تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَيۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡ أَوۡ يُعَذِّبَهُمۡ فَإِنَّهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (128)

{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

لما جرى يوم " أحد " ما جرى ، وجرى على النبي صلى الله عليه وسلم مصائب ، رفع الله بها درجته ، فشج رأسه وكسرت رباعيته ، قال " كيف يفلح قوم شجوا نبيهم " وجعل يدعو على رؤساء من المشركين مثل أبي سفيان بن حرب ، وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو ، والحارث بن هشام ، أنزل الله تعالى على رسوله نهيا له عن الدعاء عليهم باللعنة والطرد عن رحمة الله { ليس لك من الأمر شيء } إنما عليك البلاغ وإرشاد الخلق والحرص على مصالحهم ، وإنما الأمر لله تعالى هو الذي يدبر الأمور ، ويهدي من يشاء ويضل من يشاء ، فلا تدع عليهم بل أمرهم راجع إلى ربهم ، إن اقتضت حكمته ورحمته أن يتوب عليهم ويمن عليهم بالإسلام فعل ، وإن اقتضت حكمته إبقاءهم على كفرهم وعدم هدايتهم ، فإنهم هم الذين ظلموا أنفسهم وضروها وتسببوا بذلك ، فعل ، وقد تاب الله على هؤلاء المعينين وغيرهم ، فهداهم للإسلام رضي الله عنهم ، وفي هذه الآية مما يدل على أن اختيار الله غالب على اختيار العباد ، وأن العبد وإن ارتفعت درجته وعلا قدره قد يختار شيئا وتكون الخيرة والمصلحة في غيره ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء فغيره من باب أولى ففيها أعظم رد على من تعلق بالأنبياء أو غيرهم من الصالحين وغيرهم ، وأن هذا شرك في العبادة ، نقص في العقل ، يتركون من الأمر كله له ويدعون من لا يملك من الأمر مثقال ذرة ، إن هذا لهو الضلال البعيد ، وتأمل كيف لما ذكر تعالى توبته عليهم أسند الفعل إليه ، ولم يذكر منهم سببا موجبا لذلك ، ليدل ذلك على أن النعمة محض فضله على عبده ، من غير سبق سبب من العبد ولا وسيلة ، ولما ذكر العذاب ذكر معه ظلمهم ، ورتبه على العذاب بالفاء المفيدة للسببية ، فقال { أو يعذبهم فإنهم ظالمون } ليدل ذلك على كمال عدل الله وحكمته ، حيث وضع العقوبة موضعها ، ولم يظلم عبده بل العبد هو الذي ظلم نفسه ،

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَيۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡ أَوۡ يُعَذِّبَهُمۡ فَإِنَّهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (128)

121

( أو يتوب عليهم ) . .

فإن انتصار المسلمين قد يكون للكافرين عظة وعبرة ، وقد يقودهم إلى الإيمان والتسليم ، فيتوب الله عليهم من كفرهم ، ويختم لهم بالإسلام والهداية . .

( أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) . .

يعذبهم بنصر المسلمين عليهم . أو بأسرهم . أو بموتهم على الكفر الذي ينتهي بهم إلى العذاب . . جزاء لهم على ظلمهم بالكفر ، وظلمهم بفتنة المسلمين ، وظلمهم بالفساد في الأرض ، وظلمهم بمقاومة الصلاح الذي يمثله منهج الإسلام للحياة وشريعته ونظامه . . إلى آخر صنوف الظلم الكامنة في الكفر والصد عن سبيل الله .

وعلى أية حال فهي حكمة الله ، وليس لبشر منها شيء . . حتى رسول الله [ ص ] يخرجه النص من مجال هذا الأمر ، ليجرده لله وحده - سبحانه - فهو شأن الألوهية المتفردة بلا شريك .

بذلك ينسلخ المسلمون بأشخاصهم من هذا النصر : من أسبابه ومن نتائجه ! وبذلك يطامنون من الكبر الذي يثيره النصر في نفوس المنتصرين ، ومن البطر والعجب والزهو الذي تنتفخ به أرواحهم وأوداجهم ! وبذلك يشعرون أن ليس لهم من الأمر شيء ، إنما الأمر كله لله أولا وأخيرا .

وبذلك يرد أمر الناس - طائعهم وعاصيهم - إلى الله . فهذا الشأن شأن الله وحده - سبحانه . شأن هذه الدعوة وشأن هؤلاء الناس معها : طائعهم وعاصيهم سواء . . وليس للنبي [ ص ] وليس للمؤمننين معه إلا أن يؤدوا دورهم ، ثم ينفضوا أيديهم من النتائج ، وأجرهم من الله على الوفاء ، وعلى الولاء ، وعلى الأداء .

وملابسة أخرى في السياق اقتضت هذا التنصيص : ( ليس لك من الأمر شيء ) فسيرد في السياق قول بعضهم : ( هل لنا من الأمر من شيء ؟ ) . . وقولهم : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . . . ليقول لهم : إن أحدا ليس له من الأمر من شيء . لا في نصر ولا في هزيمة . إنما الطاعة والوفاء والأداء هي المطلوبة من الناس . وأما الأمر بعد ذلك فكله لله . ليس لأحد منه شيء . ولا حتى لرسول الله . . فهي الحقيقة الأصيلة في التصور الإسلامي . وإقرارها في النفوس أكبر من الأشخاص وأكبر من الأحداث ، وأكبر من شتى الاعتبارات . .

/خ179

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لَيۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡ أَوۡ يُعَذِّبَهُمۡ فَإِنَّهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (128)

ثم اعترض بجملة دَلَّت على أنّ الحُكْم في الدنيا والآخرة له وحده لا شريك له ، فقال : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } أي : بل الأمر كلّه إلي ، كما قال : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ الرعد : 40 ] وقال { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ البقرة : 272 ] . وقال { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ القصص : 56 ] .

قال محمد بن إسحاق في قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } أي : ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم .

ثم ذكر تعالى بقية الأقسام فقال : { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } أي : مما هم فيه من الكفر ويهديهم بعد الضلالة { أَوْ يُعَذِّبَهُمْ } أي : في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم ؛ ولهذا قال : { فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } أي : يستحقون ذلك .

وقال البخاري : حدثنا حِبّان بن مُوسى ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، حدثني سالم ، عن أبيه : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية من الفجر{[5650]} اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلانًا وفُلانًا " بعد ما يقول : " سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، ربنا ولك الحمد " فأنزل الله تعالى{[5651]} { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ [ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ] {[5652]} } .

وهكذا رواه النسائي ، من حديث عبد الله بن المبارك وعبد الرزاق ، كلاهما ، عن مَعْمَر{[5653]} ، به .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النَّضْر ، حدثنا أبو عقيل - قال أحمد : وهو عبد الله بن عقيل ، صالح الحديث ثقة - قال : حدثنا عُمَر بن حمزة ، عن سالم ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اللهم العن فلانا ، اللهم العن الحارث بن هِشامِ ، اللهم العن سُهَيلَ بنَ عَمْرو ، اللهم العن صَفْوانَ بْنَ أُمَيَّةَ " . فنزلت هذه الآية : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } فَتِيبَ عليهم كلّهم{[5654]} .

وقال أحمد : حدثنا أبو معاوية الغَلابي ، حدثنا خالد بن الحارث ، حدثنا محمد بن عجْلان ، عن نافع ، عن عبد الله ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو على أربعة قال : فأنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ [ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ] {[5655]} } قال : وهداهم الله للإسلام{[5656]} .

وقال محمد بن عَجْلان ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على رجال من المشركين يُسَمِّيهم بأسمائهم ، حتى أنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } الآية .

وقال البخاري أيضًا : حَدّثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا إبراهيم بن سَعْد ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيَّب ، وأبي سلمة بن{[5657]} عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يَدْعو على أحد - أو يدعو لأحد - قَنَتَ بعد الركوع ، وربما قال - إذا قال : " سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد - : " اللَّهُمَّ انْجِ الْوَلِيد بن الوليدِ ، وسَلَمَة بْنَ هشَامٍ ، وعَيَّاشَ بْنَ أبِي رَبِيعَةَ ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَر ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسَنِيِّ يُوسُفَ " . يجهر بذلك ، وكان يقول - في بعض صلاته في صلاة الفجر - : " اللهم العن فلانا وفلانا " لأحياء من أحياء العرب ، حتى أنزل الله { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } الآية{[5658]} .

وقال البخاري : قال حُمَيْد وثابت ، عن أنس بن مالك : شُجّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحُد ، فقال : " كَيْفَ يُفْلِحُ قُوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ ؟ " . فنزلت : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } وقد أسند هذا الحديث الذي عَلَّقه البخاري رحمه الله{[5659]} .

وقال البخاري : في غزوة أُحُد : حدثنا يحيى بن عَبْد الله السلمي ، حدثنا عبد الله - أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، حَدّثَني سالم بن عبد الله ، عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - إذا رفع رأسه من الركوع ، في الركعة الأخيرة من الفجر - : " اللهم العن فلانا وفلانا وَفُلانًا " بعد ما يقول : " سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، ربنا ولك الحمد " . فأنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } [ إلى قوله : { فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } ] {[5660]} .

وعن حنظلة بن أبي سفيان قال : سمعت سالم بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على صفوانَ بن أمَيّة ، وسُهَيل بن عمرو ، والحارث بن هشام ، فنزلت : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ [ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ ]{[5661]} فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }{[5662]} .

هكذا ذكر هذه الزيادة البخاري معلقة مرسلة مسندة متصلة في مسند أحمد متصلة آنفا .

وقال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيم ، حدثنا حُمَيد ، عن أنس ، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كُسرَتْ رَبَاعيتُهُ يومَ أُحدُ ، وشُجَّ في جبهته حتى سال الدم على وجهه ، فقال : " كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ ، وهو يدعوهم إلى ربهم ، عز وجل " . فأنزل الله تعالى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }

انفرد به مسلم ، فرواه{[5663]} [ عن ]{[5664]} القعنبي ، عن حَمّاد ، عن ثابت ، عن أنس ، فذكره{[5665]} .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا الحسين بن واقد ، عن مطر ، عن قتادة قال : أصيب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكُسرت رَبَاعيته ، وفرق حاجبه ، فوقع وعليه درعان والدم يسيل ، فمر به سالم مولى أبي حذيفة ، فأجلسه ومسح عن وجهه ، فأفاق وهو يقول : " كَيْفَ بِقَوْمٍ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ ، وهو يدعوهم إلى اللهِ ؟ " فأنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ [ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ] {[5666]} } .

وكذا رواه عبدُ الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة ، بنحوه ، ولم يقل : فأفاق{[5667]} .


[5650]:في جـ، ر، أ: "من الفجر يقول".
[5651]:في أ: "عز وجل".
[5652]:زيادة من جـ، ر، وفي هـ: "الآية".
[5653]:صحيح البخاري برقم (4069، 4559، 7346) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11075)
[5654]:المسند (2/93).
[5655]:زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "إلى آخر الآية".
[5656]:المسند (2/104).
[5657]:في جـ، ر: "عن".
[5658]:صحيح البخاري برقم (4560).
[5659]:صحيح البخاري (7/365) "فتح"، وسيأتي حديث حميد موصولا عن أحمد. أما حديث ثابت فقد وصله مسلم برقم (1791).
[5660]:زيادة من جـ، ر، ، وفي هـ: "الآية".
[5661]:في جـ، ر: "إلى قوله".
[5662]:صحيح البخاري برقم (4069).
[5663]:في جـ: "ورواه".
[5664]:زيادة من ر.
[5665]:المسند (3/99) وصحيح مسلم برقم (1791).
[5666]:زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
[5667]:تفسير الطبري (7/197، 198) وتفسير عبد الرزاق (2/135).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَيۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡ أَوۡ يُعَذِّبَهُمۡ فَإِنَّهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (128)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنّهُمْ ظَالِمُونَ }

يعني بذلك تعالى ذكره : ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم ، أو يتوب عليهم ، أو يعذبهم ، فإنهم ظالمون ، ليس لك من الأمر شيء ، فقوله : { أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } منصوب عطفا على قوله : { أوْ يَكْبِتَهُمْ } . وقد يحتمل أن يكون تأويله : ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب عليهم ، فيكون نصب «يتوب » بمعنى «أو » التي هي في معنى «حتى » . والقول الأول أولى بالصواب ، لأنه لا شيء من أمر الخلق إلى أحد سوى خالقهم قبل توبة الكفار وعقابهم وبعد ذلك . وتأويل قوله : { لَيْسَ لكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } : ليس إليك يا محمد من أمر خلقي إلا أن تنفذ فيهم أمري ، وتنتهي فيهم إلى طاعتي ، وإنما أمرهم إليّ والقضاء فيهم بيدي دون غيري أقضي فيهم ، وأحكم بالذي أشاء من التوبة على من كفر بي وعصاني ، وخالف أمري ، أو العذاب إما في عاجل الدنيا بالقتل والنقم المبيرة ، وإما في آجل الاَخرة بما أعددت لأهل الكفر بي . كما :

حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } : أي ليس لك من الحكم في شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم ، أو أتوب عليهم برحمتي ، فإن شئت فعلت . أو أعذبهم بذنوبهم ، { فإنّهُمْ ظَالِمُونَ } أي قد استحقوا ذلك بمعصيتهم إياي .

وذكر أن الله عزّ وجلّ إنما أنزل هذه الاَية على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه لما أصابه بأحد ما أصابه من المشركين ، قال كالاَيس لهم من الهدى أو من الإنابة إلى الحقّ : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بنبّيهم » . ذكر الرواية بذلك .

حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا حميد ، قال : قال أنس : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وكسرت رباعيته ، وشجّ ، فجعل يمسح عن وجهه الدم ويقول : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضّبُوا نَبِيّهُمْ بالدّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى رَبّهِمْ ؟ » فأنزلت : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن حميد ، عن أنس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن حميد الطويل ، عن أنس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه .

حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شجّ في جبهته ، وكسرت رباعيته : «لا يُفْلِحُ قَوْمٌ صَنَعُوا هَذَا بِنَبِيّهِمْ » فأوحى الله إليه : { لَيْس لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيّءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِم أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .

حدثني يعقوب عن ابن علية ، قال : حدثنا ابن عون ، عن الحسن أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال يوم أُحد : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ أدْمَوْا وَجْهَ نَبِيّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى اللّهِ عَزّ وَجَلّ » فنزلت : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .

حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن حميد ، عن أنس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحو ذلك .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } ذكر لنا أن هذه الاَية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ، وقد جرح نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في وجهه ، وأصيب بعض رباعيته ، فقال وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضّبُوا وَجْهَ نَبِيّهِمْ بالدّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى رَبّهِمْ » فأنزل الله عزّ وجلّ : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن مطر ، عن قتادة ، قال : أصيب النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أُحد وكسرت رباعيته ، وفرق حاجبه ، فوقع وعليه درعان والدم يسيل ، فمرّ به سالم مولى أبي حذيفة ، فأجلسه ، ومسح عن وجهه ، فأفاق وهو يقول : «كَيْفَ بِقَوْمٍ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى اللّهِ » فأنزل الله تبارك وتعالى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .

حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } . . . الاَية ، قال : قال الربيع بن أنس ، أنزلت هذه الاَية على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد وقد شجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه ، وأصيبت رباعيته ، فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم ، فقال : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ أدْمَوا وَجْهَ نَبِيّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى اللّهِ وَهُمْ يَدْعُونَهُ إلى الشّيْطانِ وَيَدْعُوهُمْ إلى الهُدَى وَيَدْعُونَهُ إلى الضّلالَةِ ، ويَدْعُوهُمْ إلى الجَنّةِ وَيَدْعُونَهُ إلى النّارِ » فهمّ أن يدعو عليهم ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } فكفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء عليهم .

حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } . . . الاَية كلها ، فقال : جاء أبو سفيان من الحول غضبان لما صنع بأصحابه يوم بدر ، فقاتل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوم أُحد قتالاً شديدا ، حتى قتل منهم بعدد الأسارى يوم بدر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة علم الله أنها قد خالطت غضبا : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضّبُوا وَجْهَ نَبِيّهِمْ بالدّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى الإسْلامِ » فقال الله عزّ وجلّ : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : أن رباعية النبيّ صلى الله عليه وسلم أصيبت يوم أُحد ، أصابها عتبة بن أبي وقاص ، وشجّه في وجهه ، وكان سالم مولى أبي حذيفة يغسل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الدم ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ صَنَعُوا بِنَبِيّهِمْ هَذَا » فأنزل الله عزّ وجلّ : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، وعن عثمان الجزري ، عن مقسم : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي وقاص يوم أحد حين كسر باعيته ، ووثأ وجهه ، فقال : «اللّهُمّ لا تُحِلْ عَلَيْهِ الحَوْلَ حتى يَمُوتَ كافِرا ! » قال : فما حال عليه الحول حتى مات كافرا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : شجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم في فرق حاجبه ، وكسرت رباعيته . قال ابن جريج : ذكر لنا أنه لما جرح ، جعل سالم مولى أبي حذيفة يغسل الدم عن وجهه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضّبُوا وَجْهَ نَبِيّهِمْ بالدّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى اللّهِ ؟ » . فأنزل الله عزّ وجلّ : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } .

وقال آخرون : بل نزلت هذه الاَية على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، لأنه دعا على قوم ، فأنزل الله عزّ وجل : ليس الأمر إليك فيهم . ذكر من الرواية بذلك :

حدثني يحيى بن حبيب بن عربي ، قال : حدثنا خالد بن الحرث ، قال : حدثنا محمد بن عجلان ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يدعو على أربعة نفر ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } قال : وهداهم الله للإسلام .

حدثني أبو السائب سلم بن جنادة ، قال : حدثنا أحمد بن سفيان ، عن عمر بن حمزة ، عن سالم ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللّهُمّ الْعَنْ أبا سُفْيانَ ! اللّهُمّ الْعَنِ الحَارِثَ ابْنَ هِشامٍ ! اللّهُمّ الْعَنْ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ ! » فنزلت : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .

حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة ، عن عبد الله بن كعب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام ، قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر ، فلما رفع رأسه من الركعة الثانية ، قال : «اللّهُمّ أنْجٍ عَيّاشَ بْنَ أبي رَبِيعَةَ وَسَلْمَةَ بْنَ هِشامٍ وَالَولِيدَ بْنَ الوَلِيدِ ، اللّهُمّ أنْجِ المُسْتَضْعفينَ مِنَ المُسْلِمينَ ، اللّهُمّ اشْدُدْ وَطأتَكَ على مُضَرَ ، اللّهُمّ سِنِينَ كَسِنِينَ آلِ يُوسَف ! » فأنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِم } . . . الاَية .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، أخبره عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنهما سمعا أبا هريرة يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين يفرغ في صلاة الفجر من القراءة ، ويكبر ويرفع رأسه : «سَمِعَ الله لمن حَمِدَهْ ، رَبّنَا وَلَكَ الحَمْدُ » ثم يقول وهو قائم : «الّلهُمّ أنْجِ الولِيدَ بْنَ الوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشامٍ وعَيّاشَ بْن أبي رَبيعَةَ والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ، اللّهُمّ اشْدُدْ وَطأتَكَ على مُضرَ ، وَاجْعَلْها عَلَيْهِمْ كَسِني يُوسُفَ ، اللّهُمّ الْعَنِ لْحْيانَ وَرعلاً وَذَكْوَانَ وعُصَيّةُ عَصَتِ اللّهَ وَرَسُولَهُ » . ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزل قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .