روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{۞فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلۡأَجَلَ وَسَارَ بِأَهۡلِهِۦٓ ءَانَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَارٗاۖ قَالَ لِأَهۡلِهِ ٱمۡكُثُوٓاْ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا لَّعَلِّيٓ ءَاتِيكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ أَوۡ جَذۡوَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ} (29)

{ فَلَمَّا قضى مُوسَى الاجل } أي أتم المدة المضروبة لما أراد شعيب منه والمراد به الأجل الآخر كما أخرجه ابن مردويه عن مقسم عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما . وأخرج البخاري وجماعة عن ابن عباس أنه سئل أي الأجلين قضى موسى عليه السلام ؟ فقال : قضى أكثرهما وأطيبهما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل . وأخرج ابن مردويه من طريق علي بن عاصم عن أبي هرون عن أبي سعيد الخدري أن رجلاً سأله أي الأجلين قضى موسى فقال : لا أدري حتى اسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال : لا أدري حتى أسأل جبريل عليه السلام فسأل جبريل فقال : لا أدري حتى أسأل ميكائيل عليه السلام فسأل ميكائيل فقال : لا أدري حتى أسأل الرفيع فسأل الرفيع فقال : لا أدري حتى أسأل إسرافيل عليه السلام فسأل إسرافيل فقال : لا أدري حتى أسأل ذا العزة جل جلاله فنادى إسرافيل بصوته الأشد ياذا العزة أي الأجلين قضى موسى قال : { أتم الأجلين وأطيبها عشر سِنِينَ } قال علي بن عاصم : فكان أبو هرون إذا حدث بهذا الحديث يقول : حدثني أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن ميكائيل عن الرفيع عن إسرافيل عن ذي العزة تبارك وتعالى : { أن موسى قَضَى أتم الأجلين وأطيبها عشر سِنِينَ } والفاء قيل : فصيحة أي فعقد العقدين وباشر موسى ما أريد منه فلما أتم الأجل { وَسَارَ بِأَهْلِهِ } قيل : نحو مصر بإذن من شعيب عليه السلام لزيارة والدته وأخيه وأخته وذوي قرابته وكأنه عليه السلام أقدمه على ذلك طول مدة الجنابة وغلبة ظنه خفاء أمره ، وقيل : سار نحو بيت المقدس وهذا أبعد عن القيل والقال .

{ ءانَسَ مِن جَانِبِ الطور } أي أبصر من الجهة التي تلي الطور لا من بعضه كما هو المتبادر ، وأصل الإيناس على ما قيل الإحساس فيكون أعم من الإبصار ، وقال الزمخشري : هو الإبصار البيت الذي لا شبهة فيه ومنه إنسان العين لأنه يبين به الشيء والإنس لظهورهم كما قيل : الجن لاستتارهم ، وقيل : هو إبصار ما يؤنس به .

{ نَارًا } استظهر بعضهم أن المبصر كان نوراً حقيقة إلا أنه عبر عنه بالنار اعتباراً لاعتقاد موسى عليه السلام ، وقال بعض العارفين : كان المبصر في صورة النار الحقيقية وأما حقيقته فوراء طور العقل إلا أن موسى عليه السلام ظنه النار المعروفة { قَالَ لأهله امكثوا } أي أقيموا مكانكم وكان معه عليه السلام على قول امرأته وخادم ويخاطب الاثنان بصيغة الجمع ، وعلى قول آخر كان معه ولدان له أيضا اسم الأكبر جير شوم واسم الأصغر اليعازر ولداً له زمان إقامته عند شعيب وهذا مما يتسنى على القول بأنه عليه السلام دخل على زوجته قبل الشروع فيما أريد منه ، وأما على القول بأنه لم يدخل عليها حتى أتم الأجل فلا يتسنى إلا بالتزام أنه عليه السلام مكث بعد ذلك سنين ، وقد قيل به ، أخرج عبد بن حميد .

وابن المنذر . وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : قضى موسى عشر سنين ثم مكث بعد ذلك عشراً أخرى ، وعن وهب أنه عليه السلام ولد له ولد في الطريق ليلة إيناس النار ، وفي «البحر » أنه عليه السلام خرج بأهله وماله في فصل الشتاء وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام وامرأته حامل لا يدري أليلاً تضع أم نهاراً فسار في البرية لا يعرف طرقها فالجأه السير إلى جانب الطور المغربي الأيمن في ليلة ملمة مثلجة شديدة البرد ، وقيل : كان لغيرته على حرمه يصحب الرفقة ليلاً ويفارقهم نهاراً فأضل الطريق يوماً حتى أدركه الليل فأخذ امرأته الطلق فقدح زنده فأصلد فنظر فإذا نار تلوح من بعد فقال امكثوا { إِنّي ءانَسْتُ نَاراً لَّعَلّي ءاتِيكُمْ مّنْهَا بِخَبَرٍ } أي بخبر الطريق بأن أجد عندها من يخبرني به وقد كانوا كما سمعت ضلوا الطريق ، والجملة استئناف في معنى التعليل للأمر { أَوْ جَذْوَةٍ } أي عود غليظ سواء كان في رأسه نار كما في قوله :

وألقى على قيس من النار جذوة *** شديداً عليها جرها والتهابها

أو لم تكن كما في قوله :

باتت حواطب ليلى يلتمسن لها *** جزل الجذا غير خوار ولا دعر

ولذا بينت كما قال بعض المحققين بقوله تعالى : { مِنَ النار } وجعلها نفس النار للمبالغة كأنها لتشبث النا ربها استحالت ناراً ، وقال الراغب : الجذوة ما يبقى من الحطب بعد الالتهاب ، وفي معناه قول أبي حيان : عود فيه نار بلا لهب ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : هي عود من حطب فيه النار .

/ وأخرج هو وجماعة عن قتادة أنها أصل شجرة في طرفها النار ، قيل : فتكون من على هذا للابتداء ، والمراد بالنار هي التي آنسها .

وقرأ الأكثر { جَذْوَةٍ } بكسر الجيم . والأعمش . وطلحة . وأبو حيوة . وحمزة بضمها { لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } تستدفئون وتتسخنون بها ، وفيه دليل على أنهم أصابهم برد .