراك حقيقة الجماعة المسلمة وتبعاتها ، وفي ضرورة قيام هذه الجماعة لتقوم على شريعة الله وتحرسها من خروج أي فرد عليها . فهي المسؤولة في النهاية عن الأفراد في الصغيرة والكبيرة . والخطاب يوجه إليها بهذه الصفة لتقرير هذه الحقيقة في حسها وفي حس كل فرد فيها . . والتعقيب :
للفت القلوب إلى قوة الله . وحكمته فيما يفرض وما يوجه . وفيه معنى التهديد والتحذير . .
قال الأكثرون : هذه الآية منسوخة بالتي قبلها وهي قوله : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا }
قال البخاري : حدثنا أمية حدثنا يزيد بن زُرَيع عن حبيب عن ابن أبي مُلَيْكة ، قال ابن الزبير : قلت لعثمان بن عفان : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا } قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها - أو تدعها ؟ قال : يا ابن أخي لا أغير شيئاً منه من مكانه{[4179]} .
ومعنى هذا الإشكال الذي قاله ابن الزبير لعثمان : إذا كان حكمها قد نسخ بالأربعة الأشهر فما الحكمة في إبقاء رسمها مع زوال حكمها ، وبقاء رسمها بعد التي نسختها يوهم بقاء حكمها ؟ فأجابه أمير المؤمنين بأن هذا أمر توقيفي ، وأنا وجدتها مثبتة في المصحف كذلك بعدها فأثبتها حيث وجدتها .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس في قوله : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ } فكان للمتوفى عنها زوجها نفقتها وسكناها في الدار سنة ، فنسختها آية المواريث فجعل لهن الربع أو الثمن مما ترك الزوج . ثم قال : وروي عن أبي موسى الأشعري ، وابن الزبير ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك وزيد بن أسلم والسدي ومقاتل بن حيان ، وعطاء الخراساني والربيع بن أنس : أنها منسوخة .
وروي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : كان الرجل إذا مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله ثم أنزل الله بعد : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا }
فهذه عدة المتوفي عنها زوجها إلا أن تكون حاملا فعدتها أن تضع ما في بطنها وقال : { وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ [ مِمَّا تَرَكْتُمْ ] {[4180]} } [ النساء : 12 ] فبين ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة .
قال : وروي عن مجاهد والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل بن حيان ، قالوا : نسختها { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا }
قال : وروي عن سعيد بن المسيب قال : نسختها التي في الأحزاب : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ]{[4181]} } [ الأحزاب : 49 ] .
قلت : وروي عن [ مقاتل و ]{[4182]} قتادة : أنها منسوخة بآية الميراث .
وقال البخاري : حدثنا إسحاق بن راهويه ، حدثنا روح حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا } قال : كانت هذه العدة ، تعتد عند أهل زوجها واجب فأنزل الله : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ } قال : جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية إن شاءت سكنت في وصيتها ، وإن شاءت خرجت وهو قول الله : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } فالعدة كما هي واجب عليها زعم ذلك عن مجاهد : رحمه الله . وقال عطاء : وقال ابن عباس : نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها فتعتد حيث شاءت وهو قول الله تعالى : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } قال عطاء : إن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في وصيتها ، وإن شاءت خرجت لقول الله : { فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ [ فِي أَنْفُسِهِنَّ ]{[4183]} } قال عطاء : ثم جاء الميراث فنسخ السكنى ، فتعتد حيث شاءت ولا سكنى لها ثم أسند البخاري عن ابن عباس مثل ما تقدم عنه{[4184]} .
فهذا القول الذي عول عليه مجاهد وعطاء من أن هذه الآية لم تدل على وجوب الاعتداد سنة كما زعمه الجمهور حتى يكون ذلك منسوخاً بالأربعة الأشهر{[4185]} وعشرا ، وإنما دلت على أن ذلك كان من باب الوصاة بالزوجات أن يمكنَّ من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولا كاملا إن اخترن ذلك ولهذا قال : { وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ } أي : يوصيكم الله بهن وصية كقوله : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ } الآية [ النساء : 11 ] وقال : { وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ } [ النساء : 12 ] وقيل : إنما انتصب على معنى : فلتوصوا بهن وصية . وقرأ آخرون بالرفع " وَصِيَّةٌ " على معنى : كتب عليكم وصية واختارها ابن جرير ولا يمنعن من ذلك لقوله : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } فأما إذا انقضت عدتهن بالأربعة الأشهر والعشر أو بوضع الحمل ، واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله { فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ } وهذا القول له اتجاه ، وفي اللفظ مساعدة له ، وقد اختاره جماعة منهم : الإمام أبو العباس بن تيمية{[4186]} ورده آخرون منهم : الشيخ أبو عمر بن عبد البر .
وقول عطاء ومن تابعه على أن ذلك منسوخ بآية الميراث إن أرادوا ما زاد على الأربعة أشهر والعشر فمسلم ، وإن أرادوا أن سكنى الأربعة الأشهر وعشر{[4187]} لا تجب في تركة الميت فهذا محل خلاف بين الأئمة ، وهما قولان للشافعي رحمه الله ، وقد استدلوا على وجوب السكنى في منزل الزوج بما رواه مالك في موطئه عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرَة ، عن عمته زينب بنت كعب بن عُجْرَة : أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أخبرتها : أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خُدرة ، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا ، حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه . قالت : فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي في بني خُدرة فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم " قالت : فانصرفت ، حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو أمر بي فنوديت له - فقال : " كيف قلت ؟ " فرددت عليه القصة التي ذكرت{[4188]} له من شأن زوجي . فقال : " امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله " قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا . قالت : فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته ، فاتبعه وقضى به{[4189]} .
وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث مالك به{[4190]} ، ورواه النسائي أيضاً وابن ماجه من طرق عن سعد بن إسحاق به{[4191]} ، وقال الترمذي : حسن صحيح .
القول في تأويل قوله ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : " والذين يتوفون منكم " ، أيها الرجال ويذرون أزواجا يعني زوجات كن له نساء في حياته ، بنكاح لا ملك يمين . ثم صرف الخبر عن ذكر من ابتدأ الخبر بذكره ، نظير الذي مضى من ذلك في قوله : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ) إلى الخبر عن ذكر أزواجهم . وقد ذكرنا وجه ذلك ، ودللنا على صحة القول فيه في نظيره الذي قد تقدم قبله ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
ثم قال تعالى ذكره : " وصية لأزواجهم " ، فاختلفت القرأة في قراءة ذلك : فقرأ بعضهم : " وصية لأزواجهم " ، بنصب " الوصية " ، بمعنى : فليوصوا وصية لأزواجهم ، أو : عليهم [ أن يوصوا ] وصية لأزواجهم .
و قرأ آخرون : ( وَصِيِّةٌ لأزْوَاجِهِمْ ) برفع " الوصية " . ثم اختلف أهل العربية في وجه رفع " الوصية " . فقال بعضهم : رفعت بمعنى : كتبت عليهم الوصية . واعتل في ذلك بأنها كذلك في قراءة عبد الله . فتأويل الكلام على ما قاله هذا القائل : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا ، كتبت عليهم وصية لأزواجهم- ثم ترك ذكر " كتبت " ، ورفعت " الوصية " بذلك المعنى ، وإن كان متروكا ذكره .
وقال آخرون منهم : بل " الوصية " مرفوعة بقوله : " لأزواجهم " فتأول : لأزواجهم وصية .
والقول الأول أولى بالصواب في ذلك ، وهو أن تكون " الوصية " إذا رفعت مرفوعة بمعنى : كتبت عليكم وصية لأزواجكم . لأن العرب تضمر النكرات مرافعها قبلها إذا أضمرت ، فإذا أظهرت بدأت به قبلها ، فتقول : " جاءني رجل اليوم " ، وإذا قالوا : " رجل جاءني اليوم " لم يكادوا أن يقولونه إلا والرجل حاضر يشيرون إليه ب " هذا " ، أو غائب قد علم المخبر عنه خبره ، أو بحذف " هذا " وإضماره وإن حذفوه ، لمعرفة السامع بمعنى المتكلم ، كما قال الله تعالى ذكره : ( سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا ) و ( بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) ، فكذلك ذلك في قوله : " وصية لأزواجهم " .
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا قراءة من قرأه رفعا ، لدلالة ظاهر القرآن على أن مقام المتوفى عنها زوجها في بيت زوجها المتوفى حولا كاملا كان حقا لها قبل نزول قوله : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ) ، وقبل نزول آية الميراث ، ولتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي دل عليه الظاهر من ذلك ، أوصى لهن أزواجهن بذلك قبل وفاتهن ، أو لم يوصوا لهن به .
فإن قال قائل : وما الدلالة على ذلك ؟ قيل : لما قال الله تعالى ذكره : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم " ، وكان الموصي لا شك ، إنما يوصي في حياته بما يأمر بإنفاذه بعد وفاته ، وكان محالا أن يوصي بعد وفاته ، كان تعالى ذكره إنما جعل لامرأة الميت سكن الحول بعد وفاته ، علمنا أنه حق لها وجب في ماله بغير وصية منه لها ، إذ كان الميت مستحيلا أن يكون منه وصية بعد وفاته .
ولو كان معنى الكلام على ما تأوله من قال : " فليوص وصية " ، لكان التنزيل : والذين تحضرهم الوفاة ويذرون أزواجا ، وصية لأزواجهم ، كما قال : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّة . ُ
وبعدُ ، فلو كان ذلك واجبًا لهن بوصية من أزواجهن المتوفّين ، لم يكن ذلك حقًّا لهن إذا لم يوص أزواجهن لهن قبل وفاتهم ، ولكان قد كان لورثتهم إخراجهن قبل الحول ، وقد قال الله تعالى ذكره : " غير إخراج " . ولكن الأمر في ذلك بخلاف ما ظنه في تأويله قارئُه : " وصيةً لأزواجهم " ، بمعنى : أن الله تعالى كان أمر أزواجهن بالوصية لهنّ . وإنما تأويل ذلك : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا ، كتب الله لأزواجهم عليكم وصية منه لهن أيها المؤمنون- أن لا تخرجوهن من منازل أزواجهن حولا كما قال تعالى ذكره في " سورة النساء ( غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ ) ، ثم ترك ذكر : " كتب الله " ، اكتفاء بدلالة الكلام عليه ، ورفعت " الوصية " بالمعنى الذي قلنا قبل .
فإن قال قائل : فهل يجوز نصب " الوصية " [ على الحال ، بمعتى موصين ] لهن وصية ؟
قيل : لا لأن ذلك إنما كان يكون جائزا لو تقدم " الوصية " من الكلام ما يصلح أن تكون الوصية خارجة منه ، فأما ولم يتقدمه ما يحسن أن تكون منصوبة بخروجها منه ، فغير جائز نصبها بذلك المعنى .
ذكر بعض من قال : إن سكنى حول كامل كان حقا لأزواج المتوفين بعد موتهم على ما قلنا أوصى بذلك أزواجهن لهن أو لم يوصوا لهن به ، وأن ذلك نسخ بما ذكرنا من الأربعة الأشهر والعشر والميراث .
5572- حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن منهال قال ، حدثنا همام بن يحيى قال : سألت قتادة عن قوله : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج " ، فقال : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها كان لها السكنى والنفقة حولا في مال زوجها ، ما لم تخرج . ثم نسخ ذلك بعد في " سورة النساء " ، فجعل لها فريضة معلومة : الثمن إن كان له ولد ، والربع إن لم يكن له ولد ، وعدتها أربعة أشهر وعشرا ، فقال تعالى ذكره : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر الحول .
5573- حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج " الآية ، قال : كان هذا من قبل أن تنزل آية الميراث ، فكانت المرأة إذا توفي عنها زوجها كان لها السكنى والنفقة حولا إن شاءت ، فنسخ ذلك في " سورة النساء " ، فجعل لها فريضة معلومة : جعل لها الثمن إن كان له ولد ، وإن لم يكن له ولد فلها الربع ، وجعل عدتها أربعة أشهر وعشر ، فقال : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا .
5574- حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج " ، فكان الرجل إذا مات وترك امرأته ، اعتدت سنة في بيته ، ينفق عليها من ماله ، ثم أنزل الله تعالى ذكره بعد : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ، فهذه عدة المتوفى عنها زوجها . إلا أن تكون حاملا فعدتها أن تضع ما في بطنها . وقال في ميراثها : وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ ، فبين الله ميراث المرأة ، وترك الوصية والنفقة .
5575- حدثنا عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ قال ، سمعت عبيد الله بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج " ، كان الرجل إذا توفي أنفق على امرأته في عامه إلى الحول ، ولا تزوج حتى تستكمل الحول . وهذا منسوخ : نسخ النفقة عليها الربع والثمن من الميراث ، ونسخ الحول أربعة أشهر وعشر .
5576- حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصيه لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج " ، قال : الرجل إذا توفي أنفق على امرأته إلى الحول ، ولا تزوج حتى يمضي الحول ، فأنزل الله تعالى ذكره : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ، فنسخ الأجل الحول ، ونسخ النفقة الميراث الربع والثمن .
5577- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : سألت عطاء عن قوله : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج " ، قال : كان ميراث المرأة من زوجها من ربعه : أن تسكن إن شاءت من يوم يموت زوجها إلى الحول ، يقول : فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ الآية ، ثم نسخها ما فرض الله من الميراث قال ، وقال مجاهد : " وصية لأزواجهم " سكنى الحول ، ثم نسخ هذه الآية الميراث .
5578- حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : كان لأزواج الموتى حين كانت الوصية ، نفقة سنة . فنسخ الله ذلك الذي كتب للزوجة من نفقة السنة بالميراث ، فجعل لها الربع أو الثمن وفي قوله : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ، قال : هذه الناسخة .
ذكر من قال : كان ذلك يكون لهن بوصية من أزواجهن لهن به :
5579- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا " الآية ، قال : كانت هذه من قبل الفرائض ، فكان الرجل يوصي لامرأته ولمن شاء . ثم نسخ ذلك بعد ، فألحق الله تعالى بأهل المواريث ميراثهم ، وجعل للمرأة إن كان له ولد الثمن ، وإن لم يكن له ولد فلها الربع . وكان ينفق على المرأة حولا من مال زوجها ، ثم تحول من بيته . فنسخته العدة أربعة أشهر وعشرا ، ونسخ الربع أو الثمن الوصية لهن ، فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون .
5580- حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم " ، إلى فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ ، يوم نزلت هذه الآية ، كان الرجل إذا مات أوصى لامرأته بنفقتها وسكناها سنة ، وكانت عدتها
أربعة أشهر وعشرا ، فإن هي خرجت حين تنقضي أربعة أشهر وعشرا ، انقطعت عنها النفقة ، فذلك قوله : فَإِنْ خَرَجْنَ ، وهذا قبل أن تنزل آية الفرائض ، فنسخه الربع والثمن ، فأخذت نصيبها ، ولم يكن لها سكنى ولا نفقة .
5581- حدثني أحمد بن المقدام قال ، حدثنا المعتمر قال ، سمعت أبي قال ، يزعم قتادة أنه كان يوصى للمرأة بنفقتها إلى رأس الحول .
ذكر من قال : " نسخ ذلك ما كان لهن من المتاع إلى الحول ، من غير تبيينه على أي وجه كان ذلك لهن " :
5582- حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن إبراهيم في قوله : الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصيه لأزواجهم متاعا إلى الحول ، قال : هي منسوخة .
5583- حدثنا الحسن بن الزبرقان قال ، حدثنا أسامة ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت قال : سمعت إبراهيم يقول ، فذكر نحوه .
5584- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح ، عن حصين ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري قالا " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج " ، نسخ ذلك بآية الميراث وما فرض لهن فيها من الربع والثمن ، ونسخ أجل الحول أن جعل أجلها أربعة أشهر وعشرا .
5585- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن ابن سيرين ، عن ابن عباس : أنه قام يخطب الناس ها هنا ، فقرأ لهم سورة البقرة ، فبين لهم فيها ، فأتى على هذه الآية : إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ، قال : فنسخت هذه . ثم قرأ حتى أتى على هذه الآية : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا " إلى قوله : ( غَيْرَ إِخْرَاجٍ ) ، فقال : وهذه .
وقال آخرون : هذه الآية ثابتة الحكم ، لم ينسخ منها شيء . ذكر من قال ذلك :
5586- حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ، قال : كانت هذه للمعتدة ، تعتد عند أهل زوجها ، واجبا ذلك عليها ، فأنزل الله : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج " ، إلى قوله : مِنْ مَعْرُوفٍ . قال : جعل الله لهم تمام السنة ، سبعة أشهر وعشرين ليلة ، وصية : إن شاءت سكنت في وصيتها ، وإن شاءت خرجت ، وهو قول الله تعالى ذكره : ( غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ) ، قال : والعدة كما هي واجبة .
5587- حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
5588- حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى وحدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، عن ابن عباس أنه قال : نسخت هذه الآية عدتها عند أهله ، تعتد حيث شاءت ، وهو قول الله : ( غَيْرَ إِخْرَاجٍ ) . قال عطاء : إن شاءت اعتدت عند أهله وسكنت في وصيتها ، وإن شاءت خرجت ، لقول الله تعالى ذكره : فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ قال عطاء : جاء الميراث بنسخ السكنى ، تعتد حيث شاءت ولا سكنى لها .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره كان جعل لأزواج من مات من الرجال بعد موتهم ، سكنى حول في منزله ، ونفقتها في مال زوجها الميت إلى انقضاء السنة ، ووجب على ورثة الميت أن لا يخرجوهن قبل تمام الحول من المسكن الذي يسكنه ، وإن هن تركن حقهن من ذلك وخرجن ، لم تكن ورثة الميت من خروجهن في حرج . ثم إن الله تعالى ذكره نسخ النفقة بآية الميراث ، وأبطل مما كان جعل لهن من سكنى حول سبعة أشهر وعشرين ليلة ، وردهن إلى أربعة أشهر وعشر ، على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم .
5589- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا حجاج قال ، أخبرنا حيوة بن شريح ، عن ابن عجلان ، عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، وأخبره عن عمته زينب ابنة كعب بن عجرة ، عن فريعة أخت أبي سعيد الخدري : أن زوجها خرج في طلب عبد له ، فلحقه بمكان قريب فقاتله ، وأعانه عليه أعبد معه فقتلوه ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن زوجها خرج في طلب عبد له ، فلقيه علوج فقتلوه ، وإني في مكان ليس فيه أحد غيري ، وإن أجمع لأمري أن أنتقل إلى أهلي ! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل امكثي مكانك حتى يبلغ الكتاب أجله .
وأما قوله : " متاعا " ، فإن معناه : جعل ذلك لهن متاعا ، أي الوصية التي كتبها الله لهن .
وإنما نصب " المتاع " ، لأن في قوله : " وصية لأزواجهم " ، معنى متعهن الله ، فقيل : " متاعا " ، مصدرا من معناه لا من لفظه .
وقوله : ( غَيْرَ إِخْرَاجٍ ) ، فإن معناه أن الله تعالى ذكره جعل ما جعل لهن من الوصية متاعا منه لهن إلى الحول ، لا إخراجا من مسكن زوجها يعني : لا إخراج فيه منه حتى ينقضي الحول . فنصب " غير " على النعت ل " لمتاع " ، كقول القائل : " هذا قيام غير قعود " ، بمعنى : هذا قيام لا قعود معه ، أو : لا قعود فيه .
وقد زعم بعضهم أنه منصوب بمعنى : لا تخرجوهن إخراجا ، وذلك خطأ من القول . لأن ذلك إذا نصب على هذا التأويل ، كان نصبه من كلام آخر غير الأول ، وإنما هو منصوب بما نصب " المتاع " على النعت له .
القول في تأويل قوله : فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : أن المتاع الذي جعله الله لهن إلى الحول في مال أزواجهن بعد وفاتهم وفي مساكنهم ، ونهى ورثته عن إخراجهن ، إنما هو لهن ما أقمن في مساكن أزواجهن ، وأن حقوقهن من ذلك تبطل بخروجهن إن خرجن من منازل أزواجهن قبل الحول من قبل أنفسهن ، بغير إخراج من ورثة الميت .
ثم أخبر تعالى ذكره أنه لا حرج على أولياء الميت في خروجهن وتركهن الحداد على أزواجهن . لأن المقام حولا في بيوت أزواجهن والحداد عليه تمام حول كامل ، لم يكن فرضا عليهن ، وإنما كان ذلك إباحة من الله تعالى ذكره لهن إن أقمن تمام الحول محدات . فأما إن خرجن فلا جناح على أولياء الميت ولا عليهن فيما فعلن في أنفسهن من معروف ، وذلك ترك الحداد . يقول : فلا حرج عليكم في التزين إن تزينّ وتطيبن وتزوجن ، لأن ذلك لهن .
وإنما قلنا : " لا حرج عليهنّ في خروجهن " ، وإن كان إنما قال تعالى ذكره : " فلا جناح عليكم " ، لأن ذلك لو كان عليهن فيه جناح ، لكان على أولياء الرجل فيه جناح بتركهم إياهن والخروج ، مع قدرتهم على منعهنّ من ذلك . ولكن لما لم يكن عليهن جناح في خروجهن وترك الحداد ، وضع عن أولياء الميت وغيرهم الحرج فيما فعلن من معروف ، وذلك في أنفسهن .
وقد مضت الرواية عن أهل التأويل بما قلناه في ذلك قبل .
وأما قوله : ( وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ، فإنه يعني تعالى ذكره : " والله عزيز " ، في انتقامه ممن خالف أمره ونهيه وتعدى حدوده من الرجال والنساء ، فمنع من كان من الرجال نساءهم وأزواجهم ما فرض لهن عليهم في الآيات التي مضت قبل : من المتعة والصداق والوصية ، وإخراجهن قبل انقضاء الحول ، وترك المحافظة على الصلوات وأوقاتها ، ومنع من كان من النساء ما ألزمهن الله من التربص عند وفاة أزواجهن عن الأزواج ، وخالف أمره في المحافظة على أوقات الصلوات " حكيم " ، فيما قضى بين عباده من قضاياه التي قد تقدمت في الآيات قبل قوله : ( وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ، وفي غير ذلك من أحكامه وأقضيته .
{ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم } قرأها بالنصب أبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم على تقدير والذين يتوفون منكم يوصون وصية ، أو ليوصوا وصية ، أو كتب الله عليهم وصية ، أو ألزم الذين يتوفون وصية . ويؤيد ذلك قراءة كتب عليكم الوصية لأزواجكم متاعا إلى الحول مكانه . وقرأ الباقون بالرفع على تقدير ووصية الذين يتوفون ، أو وحكمهم وصية ، أو والذين يتوفون أهل وصية ، أو كتب عليهم وصية ، أو عليهم وصية وقرئ " متاع " بدلها . { متاعا إلى الحول } نصب بيوصون إن أضمرت وإلا فبالوصية وبمتاع على قراءة من قرأ لأنه بمعنى التمتيع . { غير إخراج } . بدل منه ، أو مصدر مؤكد كقولك هذا القول غير ما تقول ، أو حال من أزواجهم أي غير مخرجات ، والمعنى : أنه يجب على الذين يتوفون أن يوصوا قبل أن يحتضروا لأزواجهم بأن يمتعن بعدهم حولاً بالسكنى والنفقة ، وكان ذلك في أول الإِسلام ثم نسخت المدة بقوله : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وهو وإن كان متقدماً في التلاوة فهو متأخر في النزول ، وسقطت النفقة بتوريثها الربع أو الثمن ، والسكنى لها بعد ثابتة عندنا خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله . { فَإِنْ خَرَجْنَ } عن منزل الأزواج . { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أيها الأئمة . { فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ } كالتطيب وترك الإِحداد . { مِن مَّعْرُوفٍ } مما لم ينكره الشرع ، وهذا يدل على أنه لم يكن يجب عليها ملازمة مسكن الزوج والحداد عليه وإنما كانت مخيرة بين الملازمة وأخذ النفقة وبين الخروج وتركها . { والله عَزِيزٌ } ينتقم ممن خالفه منهم . { حَكِيمٌ } يراعي مصالحهم .
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 240 )
{ الذين } رفع بالابتداء ، والخبر في الجملة التي هي «وصية لأزواجهم » ، وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر «وصيةٌ » بالرفع ، وذلك على وجهين : أحدهما الابتداء والخبر في الظرف الذي هو قوله { لأزواجهم } ، ويحسن الابتداء بنكرة من حيث هو موضع تخصيص( {[2337]} ) كما حسن أن يرتفع «سلامٌ عليكم » ، وخير بين يديك ، وأمت في حجر لا فيك( {[2338]} ) ، لأنها مواضع دعاء ، والوجه الآخر أن تضمر له خبراً تقدره ، فعليهم وصية لأزواجهم ، ويكون قوله { لأزواجهم } صفة( {[2339]} ) . قال الطبري : «قال بعض النحاة : المعنى كتبت عليهم وصية » ، قال : «وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود » ، وقرأ أبو عمرو وحمزة وابن عامر «وصيةً » بالنصب ، وذلك حمل على الفعل كأنه قال : ليوصوا وصية ، و { لأزواجهم } على هذه القراءة صفة أيضاً ، قال هارون( {[2340]} ) : «وفي حرف أبي بن كعب » وصيةٌ لأزواجهم متاعٌ «بالرفع ، وفي حرف ابن مسعود » الوصية لأزواجهم متاعاً « ، وحكى الخفاف( {[2341]} )أن في حرف أبيّ » فمتاع لأزواجهم «بدل وصية .
ومعنى هذه الآية أن الرجل إذا مات كان لزوجته أن تقيم في منزله سنة وينفق عليها من ماله ، وذلك وصية لها ، واختلف العلماء ممن هي هذه الوصية ، فقالت فرقة : كانت وصية من الله تعالى تجب بعد وفاة الزوج ، قال قتادة : » كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها فلها السكنى والنفقة حولاً من مال زوجها ما لم تخرج برأيها ، ثم نسخ ما في هذه الآية من النفقة بالربع أو بالثمن الذي في سورة النساء ، ونسخ سكنى الحول بالأربعة الأشهر والعشر . وقال الربيع وابن عباس والضحاك وعطاء وابن زيد ، وقالت فرقة : بل هذه الوصية هي من الزوج ، كانوا ندبوا إلى أن يوصوا للزوجات بذلك ف { يتوفون } على هذا القول معناه يقاربون الوفاة ويحتضرون ، لأن الميت لا يوصي ، قال هذا القول قتادة أيضاً والسدي . وعليه حمل الآية أبو علي الفارسي في الحجة( {[2342]} ) ، قال السدي : » إلا أن العدة كانت أربعة أشهر وعشراً ، وكان الرجال يوصون بسكنى سنة ونفقتها ما لم تخرج . فلو خرجت بعد انقضاء العدة الأربعة الأشهر والعشر سقطت الوصية . ثم نسخ الله تعالى ذلك بنزول الفرائض . فأخذت ربعها أو ثمنها ، ولم يكن لها سكنى ولا نفقة وصارت الوصايا لمن لا يرث ، وقال الطبري عن مجاهد : إن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها ، والعدة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشراً ، ثم جعل الله لهن وصية ، منها سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة ، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت ، وهو قوله تعالى : { غير إخراج ، فإن خرجن فلا جناح عليكم } .
قال القاضي أبو محمد : وألفاظ مجاهد رحمه الله التي حكى عنها الطبري لا يلزم منها أن الآية محكمة ، ولا نص مجاهد ذلك ، بل يمكن أنه أراد ثم نسخ ذلك بعد بالميراث( {[2343]} ) .
و { متاعاً } نصب على المصدر( {[2344]} ) ، وكان هذا الأمر إلى الحول من حيث العام معلم من معالم الزمان قد أخذ بحظ من الطول ، وقوله تعالى : { غير إخراج } معناه ليس لأولياء الميت ووارثي المنزل إخراجها ، و { غير } نصب على المصدر عند الأخفش ، كأنه قال : لا إخراجاً ، وقيل : نصب على الحال من الموصين( {[2345]} ) . وقيل : هي صفة لقوله { متاعاً } ، وقوله تعالى : { فإن خرجن } الآية ، معناه أن الخروج إذا كان من قبل الزوجة فلا جناح على أحد ولي أو حاكم أو غيره فيما فعلن في أنفسهن من تزويج وترك حداد وتزين إذا كان ذلك من المعروف الذي لا ينكر ، وقوله تعالى : { والله عزيز } صفة تقتضي الوعيد بالنقمة لمن خالف الحد في هذه النازلة فأخرج المرأة وهي لا تريد الخروج . { حكيم } أي محكم لما يأمر به عباده ، وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتفق عليه إلا ما قوَّله الطبري مجاهداً رحمه الله ، وفي ذلك نظر على الطبري رحمه الله( {[2346]} ) .