{ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ } وهو الصوت الذي يسمع من السحاب المزعج للعباد ، فهو خاضع لربه مسبح بحمده ، { و } تسبح { الْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ } أي : خشعا لربهم خائفين من سطوته ، { وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ } وهي هذه النار التي تخرج من السحاب ، { فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ } من عباده بحسب ما شاءه وأراده وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ أي : شديد الحول والقوة فلا يريد شيئا إلا فعله ، ولا يتعاصى عليه شيء ولا يفوته هارب .
فإذا كان هو وحده الذي يسوق للعباد الأمطار والسحب التي فيها مادة أرزاقهم ، وهو الذي يدبر الأمور ، وتخضع له المخلوقات العظام التي يخاف منها ، وتزعج العباد وهو شديد القوة - فهو الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له .
ولهذا قال : { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ }
والرعد . . الظاهرة الثالثة لجو المطر والبرق والرعد . . هذا الصوت المقرقع المدوي . إنه أثر من آثار الناموس الكوني ، الذي صنعه الله - أيا كانت طبيعته وأسبابه - فهو رجع صنع الله في هذا الكون ، فهو حمد وتسبيح بالقدرة التي صاغت هذا النظام . كما أن كل مصنوع جميل متقن يسبح ويعلن عن حمد الصانع والثناء عليه بما يحمله من آثار صنعته من جمال وإتقان . . وقد يكون المدلول المباشر للفظ يسبح هو المقصود فعلا ، ويكون الرعد( يسبح )فعلا بحمد الله . فهذا الغيب الذي زواه الله عن البشر لا بد أن يتلقاه البشر بالتصديق والتسليم وهم لا يعلمون من أمر هذا الكون ولا من أمر أنفسهم إلا القليل !
وقد اختار التعبير أن ينص على تسبيح الرعد بالحمد اتباعا لمنهج التصوير القرآني في مثل هذا السياق ، وخلع سمات الحياة وحركاتها على مشاهد الكون الصامتة لتشارك في المشهد بحركة من جنس حركة المشهد كله - كما فصلت هذا في كتاب التصوير الفني في القرآن - والمشهد هنا مشهد أحياء في جو طبيعي . وفيه الملائكة تسبح من خيفته ، وفيه دعاء لله ، ودعاء للشركاء . وفيه باسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه . . ففي وسط هذا المشهد الداعي العابد المتحرك اشترك الرعد ككائن حي بصوته في التسبيح والدعاء . .
ثم يكمل جو الرهبة والابتهال والبرق والرعد والسحاب الثقال . . بالصواعق يرسلها فيصيب بها من يشاء . والصواعق ظاهرة طبيعية ناشئة من تركيب الكون على هذا المنوال ؛ والله يصيب بها أحيانا من غيروا ما بأنفسهم واقتضت حكمته ألا يمهلهم ، لعلمه أن لا خير في إمهالهم ، فاستحقوا الهلاك . .
والعجيب أنه في هول البرق والرعد والصواعق ، وفي زحمة تسبيح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وزمجرة العواصف بغضبه . . في هذا الهول ترتفع أصوات بشرية بالجدل في الله صاحب كل هذه القوى وباعث كل هذه الأصوات التي ترتفع على كل جدال وكل محال :
( وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ) !
وهكذا تضيع أصواتهم الضعيفة في غمرة هذا الهول المتجاوب بالدعاء والابتهال والرعد والقرقعة والصواعق ، الناطقة كلها بوجود الله - الذي يجادلون فيه - وبوحدانيته واتجاه التسبيح والحمد إليه وحده من أضخم مجالي الكون الهائل ، ومن الملائكة الذين يسبحون من خيفته [ وللخوف إيقاعه في هذا المجال ] فأين من هذا كله أصوات الضعاف من البشر وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ? !
ومعنى قوله : وَيُسَبّحُ الرّعْدُ بِحَمْدِهِ ويعظم الله الرعدُ ويمجده ، فيثنى عليه بصفاته ، وينزّهه مما أضاف إليه أهل الشرك به ومما وصفوه به من اتخاذ الصاحبة والولد ، تعالى ربنا وتقدّس .
وقوله : مِنْ خِيفَتِهِ يقول : وتسبح الملائكة من خيفة الله ورهبته .
وأما قوله : وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ فقد بيّنا معنى الصاعقة فيما مضى بما أغنى عن إعادته بما فيه الكفاية من الشواهد ، وذكرنا ما فيها من الرواية .
وقد اختلف فيمن أنزلت هذه الآية ، فقال بعضهم : نزلت في كافر من الكفار ذَكَرَ الله تعالى وتقدس بغير ما ينبغي ذكره ، فأرسل عليه صاعقة أهلكته . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عفانُ ، قال : حدثنا أبانُ بن يزيد ، قال : حدثنا أبو عمران الجونيّ ، عن عبد الرحمن بن صحُار العبديّ ، أنه بلغه أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى جبّار يدعوه ، فقال : «أرأيتم ربكم ، أذهبٌ هو أم فضة هو أم لؤلؤ هو ؟ »قال : فبينما هو يجادلهم ، إذ بعث الله سحابة فرعدت ، فأرسل الله عليه صاعقة فذهبت بقَحْف رأسه فأنزل الله هذه الآية : وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي بكر بن عياش ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : جاء يهودي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : أخبرني عن ربك من أيّ شيء هو ، من لؤلؤ أو من ياقوت ؟ فجاءت صاعقة فأخذته ، فأنزل الله : وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحمّاني ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن هاشم ، قال : حدثنا سيف ، عن أبي رَوق ، عن أبي أيوب ، عن عليّ ، قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد حدثني مَنْ هذا الذي تدعو إليه ، أياقوت هو ، أذهب هو ، أم ما هو ؟ قال : فنزلت على السائل الصاعقة فأحرقته ، فأنزل الله : وَيُرسِلُ الصّوَاعِقَ . . . الآية .
حدثنا محمد بن مرزوق ، قال : حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب ، قال : ثني عليّ بن أبي سارة الشيبانيّ ، قال : حدثنا ثابت البُنَاني ، عن أنس بن مالك ، قال : بَعَث النبيّ صلى الله عليه وسلم مرّة رجلاً إلى رجل من فراعنة العرب ، أن ادعه لي ، فقال : يا رسول الله ، إنه أعتى من ذلك ، قال : «اذْهَبْ إليه فادْعُهُ » قال : فأتاه ، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك ، فقال : من رسول الله ، وما الله ؟ أمن ذهب هو ، أم من فضة ، أم من نحاس ؟ قال : فأتى الرجل النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : «ارْجِعْ إلَيْهِ فادْعُهُ » قال : فأتاه فأعاد عليه وردّ عليه مثل الجواب الأوّل ، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : «ارْجِعْ إلَيْهِ فادْعُهُ » قال : فرجع إليه . فبينما هما يتراجعان الكلام بينهما ، إذ بعث الله سحابة بحِيال رأسه فرعدت ، فوقعت منها صاعقة فذهبت بقحْف رأسه ، فأنزل الله : وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ .
وقال آخرون : نزلت في رجل من الكفار أنكر القرآن وكذّب النبيّ صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذُكر لنا أن رجلاً أنكر القرآن وكذّب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأرسل الله عليه صاعقة فأهلكته ، فأنزل الله عزّ وجلّ فيه : وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللّهِ ، وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ .
وقال آخرون : نزلت في أربَدَ أخي لَبيد بن ربيعة ، وكان همّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وعامر بن الطفيل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : نزلت ، يعني قوله : وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بها مَنْ يَشاءُ في أربدَ أخي لبيد بن ربيعة ، لأنه قَدم أربد وعامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال عامر : يا محمد أأُسِلم وأكون الخليفة من بعدك ؟ قال : «لا » قال : فأكون على أهل الوبَر وأنت على أهل المدر ؟ قال : «لا » ، قال : فما ذاك ؟ قال : «أُعْطِيكَ أعِنّةَ الخَيْلِ تُقَاتِلُ عَلَيْها ، فإنّكَ رَجُلٌ فَارِسٌ » قال : أو ليست أعنة الخَيلِ بيدي ؟ أما والله لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً من بني عامر وقال لأربد : إما أن تكفينيه وأضربه بالسيف ، وإما أن أكفيكه وتضربه بالسيف . قال أربد : أكَفيكه واضربه فقال عامر بن الطفيل : يا محمد إن لي إليك حاجة ، قال : «ادْنُ » ، فلم يزل يدنو ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم ، «ادْنُ » حتى وضع يديه على ركبتيه وحنى عليه ، واستلّ أربد السيف ، فاستلّ منه قليلاً فلما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم بريقه ، تعوّذ بآية كان يتعوّذ بها ، فيبست يد أربد على السيف ، فبعث الله عليه صاعقة فأحرقته ، فذلك قول أخيه :
أخْشَى على أرْبَدَ الحُتُوفَ ولا *** أرْهَبُ نَوْءَ السّماك والأسَدِ
فَجّعَنِي البَرْقُ والصّوَاعقُ بالْ *** فارِسِ يَوْمَ الكَرِيهَةِ النّجُدِ
وقد ذكرت قبلُ خبر عبد الرحمن بن زيد بنحو هذه القصة . وقوله : وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللّهِ يقول : وهؤلاء الذين أصابهم الله بالصواعق أصابهم في حال خصومتهم في الله عزّ وجلّ لرسوله صلى الله عليه وسلم . وقوله : وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ يقول تعالى ذكره والله شديدة مما حلته في عقوبة من طغى عليه وعَتَا وتمادى في كفره . والمِحال : مصدر من قول القائل : ما حَلتُ فلانا فأنا أما حله مما حلة ومحالاً ، وفَعَلْتُ منه : مَحَلت أَمْحَل مَحْلاً : إذا عَرّض رجل رجلاً لما يهلكه ومنه قوله : «وما حِلٌ مُصَدّق » ومنه قول أعشى بني ثعلبة : فَرْعُ نَبْعٍ يَهْتَزّ فِي غُصُنِ المَجْدِ غزيرُ النّدَى شَدِيدُ المِحالِ
هكذا كان يُنشده معمر بن المثنى فيما حُدثت عن عليّ بن المغيرة عنه . وأما الرواة بعدُ فإنهم ينشدونه :
فَرْعُ فَرْعٍ يَهْتَزّ فِي غُصُنِ المَ *** جْدِ كثيرُ النّدَى عَظِيمُ المِحالِ
وفسّر ذلك معمر بن المثنى ، وزعم أنه عنى به العقوبة والمكر والنكال ومنه قول الاَخر :
وَلَبّسَ بينَ أقْوَامٍ فُكُلّ *** أعدّ له الشّغازِبَ والمِحالا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن هاشم ، قال : حدثنا سيف ، عن أبي رَوْق ، عن أبي أيوب ، عن عليّ رضي الله عنه : وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ قال : شديد الأخذ .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد : وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ قال : شديد القوّة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ أي القوّة والحيلة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : شَدِيدُ المِحالِ يعني : الهلاك ، قال : إذا محل فهو شديد . وقال قتادة : شديد الحِيلة .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا رجل ، عن عكرمة : وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ قال : المحال : جدال أربَدَ ، وهو شَدِيدُ المِحَالِ قال : ما أصاب أربدَ من الصاعقة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : وَهُوَ شَدِيدُ المِحال قال : قال ابن عباس : شديد الحَوْل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ قال : شديد القوّة . المحال : القوّة .
والقول الذي ذكرناه عن قتادة في تأويل المحال أنه الحيلة ، والقول الذي ذكره ابن جريج عن ابن عباس يدلان على أنهما كانا يقرآن : «وَهُوَ شَدِيدُ المَحَال » بفتح الميم ، لأن الحيلة لا يأتي مصدرها مِحَالاً بكسر الميم ، ولكن قد يأتي على تقدير المَفْعلة منها ، فيكون مَحَالة ، ومن ذلك قولهم : «المرء يعجز لا مَحالة » ، والمحالة في هذا الموضع : المفعلة من الحيلة . فأما بكسر الميم ، فلا تكون إلا مصدرا ، من ما حلت فلانا أما حلهِ محالاً ، والمماحلة بعيدة المعنى من الحيلة ، ولا أعلم أحدا قرأه بفتح الميم . فإذا كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بتأويل ذلك ما قلنا من القول .
جعل البرق آية نذارة وبشارة معاً لأنهم كانوا يَسِمون البرق فيتوسمون الغيث وكانوا يخشون صواعقه .
وإنشاء السحاب : تكوينه من عدم بإثارة الأبْخرة التي تتجمع سحاباً .
والسحاب : اسم جمع لسحابة . والثقال : جمع ثقيلة . والثقل كون الجسم أكثر كمية أجزاء من أمثاله ، فالثقل أمر نسبي يختلف باختلاف أنواع الأجسام ، فرب شيء يعد ثقيلاً في نوعه وهو خفيف بالنسبة لنوع آخر . والسحاب يكون ثقيلاً بمقدار ما في خلاله من البخار . وعلامة ثقله قربه من الأرض وبطء تنقله بالرياح . والخفيف منه يُسمى جهاماً .
وعطف الرعد على ذكر البرق والسحاب لأنه مقارنهما في كثير من الأحوال .
ولما كان الرعد صوتاً عظيماً جعل ذكره عبرة للسامعين لدلالة الرعد بلوازم عقلية على أن الله منزه عما يقوله المشركون من ادعاء الشركاء ، وكان شأن تلك الدلالة أن تبعث الناظر فيها على تنزيه الله عن الشريك جعل صوت الرعد دليلاً على تنزيه الله تعالى ، فإسناد التسبيح إلى الرعد مجاز عقلي . ولك أن تجعله استعارة مكنية بأن شبه الرعد بآدمي يُسبح الله تعالى ، وأثبت شيء من علائق المشبّه به وهو التسبيح ، أي قول سبحان الله .
والباء في { بحمده } للملابسة ، أي ينزه الله تنزيهاً ملابساً لحمده من حيث إنه دال على اقتراب نزول الغيث وهو نعمة تستوجبُ الحمد . فالقول في ملابسة الرعد للحمد مساوٍ للقول في إسناد التسبيح إلى الرعد . فالملابسة مجازية عقلية أو استعارة مكنية .
و { الملائكة } عطف على الرعد ، أي وتسبح الملائكة من خيفته ، أي من خوف الله .
و { من } للتعليل ، أي ينزهون الله لأجل الخوف منه ، أي الخوف مما لا يرضى به وهو التقصير في تنزيهه .
وهذا اعتراض بين تعداد المواعظ لمناسبة التعريض بالمشركين ، أي أن التنزيه الذي دلت عليه آيات الجو يقوم به الملائكة ، فالله غني عن تنزيهكم إياه ، كقوله : { إن تكفروا فإن الله غني عنكم } [ سورة الزمر : 7 ] ، وقوله : { وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد } [ سورة إبراهيم : 8 ] .
واقتصر في العبرة بالصواعق على الإنذار بها لأنها لا نعمة فيها لأن النعمة حاصلة بالسحاب وأما الرعد فآلة من آلات التخويف والإنذار . كما قال في آية سورة البقرة { أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت } [ سورة البقرة : 19 ] . وكان العرب يخافون الصواعق . ولقبوا خويلد بن نفيل الصَعِق لأنه أصابته صاعقة أحرقته .
ومن هذا القبيل قول النبي : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوّف الله بهما عباده ، أي بكسوفهما فاقتصر في آيتهما على الإنذار إذ لا يترقب الناس من كسوفهما نفعاً .
وجملة { وهم يجادلون في الله } في موضع الحال لأنه من متممات التعجب الذي في قوله : { وإن تعجب فعجب قولهم } [ الرعد : 5 ] الخ . فضمائر الغيبة كلها عائدة إلى الكفار الذين تقدم ذكرهم في صدر السورة بقوله : { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } [ الرعد : 1 ] وقوله : { أولئك الذين كفروا بربهم } [ الرعد : 5 ] وقوله : { ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه } [ الرعد : 7 ] . وقد أعيد الأسلوب هنا إلى ضمائر الغيبة لانقضاء الكلام على ما يصلح لموعظة المؤمنين والكافرين فتمحض تخويف الكافرين .
والمجادلة : المخاصمة والمراجعة بالقول . وتقدم في قوله تعالى : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } في سورة النساء ( 107 ) .
وقد فهم أن مفعول يجادلون } هو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون . فالتقدير : يجادلونك أو يجادلونكم ، كقوله : { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } في سورة الأنفال ( 6 ) .
والمجادلة إنما تكون في الشؤون والأحوال ، فتعليق اسم الجلالة المجرور بفعل { يجادلون } يتعين أن يكون على تقدير مضاف تدل عليه القرينة ، أي في توحيد الله أو في قدرته على البعث .
ومن جدلهم ما حكاه قوله : { أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم } في سورة يس ( 77 ، 78 ) .
والمِحال : بكسر الميم يحتمل هنا معنيين ، لأنه إن كانت الميم فيه أصلية فهو فِعال بمعنى الكيد وفعله مَحَل ، ومنه قولهم تمحل إذا تحيل .
جعل جدالهم في الله جدال كيد لأنهم يبرزونه في صورة الاستفهام في نحو قولهم : { من يُحيي العظام وهي رميم } فقوبل ب { شديد المحال } على طريقة المشاكلة ، أي وهو شديد المحال لا يغلبونه ، ونظيره { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } [ سورة آل عمران : 54 ] .
وقال نفطويه : هو من ماحل عن أمره ، أي جَادل . والمعنى : وهو شديد المجادلة ، أي قوي الحجة .
وإن كانت الميم زائدة فهو مفعل من الحول بمعنى القوة ، وعلى هذا فإبدال الواو ألفاً على غير قياس لأنه لا موجب للقلب لأن ما قبل الواو ساكن سكوناً حياً . فلعلهم قلبوها ألفاً للتفرقة بينه وبين مِحول بمعنى صبي ذي حول ، أي سنة .
وذكر الواحدي والطبري أخباراً عن أنس وابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في قضية عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة حين وردا المدينة يشترطان لدخولهما في الإسلام شروطاً لم يقبلها منهما النبي . فهمّ أرْبَد بقتل النبي فصرفه الله ، فخرج هو وعامر بن الطفيل قاصدين قومهما وتواعدا النبي بأن يجلبا عليه خيل بني عامر . فأهلك الله أربَد بصاعقة أصابته وأهلك عامراً بِغُدة نبتت في جسمه فمات منها وهو في بيت امرأة من بني سلول في طريقه إلى أرض قومه ، فنزلت في أربد { ويرسل الصواعق } وفي عامر { وهم يجادلون في الله } .
وذكر الطبري عن صحار العبدي : أنها نزلت في جبار آخر . وعن مجاهد : أنها نزلت في يهودي جادل في الله فأصابته صاعقة .
ولما كان عامر بن الطفيل إنما جاء المدينة بعد الهجرة وكان جدال اليهود لا يكون إلا بعد الهجرة أقدم أصحاب هذه الأخبار على القول بأن السورة مدنية أوْ أن هذه الآيات منها مدنية ، وهي أخبار ترجع إلى قول بعض الناس بالرأي في أسباب النزول . ولم يثبت في ذلك خبر صحيح صريح فلا اعتداد بما قالوه فيها ولا يخرج السورة عن عداد السور المكية . وفي هذه القصة أرسل عامر بن الطفيل قوله : « أغُدّة كغدة البعير وموت في بيت سلولية » مثلاً . ورثى لبيد بن ربيعة أخاه أربدَ بأبيات منها :
أخشى على أربد الحتوف ولا *** أرهب نَوْء السِماك والأسد{[254]}