{ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ } يحتمل أنه قضى الأجل الواجب ، أو الزائد عليه ، كما هو الظن بموسى ووفائه ، اشتاق إلى الوصول إلى أهله ووالدته وعشيرته ، ووطنه ، وعلم من طول المدة ، أنهم قد تناسوا ما صدر منه . { سَارَ بِأَهْلِهِ } قاصدا مصر ، { آنَسَ } أي : أبصر { مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } وكان قد أصابهم البرد ، وتاهوا الطريق .
( فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا . قال لأهله : امكثوا إني آنست نارا ، لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ) . .
ترى أي خاطر راود موسى ، فعاد به إلى مصر ، بعد انقضاء الأجل ، وقد خرج منها خائفا يترقب ? وأنساه الخطر الذي ينتظره بها ، وقد قتل فيها نفسا ? وهناك فرعون الذي كان يتآمر مع الملأ من قومه ليقتلوه ?
إنها اليد التي تنقل خطاه كلها ، لعلها قادته هذه المرة بالميل الفطري إلى الأهل والعشيرة ، وإلى الوطن والبيئة ، وأنسته الخطر الذي خرج هاربا منه وحيدا طريدا . ليؤدي المهمة التي خلق لها ورعي منذ اللحظة الأولى .
على أية حال ها هو ذا عائد في طريقه ، ومعه أهله ، والوقت ليل ، والجو ظلمة ؛ وقد ضل الطريق ، والليلة شاتية ، كما يبدو من أنسه بالنار التي شاهدها ، ليأتي منها بخبر أو جذوة . . هذا هو المشهد الأول في هذه الحلقة .
قد تقدم في تفسير الآية قبلها أن موسى عليه السلام ، قضى أتم الأجلين وأوفاهما وأبرهما وأكملهما وأنقاهما ، وقد يستفاد هذا أيضًا من الآية الكريمة من قوله{[22303]} : { فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ } أي : الأكمل منهما ، والله{[22304]} أعلم .
قال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : قضى عشر سنين ، وبعدها عشرا أخر . وهذا القول لم أره لغيره ، وقد حكاه عنه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والله{[22305]} أعلم .
وقوله : { وَسَارَ بِأَهْلِهِ } قالوا : كان موسى قد اشتاق إلى بلاده وأهله ، فعزم على زيارتهم في خفية من فرعون وقومه ، فتحمل بأهله وما كان معه من الغنم التي وهبها له صهره ، فسلك بهم في ليلة مطيرة مظلمة باردة ، فنزل منزلا فجعل كلما أورى زنده لا يُضيء شيئًا ، فتعجب من ذلك ، فبينما هو كذلك [ إذ ]{[22306]} { آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا } أي : رأى نارا تضيء له على بعد ، { قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا } أي : حتى أذهب إليها ، { لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ } . وذلك لأنه قد أضل الطريق ، { أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ } أي : قطعة منها{[22307]} ، { لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } أي : تَتَدفؤون بها من البرد .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّا قَضَىَ مُوسَى الأجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطّورِ نَاراً قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوَاْ إِنّيَ آنَسْتُ نَاراً لّعَلّيَ آتِيكُمْ مّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مّنَ النّارِ لَعَلّكُمْ تَصْطَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فلما وفّى موسى صاحبه الأجل الذي فارقه عليه ، عند إنكاحه إياه ابنته ، وذكر أن الذي وفّاه من الأجلين ، أتمهما وأكملهما ، وذلك العشر الحجج ، على أن بعض أهل العلم قد روى عنه أنه قال : زاد مع العشر عَشْرا أخرى . ذكر من قال : الذي قضى من ذلك هو الحِجَج العَشْر :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قال : سألت ابن عباس : أيّ الأجلين قضى موسى ؟ قال : خيرهما وأوفاهما .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس سئل : أيّ الأجلين قضى موسى ؟ قال : أتمهما وأخيَرَهما .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدثنا موسى بن عُبيدة ، عن أخيه ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : قضى موسى آخر الأجلين .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عبيدة ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرِمة ، سئل ابن عباس : أيّ الأجلين قضى موسى ؟ قال : أتمهما وأوفاهما .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن حكيم بن جُبَير ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال يهودي بالكوفة وأنا أتجهّز للحجّ : إني أراك رجلاً تتتبع العلم ، أخبرني أيّ الأجلين قضى موسى ؟ قلت : لا أعلم ، وأنا الاَن قادم على حَبْر العرب ، يعني ابن عباس ، فسائله عن ذلك فلما قدِمت مكة سألت ابن عباس عن ذلك وأخبرته بقول اليهوديّ ، فقال ابن عباس : قضى أكثرهما وأطيبهما ، إن النبيّ إذا وعد لم يخلِف ، قال سعيد : فقدمت العراق فلقيت اليهودي ، فأخبرته ، فقال : صدق ، وما أنزل على موسى هذا ، والله العالم .
قال : ثنا يزيد ، قال : حدثنا الأصبغ بن زيد ، عن القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جُبَير ، قال : سألني رجل من أهل النصرانية : أيّ الأجلين قضى موسى ؟ قلت : لا أعلم ، وأنا يومئذٍ لا أعلم ، فلقيت ابن عباس ، فذكرت له الذي سألني عنه النصراني ، فقال : أما كنت تعلم أن ثمانيا واجب عليه ، لم يكن نبيّ الله نقص منها شيئا ، وتعلم أن الله كان قاضيا عن موسى عِدَته التي وعده ، فإنه قضى عشر سنين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة فَلَمّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ قال : حدّث ابن عباس ، قال : رعى عليه نبيّ الله أكثرها وأطيبها .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب القُرَظيّ ، قال : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيّ الأجلين قضى موسى ؟ قال : «أوْفاهُما وأتَمّهُما » .
حدثنا أحمد بن محمد الطوسي ، قال : حدثنا الحميدي أبو بكر بن عبد الله بن الزّبير ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «سألْتُ جَبْرَائِيلَ : أيّ الأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى ؟ قال : أتَمّهُما وأكمَلَهُما » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال مجاهد : إن النبيّ صلى الله عليه وسلم سأل جبرائيل : «أيّ الأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى ؟ قال سَوْفَ أسأَلُ إسْرَافِيلَ ، فَسألَهُ فَقالَ : سَوْفَ أسأَلُ اللّهَ تَبارَكَ وَتَعالى ، فَسأَلَهُ ، فَقالَ : أبَرّهُما وأوْفاهُما » . ذكر من قال : قضى العَشْر الحِجَج وزاد على العشْر عشرا أخرى :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فَلَمّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ قال : عشر سنين ، ثم مكث بعد ذلك عشرا أخرى .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد قَضَى موسَى الأجَلَ عشر سنين ، ثم مكث بعد ذلك عشرا أخرى .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثنا أبي ، عن قَتادة ، قال : حدثنا أنس ، قال : لما دعا نبيّ الله موسى صاحبه إلى الأجل الذي كان بينهما ، قال له صاحبه : كلّ شاة ولدت على غير لونها فلك ولد ، فعمد ، فرفع خيالاً على الماء ، فلما رأت الخيال ، فزعت ، فجالت جولة فولدن كلهنّ بُلقا ، إلاّ شاة واحدة ، فذهب بأولادهنّ ذلك العام .
وقوله : وَسارَ بأهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطورِ نارا يقول تعالى ذكره : فَلَمّا قَضَى موسَى الأجَلَ وَسَارَ بِأهْلِهِ شاخصا بهم إلى منزله من مصر آنَسَ مِنْ جانِبِ الطّورِ يعني بقوله : آنس : أبصر وأحسّ كما قال العجّاج :
آنَسَ خِرْبانَ فَضَاءٍ فانْكَدَرْ *** دَانَى جَناحَيْهِ مِنَ الطّورِ فَمَرّ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . وقد ذكرناالرواية بذلك فيما مضى قبل ، غير أنا نذكر ههنا بعض ما لم نذكر قبل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة آنَسَ مِنْ جانِبِ الطّورِ نارا قالَ لأَهْلِهِ : امْكُثُوا إنّي آنَسْتُ نارا : أي أحسست نارا .
وقد بيّنا معنى الطور فيما مضى بشواهده ، وما فيه من الرواية عن أهل التأويل .
وقوله : لأَهْلِهِ امْكُثُوا إنّي آنَسْتُ نارا يقول : قال موسى لأهله : تمهّلوا وانتظروا : إنّي أبصرت نارا لَعَلّي آتِيكُمْ مِنْها يعني من النار بِخَبرٍ أو جَذْوَةٍ مِنَ النّارِ يقول : أو آتيكم بقطعة غليظة من الحطب فيها النار ، وهي مثل الجِذْمة من أصل الشجرة ومنه قول ابن مقبل :
باتَتْ حَوَاطِبُ لَيْلَى يَلْتَمِسْنَ لَهَا *** جَزْلَ الجِذَا غيرَ خَوّارٍ وَلا دَعِرِ
وفي الجِذوة لغات للعرب ثلاث : جِذوة بكسر الجيم ، وبها قرأت قرّاء الحجاز والبصرة وبعض أهل الكوفة ، وهي أشهر اللغات الثلاث فيها : وجَذوة بفتج الجيم ، وبها قرأ أيضا بعض قرّاء الكوفة . وهذه اللغات الثلاث وإن كنّ مشهورات في كلام العرب ، فالقراءة بأشهرها أعجب إليّ ، وإن لم أنكر قراءة من قرأ بغير الأشهر منهنّ . وبنحو الذي قلنا في معنى الجَذوة قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية عن علي ، عن ابن عباس ، قوله أوْ جَذْوَةٍ مِنَ النّارِ يقول شهاب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة أوْ جَذْوَةٍ والجذوة : أصل شجرة فيها نار .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، قوله إنّي آنَسْتُ نارا لَعَلّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أوْ جَذْوَةٍ مِنَ النّارِ قال : أصل الشجرة في طَرَفها النار ، فذلك قوله أوْ جَذْوَةٍ قال : السّعف فيه النار . قال مَعْمر ، وقال قتادة أوْ جَذْوَةٍ : أو شُعلة من النار .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله أوْ جَذْوَةٍ مِنَ النّارِ قال : أصل شجرة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد أوْ جَذْوَةٍ مِنَ النّارِ قال : أصل شجرة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله أوْ جَذْوَةٍ مِنَ النّارِ قال : الجَذوة : العود من الحطب الذي فيه النار ، ذلك الجذوة .
وقوله : لَعَلّكُمْ تَصْطَلُونَ يقول : لعلكم تسخَنون بها من البرد ، وكان في شتاء .
{ فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله } بامرأته . روي أنه قضى أقصى الأجلين ومكث بعد ذلك عنده عشرا أخرى ثم عزم على الرجوع . { آنس من جانب الطور نارا } أبصر من الجهة التي تلي الطور . { قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر } بخبر الطريق . { أو جذوة } عود غليظ سواء كان في رأسه نار أو لم يكن
قال باتت حواطب ليلى يلتمسن لها ***جزال الجذى غير خوار ولا دعر
وألقى على قبس من النار جذوة *** شديدا عليه حرها والتهابها
ولذلك بينه بقوله : { من النار } وقرأ عاصم بالفتح وحمزة بالضم وكلها لغات .