{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ْ } وهذا من كرمه وإحسانه على أهل الجنة ، أن الغل الذي كان موجودا في قلوبهم ، والتنافس الذي بينهم ، أن اللّه يقلعه ويزيله حتى يكونوا إخوانا متحابين ، وأخلاء متصافين .
قال تعالى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ْ } ويخلق اللّه لهم من الكرامة ما به يحصل لكل واحد منهم الغبطة والسرور ، ويرى أنه لا فوق ما هو فيه من النعيم نعيم . فبهذا يأمنون من التحاسد والتباغض ، لأنه قد فقدت أسبابه .
وقوله : { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ْ } أي : يفجرونها تفجيرا ، حيث شاءوا ، وأين أرادوا ، إن شاءوا في خلال القصور ، أو في تلك الغرف العاليات ، أو في رياض الجنات ، من تحت تلك الحدائق الزاهرات .
أنهار تجري في غير أخدود ، وخيرات ليس لها حد محدود { و ْ } لهذا لما رأوا ما أنعم اللّه عليهم وأكرمهم به { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا ْ } بأن من علينا وأوحى إلى قلوبنا ، فآمنت به ، وانقادت للأعمال الموصلة إلى هذه الدار ، وحفظ اللّه علينا إيماننا وأعمالنا ، حتى أوصلنا بها إلى هذه الدار ، فنعم الرب الكريم ، الذي ابتدأنا بالنعم ، وأسدى من النعم الظاهرة والباطنة ما لا يحصيه المحصون ، ولا يعده العادون ، { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ْ } أي : ليس في نفوسنا قابلية للهدى ، لولا أنه تعالى منَّ بهدايته واتباع رسله .
{ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ْ } أي : حين كانوا يتمتعون بالنعيم الذي أخبرت به الرسل ، وصار حق يقين لهم بعد أن كان علم يقين [ لهم ] ، قالوا لقد تحققنا ، ورأينا ما وعدتنا به الرسل ، وأن جميع ما جاءوا به حق اليقين ، لا مرية فيه ولا إشكال ، { وَنُودُوا ْ } تهنئة لهم ، وإكراما ، وتحية واحتراما ، { أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا ْ } أي : كنتم الوارثين لها ، وصارت إقطاعا لكم ، إذ كان إقطاع الكفار النار ، أورثتموها { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ْ }
قال بعض السلف : أهل الجنة نجوا من النار بعفو اللّه ، وأدخلوا الجنة برحمة اللّه ، واقتسموا المنازل وورثوها بالأعمال الصالحة وهي من رحمته ، بل من أعلى أنواع رحمته .
وبعد ، فإذا كان أولئك المفترون المكذبون المجرمون الظالمون الكافرون المشركون يتلاعنون في النار
ويتخاصمون ، وتغلي صدورهم بالسخائم والأحقاد ، بعد أن كانوا أصفياء أولياء . . فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة إخوان متحابون متصافون متوادون ، يرف عليهم السلام والولاء :
( ونزعنا ما في صدورهم من غل ) . .
فهم بشر . وهم عاشوا بشراً . وقد يثور بينهم في الحياة الدنيا غيظ يكظمونه ، وغل يغالبونه ويغلبونه . . ولكن تبقى في القلب منه آثار .
قال القرطبي في تفسيره المسمى أحكام القرآن : قال رسول الله - [ ص ] : " الغل على أبواب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله من قلوب المؤمنين " . . وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم : ( ونزعنا ما في صدورهم من غل ) . .
وإذا كان أهل النار يصطلون النار من تحتهم ومن فوقهم . فأهل الجنة تجري من تحتهم الأنهار ؛ فترف على الجو كله أنسام :
وإذا كان أولئك يشتغلون بالتنابز والخصام ، فهؤلاء يشتغلون بالحمد والاعتراف :
( وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، لقد جاءت رسل ربنا بالحق ) . . وإذا كان أولئك ينادون بالتحقير والتأنيب : ( ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار ) . . فإن هؤلاء ينادون بالتأهيل والتكريم :
{ وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ } أي : من حسد وبغضاء ، كما جاء في الصحيح للبخاري ، من حديث قتادة ، عن أبي المتوكِّل الناجي ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا خلص المؤمنون من النار حُبِسوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هُذبوا ونقوا ، أذن لهم في دخول الجنة ؛ فوالذي نفسي بيده ، إن أحدهم بمنزله في الجنة أدلّ منه بمسكنه كان في الدنيا " {[11741]}
وقال السُّدِّي في قوله : { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ } الآية : إن أهل الجنة إذا سبقوا إلى الجنة فبلغوا ، وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان ، فشربوا{[11742]} من إحداهما ، فينزع ما في صدورهم من غل ، فهو " الشراب الطهور " ، واغتسلوا من الأخرى ، فجرت عليهم " نضرة النعيم " فلم يشعثوا ولم يشحبوا بعدها أبدًا .
وقد روى أبو إسحاق ، عن عاصم ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب نحوًا من ذلك{[11743]} كما سيأتي في قوله تعالى : { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا } [ الزمر : 73 ] إن شاء الله ، وبه الثقة وعليه التكلان .
وقال قتادة : قال علي ، رضي الله عنه : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم : { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ } رواه ابن جرير .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن عيينة ، عن إسرائيل قال : سمعت الحسن يقول : قال علي : فينا والله أهل بدر نزلت : { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ }{[11744]}
وروى النسائي وابن مَرْدُويه - واللفظ له - من حديث أبي بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول : لولا أن الله هداني ، فيكون له شكرًا . وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول : لو أن الله هداني فيكون له حسرة " {[11745]}
ولهذا لما أورثوا مقاعد أهل النار من الجنة نودوا : { أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : بسبب أعمالكم نالتكم الرحمة فدخلتم الجنة ، وتبوأتم منازلكم بحسب أعمالكم . وإنما وجب الحمل على هذا لما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " واعلموا أن أحدكم{[11746]} لن يدخله عمله الجنة " . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا ، إلا أن يَتَغَمَّدَنِي الله برحمة منه وفضل " {[11747]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ غِلّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للّهِ الّذِي هَدَانَا لِهََذَا وَمَا كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلآ أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالْحَقّ وَنُودُوَاْ أَن تِلْكُمُ الْجَنّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وأذهبنا من صدور هؤلاء الذين وصف صفتهم وأخبر أنهم أصحاب الجنة ، ما فيها من حقد وغل وعداوة كان من بعضهم في الدنيا على بعض ، فجعلهم في الجنة إذْ أدخلَهموها على سرر متقابلين ، لا يحسد بعضهم بعضا على شيء خصّ الله به بعضهم وفضله من كرامته عليه ، تجري من تحتهم أنهار الجنة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك : وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلّ قال : العداوة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن بشير ، عن قتادة : وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورهِمْ مِنْ غِلّ قال : هي الإحِنُ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن عيينة ، عن إسرائيل أبي موسى ، عن الحسن ، عن عليّ ، قال : فينا والله أهل بدر نزلت : وَنَزَعْنا ما فِي صُدورِهِمْ مِنْ غِلّ إخْوَانا على سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن إسرائيل ، قال : سمعته يقول : قال عليّ عليه السلام : فينا والله أهل بدر نزلت : وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلّ إخْوَانا على سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : قال عليّ رضي الله عنه : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم : وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلّ رضوان الله عليهم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَنَزَعْنا ما فِي صُدورِهِمْ مِنْ غِلّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنهَارُ قال : إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة ، فبلغوا ، وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان ، فشربوا من إحداهما ، فينزع ما في صدورهم من غلّ ، فهو الشراب الطهور . واغتسلوا من الأخرى ، فجرت عليهم نضرة النعيم ، فلم يشعثوا ولم يتسخوا بعدها أبدا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن الجريري ، عن أبي نضرة ، قال : يحبس أهل الجنة دون الجنة حتى يُقْضَى لبعضهم من بعض ، حتى يدخلوا الجنة حين يدخلونها ولا يطلب أحد منهم أحدا بقلامة ظفر ظلَمها إياه ويحبس أهل النار دون النار حتى يقضى لبعضهم من بعض ، فيدخلون النار حين يدخلونها ولا يطلب أحد منهم أحدا بقلامة ظفر ظلمها إياه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالوُا الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانا لِهَذَا وَما كُنّا لنَهْتَدِيَ لَوْلا أنْ هَدَانا اللّهُ .
يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء الذين وصف جلّ ثناؤه وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات حين أدخلوا الجنة ، ورأوا ما أكرمهم الله به من كرامته ، وما صُرف عنهم من العذاب المهين الذي ابتلي به أهل النار بكفرهم بربهم وتكذيبهم رسله : الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانا لِهَذَا يقول : الحمد لله الذي وفّقنا للعمل الذي أكسبنا هذا الذي نحن فيه من كرامة الله وفضله وصرف عذابه عنا . وَما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أنْ هَدَانا اللّهُ يقول : وما كنا لنرشد لذلك لولا أن أرشدنا الله له ووفقنا بمنه وطَوْله . كما :
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كُلّ أهْلِ النّارِ يَرَى مَنْزِلَهُ مِنَ الجَنّةِ ، فَيَقُولُونَ لَوْ هَدَانا اللّهُ ، فَتَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً . وكُلّ أهْلِ الجَنّةِ يَرَى مَنْزِلَهُ مِنَ النّارِ ، فَيَقُولُونَ لَولا أنْ هَدَانا اللّهُ . فَهَذَا شُكْرُهُمْ » .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت أبا إسحاق يحدّث عن عاصم بن ضمرة ، عن عليّ ، قال : ذكر عمر لشيء لا أحفظه ، ثم ذكر الجنة ، فقال : يدخلون فإذا شجرة يخرج من تَحْت ساقها عينان ، قال : فيغتسلون من إحداهما ، فتجري عليهم نضرة النعيم ، فلا تشعَث أشعارهم ولا تغبر أبشارهم ، ويشربون من الأخرى ، فيخرج كلّ قذى وقذر ، أو شيء في بطونهم . قال : ثم يفتح لهم باب الجنة ، فيقال لهم : سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادْخُلُوها خالِدِينَ قال : فتستقبلهم الوِلدان ، فيحُفّون بهم كما تحفّ الولدان بالحميم إذا جاء من غيبته . ثم يأتون فيبشرون أزواجهم ، فيسمونهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ، فيقلن : أنت رأيته ؟ قال : فيستخفهنّ الفرح ، قال : فيجئن حتى يقفن على أسكفّة الباب . قال : فيجيئون فيدخلون ، فإذا أُسّ بيوتهم بجندل اللؤلؤ ، وإذا صروح صفر وخضر وحمر ومن كلّ لون ، وسرر مرفوعة ، وأكواب موضوعة ، ونمارق مصفوفة ، وزرابيّ مبثوثة ، فلولا أن الله قدرها لالتُمعت أبصارهم مما يرون فيها . فيعانقون الأزواج ، ويقعدون على السرر ، ويقولون : الحَمْدُ لِلّه الّذِي هَدَانا لِهَذَا وَما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أنْ هَدَانا اللّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبّنا بالحَقّ . . . الاَية .
القول في تأويل قوله تعالى : لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبّنا بالحَقّ وَنُودُوا أنْ تِلْكُمُ الجَنّةُ أُورِثْتُموها بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنهم يقولون عند دخولهم الجنة ورؤيتهم كرامة الله التي أكرمهم بها ، وهو أن أعداء الله في النار : والله لقد جاءتنا في الدنيا وهؤلاء الذين في النار رسل ربنا بالحقّ من الأخبار ، عن وعد الله أهل طاعته والإيمان به وبرسله ووعيده أهل معاصيه والكفر به .
وأما قوله : وَنُودُوا أنْ تِلْكُمُ الجَنّةُ أُورِثْتُمُوها بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فإن معناه : ونادى مناد هؤلاء الذين وصف الله صفتهم وأخبر عما أعدّ لهم من كرامته ، أنْ يا هؤلاء هذه تلكم الجنة التي كانت رسلي في الدنيا تخبركم عنها ، أورثكموها الله عن الذين كذّبوا رسله ، لتصديقكم إياهم وطاعتكم ربكم . وذلك هو معنى قوله : بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَنُودُوا أنْ تِلْكُمُ الجَنّةُ أُورِثْتُمُوها بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال : ليس من كافر ولا مؤمن إلاّ وله في الجنة والنار منزل . فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، ودخلوا منازلهم ، رُفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل لهم : هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله ، ثم يقال : يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقسم بين أهل الجنة منازلهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمر بن سعد أبو داود الحفري ، عن سعيد بن بكر ، عن سفيان الثوريّ ، عن أبي إسحاق ، عن الأغرّ : وَنُودُوا أنْ تِلْكُمُ الجَنّةُ أُورِثْتُمُوها بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال : نودوا أن صحّوا فلا تسقموا واخلدوا فلا تموتوا وانعموا فلا تبأسوا
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن الأغرّ ، عن أبي سعيد : وَنُودُوا أنْ تِلْكُمُ الجَنّةُ . . . الاَية ، قال : ينادي مناد : إن لكم أت تصحوا فلا تسقموا أبدا .
واختلف أهل العربية في «أن » التي مع «تلكم » ، فقال بعض نحويي البصرة : هي «أنّ » الثقيلة خففت ، وأضمر فيها ، ولا يستقيم أن نجعلها الخفيفة لأن بعدها اسما ، والخفيفة لا تليها الأسماء ، وقد قال الشاعر :
فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الهِنْد قدْ عَلِمُوا ***أنْ هالكٌ مَنْ يَحْفَى ويَنْتَعِلُ
أُكاشِرُهُ وأعْلَمُ أنْ كِلانا ***عَلى ما ساءَ صَاحِبَهُ حَرِيصُ
قال : فمعناه : أنه كلانا قال ، ويكون كقوله : أنْ قَدْ وَجَدْنا في موضع «أي » ، وقوله : أنْ أقِيمُوا . وَلا تَكُونُ «أن » التي تعمل في الأفعال ، لأنك تقول : غاظني أن قام ، وأن ذهب ، فتقع على الأفعال وإن كانت لا تعمل فيها ، وفي كتاب الله : وَانْطَلَقَ المَلأُ مِنْهُمْ أنِ امْشُوا أي امشوا . وأنكر ذلك من قوله هذا بعض أهل الكوفة ، فقال : غير جائز أن يكون مع «أن » في هذا الموضع «هاء » مضمرة ، لأن من قوله هذا بعض أهل الكوفة ، فقال : غير جائز أن يكون مع «أن » في هذا الموضع «هاء » مضمرة ، لأن «أن » دخلت في الكلام لتقي ما بعدها ، قال : و «أن » هذه التي مع «تلكم » ، هي الدائرة التي يقع فيها ما ضارع الحكاية ، وليس بلفظ الحكاية ، نحو : ناديت أنك قائم ، وأن زيد قائم ، وأن قمت ، فتلي كلّ الكلام ، وجعلت «أن » وقاية ، لأن النداء يقع على ما بعده ، وسلم ما بعد «أن » كما سلم ما بعد القول ، ألا ترى أنك تقول : قلت : زيد قائم ، وقلت : قام ، فتليها ما شئت من الكلام ؟ فلما كان النداء بمعنى الظنّ وما أشبهه من القول سلم «ما » بعد «أن » ، ودخلت «أن » وقاية . قال : وأما «أي » فإنها لا تكون على أن لا يكون : أي جواب الكلام ، وأن تكفي من الاسم .
{ ونزعنا ما في صدورهم من غل } أي نخرج من قلوبهم أسباب الغل ، أو نطهرها منه حتى لا يكون بينهم إلا التواد . وعن علي كرم الله وجهه : أني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم . { تجري من تحتهم الأنهار } زيادة في لذتهم وسرورهم . { وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا } لما جزاؤه هذا . { وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } لولا هداية الله وتوفيقه ، واللام لتوكيد النفي وجواب لولا محذوف دل عليه ما قبله . وقرأ ابن عامر " ما كنا " بغير واو على إنها مبينة للأولى . { لقد جاءت رسل ربنا بالحق } فاهتدينا بإرشادهم . يقولون ذلك اغتباطا وتبجحا بأن ما علموه يقينا في الدنيا صار لم عين اليقين في الآخرة . { ونودوا أن تلكم الجنة } إذا رأوها من بعيد ، أو بعد دخولها والمنادى له بالذات . { أورثتموها بما كنتم تعملون } أي أعطيتموها بسبب أعمالكم ، وهو حال من الجنة والعامل فيها معنى الإشارة ، أو خبر والجنة صفة تلكم وان في المواقع الخمسة هي المخففة أو المفسرة لان المناداة والتأذين من القول .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وأذهبنا من صدور هؤلاء الذين وصف صفتهم وأخبر أنهم أصحاب الجنة، ما فيها من حقد وغل وعداوة كان من بعضهم في الدنيا على بعض، فجعلهم في الجنة إذْ أدخلَهموها على سرر متقابلين، لا يحسد بعضهم بعضا على شيء خصّ الله به بعضهم وفضله من كرامته عليه، تجري من تحتهم أنهار الجنة.
"وَقَالوُا الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانا لِهَذَا وَما كُنّا لنَهْتَدِيَ لَوْلا أنْ هَدَانا اللّهُ". يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء الذين وصف جلّ ثناؤه وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات حين أدخلوا الجنة، ورأوا ما أكرمهم الله به من كرامته، وما صُرف عنهم من العذاب المهين الذي ابتلي به أهل النار بكفرهم بربهم وتكذيبهم رسله: "الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانا لِهَذَا "يقول: الحمد لله الذي وفّقنا للعمل الذي أكسبنا هذا الذي نحن فيه من كرامة الله وفضله وصرف عذابه عنا. "وَما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أنْ هَدَانا اللّهُ "يقول: وما كنا لنرشد لذلك لولا أن أرشدنا الله له ووفقنا بمنه وطَوْله.
"لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبّنا بالحَقّ وَنُودُوا أنْ تِلْكُمُ الجَنّةُ أُورِثْتُموها بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" يقول تعالى ذكره مخبرا عن هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنهم يقولون عند دخولهم الجنة ورؤيتهم كرامة الله التي أكرمهم بها، وهو أن أعداء الله في النار: والله لقد جاءتنا في الدنيا وهؤلاء الذين في النار رسل ربنا بالحقّ من الأخبار، عن وعد الله أهل طاعته والإيمان به وبرسله ووعيده أهل معاصيه والكفر به.
وأما قوله: "وَنُودُوا أنْ تِلْكُمُ الجَنّةُ أُورِثْتُمُوها بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" فإن معناه: ونادى مناد هؤلاء الذين وصف الله صفتهم وأخبر عما أعدّ لهم من كرامته، أنْ يا هؤلاء: هذه تلكم الجنة التي كانت رسلي في الدنيا تخبركم عنها، أورثكموها الله عن الذين كذّبوا رسله، لتصديقكم إياهم وطاعتكم ربكم. وذلك هو معنى قوله: "بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ونزعنا ما في صدورهم من غلّ} قال القتبيّ: الغلّ: الحسد والعداوة، وقيل: الغلّ والغش واحد؛ وهو ما يضمر بعضهم لبعض من العداوة والحقد، وقيل: الغل: الحقد. ثم اختلف فيه: قال بعضهم: قوله تعالى: {ونزعنا ما في صدورهم من غلّ} في الدنيا ينزع الله عز وجل من قلوبهم الغل؛ يعني قلوب المؤمنين، ويجعلهم إخوانا بالإيمان كقوله تعالى: {إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} الآية [آل عمران: 103]؛ أخبر أنهم كانوا أعداء، فألّف بين قلوبهم بالإيمان الذي أكرمهم به حتى صاروا إخوانا بعد ما كانوا أعداء. قال الحسن: ليس في قلوب أهل الجنة الغل والحسد، إذ هما يهمّان ويحزنان، إنما فيها الحب. قال بعضهم: هذا في الآخرة؛ ينزع الله تعالى من قلوبهم الغل الذي كان في ما بينهم في الدنيا، ويصيرون جميعا إخوانا كقوله تعالى: {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين} [الحجر: 47].
وقوله تعالى: {لقد جاءت رسل ربنا بالحق} أي بالدين الذي هو حق، أو جاؤوا بالأعمال التي من عمل بها كان صوابا ورشدا. وكل حق هو صواب ورشد. ويحتمل: {لقد جاءت رسل ربنا بالحق} أي بالصدق ونحوه. [وقوله تعالى]: {بالحق} له وجهان: أحدهما: بالحق الذي استحقه على عباده، والثاني: أنهم جاءوا بالذي هو حق في العقول وصواب. وقوله تعالى: {ونودوا أن تلكم الجنة} وقوله: {تلكم} إنما يتكلم عن غائب، وهم فيها. لكن تأويله، والله أعلم، أن تلكم الجنة التي كنتم وعدتم في الدنيا، وأخبرتم عنها، هذه... {أورثتموها بما كنتم تعملون}... ذكر أنهم أورثوا الجنة بما عملوا، وإن كانوا ينالونها بفضل الله جزاء وشكرا بقولهم الذي قالوا {وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
نزع الغل في الجنة تصفية الطباع، وإسقاط الوساوس، وإعطاء كل نفس مناها، ولا يتمنى أحد ما لغيره...
في هذه الآية إخبار عما يفعله بالمؤمنين في الجنة بعد أن يخلدهم فيها، بأن ينزع ما في صدورهم من غل، فالنزع: رفع الشيء عن مكانه المتمكن فيه، إما بتحويله وإما بإعدامه. ومعنى نزع الغل -ههنا- إبطاله...
وقيل في ما ينزع الغل من قلوبهم قولان: أحدهما -قال أبو علي: بلطف الله لهم في التوبة حتى تذهب صفة العداوة. الثاني- بخلوص المودة حتى يصير منافيا لغل الطباع. والثاني أقوى،...
والغل: الحقد الذي ينقل بلطفه إلى صميم القلب، والصدر: ما يصدر من جهته التدبير والرأي، ومنه قيل للرئيس: صدر، وقيل صدر المجلس...
وقوله "تجري من تحتهم الأنهار "فالجريان انحدار المائع، فالماء يجري، والدم يجري، وكذلك كل ما يصح أن يجري، فهو مائع.
وقوله "تجري من تحتهم الأنهار" فالنهر: المجرى الواسع من مجاري الماء، ومنه النهار لاتساع ضيائه،...
وقوله "وقالوا الحمد لله الذى هدانا لهذا وماكنا لنهتدي لولا أن هدانا الله" إخبار عن قول أهل الجنة واعترافهم بالشكر لله تعالى الذي عرضهم له بتكليفه إياهم ما يستحقون به الثواب.
" ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون "فالنداء: الدعاء بطريقة يا فلان كأنه قيل لهم: أيها المؤمنون" أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون "جزاء لكم على ذلك، على وجه التهنئة لهم بها...
ويجوز أن يكونوا عاينوها، فقيل لهم -قبل أن يدخلوها- إشارة إليها" تلكم الجنة".
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
في قولهم اعترافٌ منهم وإقرارٌ بأنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من جزيل تلك العطيات، وعظيم تلك الرتب والمقامات بجهدهم واستحقاق فعلهم، وإنما ذلك أجمع ابتداء فضل منه ولطف.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا إخبار من الله عز وجل أنه ينقي قلوب ساكني الجنة من الغل والحقد، وذلك أن صاحب الغل متعذب به ولا عذاب في الجنة... و {هدانا} بمعنى أرشدنا، والإشارة بهذا تتجه أن تكون إلى الإيمان والأعمال الصالحة المؤدية إلى القرآن... {لقد جاءت رسل ربنا بالحق} فقضوا بأن ذلك حق قضاه من يحس وكانوا في الدنيا يقضون بأن ذلك حق قضاه من يستدل... وقوله: {بما كنتم تعملون} لا على طريق وجوب ذلك على الله، لكن بقرينة رحمته وتغمده، والأعمال أمارة من الله وطريق إلى قوة الرجاء، ودخول الجنة إنما هو بمجرد رحمة الله تعالى، والقسم فيها على قدر العمل...
القول الأول: أن يكون المراد أزلنا الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في دار الدنيا، ومعنى نزع الغل: تصفية الطباع وإسقاط الوساوس ومنعها من أن ترد على القلوب، فإن الشيطان لما كان في العذاب لم يتفرغ لإلقاء الوساوس في القلوب.
والقول الثاني: إن المراد منه أن درجات أهل الجنة متفاوتة بحسب الكمال والنقصان، فالله تعالى أزال الحسد عن قلوبهم حتى أن صاحب الدرجة النازلة لا يحسد صاحب الدرجة الكاملة..
وقوله: {أورثتموها} فيه قولان: القول الأول: وهو قول أهل المعاني أن معناه: صارت إليكم كما يصير الميراث إلى أهله، والإرث قد يستعمل في اللغة، ولا يراد به زوال الملك عن الميت إلى الحي كما يقال: هذا العمل يورثك الشرف، ويورثك العار أي يصيرك إليه، ومنهم من يقول: إنهم أعطوا تلك المنازل من غير تعب في الحال فصار شبيها بالميراث.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
في صحيح مسلم: (لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته منه وفضل)...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
والذي يظهر أنّ النزع للغلّ كناية عن خلقهم في الآخرة سالمي القلوب طاهريها متوادّين متعاطفين،...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانت الدار لا تطيب إلا بحسن الجوار قال: {ونزعنا} أي بما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء {ما} كان في الدنيا {في صدورهم من غل} أي ضغينة وحقد وغش من بعضهم على بعض يغل، أي يدخل بلطف إلى صميم القلب، ومن الغلول، وهو الوصول بالحيلة إلى الذنوب الدقيقة، ويقال: غل في الشيء وتغلغل فيه -إذا دخل فيه بلطافة كالحب يدخل في صميم الفؤاد، حتى أن صاحب الدرجة السافلة لا يحسد صاحب العالية. ولما كان حسن الجوار لا يلذ إلاّ بطيب القرار بأحكام الدار، وكان الماء سبب العمارة وطيب المنازل، وكان الجاري منه أعم نفعاً وأشد استجلاباً للسرور قال تعالى {تجري من} وأشار إلى علوهم بقوله: {تحتهم الأنهار} فلما تمت لهم النعمة بالماء الذي به حياة كل حياة كل شيء فعرف أنه يكون عنه الرياض والأشجار وكل ما به حسن الدار، أخبر عن تعاطيهم الشكر لله ولرسوله المستجلب للزيادة بقوله: {وقالوا الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال {لله} أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة لذاته لا لشيء آخر؛ ثم وصفوه بما يقتضي ذلك له لأوصافه أيضاً، فقالوا معلمين أنه لا سبب لهم في الوصول إلى النعيم غير النعيم غير فضله في الأولى والأخرى: {الذي هدانا} أي بالبيان والتوفيق، وأوقعوا الهداية على ما وصلوا إليه إطلاقاً للمسبب على السبب {لهذا} أي للعمل الذي أوصلنا إليه {وما} أي والحال أنا ما {كنا لنهتدي} أصلاً لبناء جبلاتنا على خلاف ذلك {لولا أن هدانا الله} أي الذي له الأمر كله، وقراءة ابن عامر بغير واو على أن الجملة موضحة لما قلبها. ولما كان تصديقهم للرسل في الدنيا إيماناً بالغيب من باب علم اليقين، أخبروا في الآخرة بما وصلوا إليه من عين اليقين سروراً وتبجحاً لا تعبداً، وثناء على الرسل ومن أرسلهم بقولهم مفتتحين بحرف التوقع لأنه محله: {لقد جاءت رسل ربنا} أي المحسن إلينا {بالحق} أي الثابت الذي يطابقه الواقع الذي لا زوال له. ولما غبطوا أنفسهم وحقروها وأثبتوا الفضل لأهله، عطف على قولهم قوله مانّاً عليهم بقبول أعمالهم، ولما كان السار الإخبار عن الإيراث لا كونه من معين، بني للمفعول قوله: {ونودوا} أي إتماماً لنعيمهم {أن} هي المخففة من الثقيلة أو هي المفسرة {تلكم الجنة} العالية {أورثتموها} أي صارت إليكم من غير تعب ولا منازع {بما} أي بسبب ما {كنتم تعملون*} لأنه سبحانه جعله سبباً ظاهرياً بكرمه، والسبب الحقيقي هو ما ذكروه هم من توفيقه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
تلكم هي الجنة البعيدة المنال لولا فضل ذي الجلال والإكرام التي وعد بوراثتها الأتقياء، أورثتموها بسبب ما كنتم تعملون في الدنيا من الصالحات فعلامة البعد في اسم الإشارة للبعد المعنوي الذي بيناه، إذ السياق دال على أن هذا النداء يكون بعد دخولها، والتبوؤ من غرف قصورها، وجعله بعض المفسرين حسيا على القول بأن النداء يكون عند ما يرويها منصرفين إليها من الموقف وبعضهم زمنيا مرادا به الجنة الموصوفة على ألسنة الرسل في الدنيا، وقد بعد عهد ذكرها، والوعد بها، وهو وجيه...
تكرر في القرآن التعبير عن نيل أهل الجنة بالإرث. والأصل في الإرث أن يكون انتقالا للشيء من حائز إلى آخر كانتقال مال الميت إلى وارثه وانتقال الممالك من أمة إلى أخرى. وكذا إرث العلم والكتاب قال تعالى: {ورث سليمان داود} (النمل16) وقال: {ورثوا الكتاب} (الأعراف169) وقال {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} (فاطر 32) ولا يظهر شيء من هذا في الجنة وإنما يخرج إيراثها هنا وما في معناه وارثها في قوله: {أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس} (المؤمنون10-11) على وجهين؛
أحدهما: أنهم يعبرون بالإرث عن الملك الذي لا منازع فيه.
ثانيهما: ما ورد من أن الله تعالى جعل لكل أحد من المكلفين مكانا في الجنة هو حقه إذ طلبه بسببه وسعى إليه في صراطه المستقيم، وهو الإيمان والإسلام لله رب العالمين، وهو ما وعد به جميع أفراد أمة الدعوة على ألسنة الرسل (عليهم السلام) وورثتهم الناشرين لدعوتهم بالعلم والعمل، فمن كفر خسر مكانه من الجنة وأعطيه أهل الإيمان والتقوى فما من أحد منهم إلا وله حظ من الإرث. والاستعمالان مجازيان، وهما متفقان لا متباينان...
والآية صريحة في كون الجنة تنال بالعمل وفي معناها آيات كثيرة بباء السببية بعضها بلفظ الإرث وبعضها بلفظ الدخول. وأما حديث أبي هريرة في الصحيحين "لن يدخل أحدا عمله الجنة قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمته "72 وله تتمة وروي بلفظ آخر فمعناه: أن عمل الإنسان مهما يكن عظيما لا يستحق له الجنة لذاته لولا رحمة الله وفضله إذ جعل هذا الجزاء العظيم على هذا العمل القليل فدخول الجنة بالعمل دخول بفضل الله ورحمته، ولذلك قال بعده "فسددوا وقاربوا" أي لا تبالغوا ولا تغلوا في دينكم ولا تتكلفوا من العمل ما لا تطيقون. وقيل معناه يدخلونها بفضله ويقتسمونها بأعمالهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد، فإذا كان أولئك المفترون المكذبون المجرمون الظالمون الكافرون المشركون يتلاعنون في النار ويتخاصمون، وتغلي صدورهم بالسخائم والأحقاد، بعد أن كانوا أصفياء أولياء.. فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة إخوان متحابون متصافون متوادون، يرف عليهم السلام والولاء... (ونزعنا ما في صدورهم من غل).. فهم بشر. وهم عاشوا بشراً. وقد يثور بينهم في الحياة الدنيا غيظ يكظمونه، وغل يغالبونه ويغلبونه.. ولكن تبقى في القلب منه آثار...
وإذا كان أهل النار يصطلون النار من تحتهم ومن فوقهم. فأهل الجنة تجري من تحتهم الأنهار؛ فترف على الجو كله أنسام: (تجري من تحتهم الأنهار).. وإذا كان أولئك يشتغلون بالتنابز والخصام، فهؤلاء يشتغلون بالحمد والاعتراف: (وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق).. وإذا كان أولئك ينادون بالتحقير والتأنيب: (ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار).. فإن هؤلاء ينادون بالتأهيل والتكريم: (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون).. إنه التقابل التام بين أصحاب الجنة وأصحاب النار...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجعل الهداية لنفس النّعيم لأنّ الدّلالة على ما يوصل إلى الشّيء إنّما هي هداية لأجل ذلك الشّيء، وتقدّم الكلام على فعل الهداية وتعديته في سورة الفاتحة (6). والمراد بهَدْي الله تعالى إياهم إرساله محمّداً صلى الله عليه وسلم إليهم فأيقظهم من غفلتهم فاتَّبعوه، ولم يعاندوا، ولم يستكبروا، ودلّ عليه قولهم: {لقد جاءت رسل ربنا بالحق} مع ما يسّر الله لهم من قبولهم الدّعوة وامتثالهم الأمر، فإنّه من تمام المنّة المحمود عليها، وهذا التّيسير هو الذي حُرمه المكذّبون المستكبرون لأجل ابتدائهم بالتّكذيب والاستكبار، دون النظر والاعتبار.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
فما أسعد من يبني لنفسه في هذه الدنيا جنّة أُخرى، بتطهير صدره من الحقد والحسد ليتخلّص من إفرازاتهما المؤلمة.
ومرّة أُخرى نصل إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ النجاة رهن بالعمل الصالح، وليست بالأماني والظنون الخاوية.