وقوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } أي : نخصك وحدك بالعبادة
والاستعانة ، لأن تقديم المعمول يفيد الحصر ، وهو إثبات الحكم للمذكور ، ونفيه عما عداه . فكأنه يقول : نعبدك ، ولا نعبد غيرك ، ونستعين بك ، ولا نستعين بغيرك .
وقدم{[31]} العبادة على الاستعانة ، من باب تقديم العام على الخاص ، واهتماما بتقديم حقه تعالى على حق عبده .
و { العبادة } اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال ، والأقوال الظاهرة والباطنة . و { الاستعانة } هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع ، ودفع المضار ، مع الثقة به في تحصيل ذلك .
والقيام بعبادة الله والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة الأبدية ، والنجاة من جميع الشرور ، فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما . وإنما تكون العبادة عبادة ، إذا كانت مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصودا بها وجه الله . فبهذين الأمرين تكون عبادة ، وذكر { الاستعانة } بعد { العبادة } مع دخولها فيها ، لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى . فإنه إن لم يعنه الله ، لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر ، واجتناب النواهي .
( إياك نعبد وإياك نستعين ) . . وهذه هي الكلية الاعتقادية التي تنشأ عن الكليات السابقة في السورة . فلا عبادة إلا لله ، ولا استعانة إلا بالله .
وهنا كذلك مفرق طريق . . مفرق طريق بين التحرر المطلق من كل عبودية ، وبين العبودية المطلقة للعبيد ! وهذه الكلية تعلن ميلاد التحرر البشري الكامل الشامل . التحرر من عبودية الأوهام . والتحرر من عبودية النظم ، والتحرر من عبودية الأوضاع . وإذا كان الله وحده هو الذي يعبد ، والله وحده هو الذي يستعان ، فقد تخلص الضمير البشري من استذلال النظم والأوضاع والأشخاص ، كما تخلص من استذلال الأساطير والأوهام والخرافات . .
وهنا يعرض موقف المسلم من القوى الإنسانية ، ومن القوى الطبيعية . .
فأما القوى الإنسانية - بالقياس إلى المسلم - فهي نوعان : قوة مهتدية ، تؤمن بالله ، وتتبع منهج الله . . . وهذه يجب أن يؤازرها ، ويتعاون معها على الخير والحق والصلاح . . وقوة ضالة لا تتصل بالله ولا تتبع منهجه . وهذه يجب أن يحاربها ويكافحها ويغير عليها .
ولا يهولن المسلم أن تكون هذه القوة الضالة ضخمة أو عاتية . فهي بضلالها عن مصدرها الأول - قوة الله - تفقد قوتها الحقيقة . تفقد الغذاء الدائم الذي يحفظ لها طاقتها . وذلك كما ينفصل جرم ضخم من نجم ملتهب ، فما يلبث أن ينطفيء ويبرد ويفقد ناره ونوره ، مهما كانت كتلته من الضخامة . على حين تبقى لأية ذرة متصلة بمصدرها المشع قوتها وحرارتها ونورها : ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ) . . غلبتها باتصالها بمصدر القوة الأول ، وباستمدادها من النبع الواحد للقوة وللعزة جميعا .
وأما القوى الطبيعية فموقف المسلم منها هو موقف التعرف والصداقة ، لا موقف التخوف والعداء . ذلك أن قوة الإنسان وقوة الطبيعة صادرتان عن إرادة الله ومشيئته ، محكومتان بإرادة الله ومشيئته ، متناسقتان متعاونتان في الحركة والاتجاه .
إن عقيدة المسلم توحي إليه أن الله ربه قد خلق هذه القوى كلها لتكون له صديقا مساعدا متعاونا ؛ وأن سبيله إلى كسب هذه الصداقة أن يتأمل فيها . ويتعرف إليها ، ويتعاون وإياها ، ويتجه معها إلى الله ربه وربها . وإذا كانت هذه القوى تؤذيه أحيانا ، فإنما تؤذيه لأنه لم يتدبرها ولم يتعرف إليها ، ولم يهتد إلى الناموس الذي يسيرها .
ولقد درج الغربيون - ورثة الجاهلية الرومانية - على التعبير عن استخدام قوى الطبيعة بقولهم : " قهر الطبيعة " . . ولهذا التعبير دلالته الظاهرة على نظرة الجاهلية المقطوعة الصلة بالله ، وبروح الكون المستجيب لله . فأما المسلم الموصول القلب بربه الرحمن الرحيم ، الموصول الروح بروح هذا الوجود المسبحة لله رب العالمين .
فيؤمن بأن هنالك علاقة أخرى غير علاقة القهر والجفوة . أنه يعتقد أن الله هو مبدع هذه القوى جميعا . خلقها كلها وفق ناموس واحد ، لتتعاون على بلوغ الأهداف المقدرة لها بحسب هذا الناموس . وأنه سخرها للإنسان ابتداء ويسر له كشف أسرارها ومعرفة قوانينها . وأن على الإنسان أن يشكر الله كلما هيأ له أن يظفر بمعونة من إحداها . فالله هو الذي يسخرها له ، وليس هو الذي يقهرها : سخر لكم ما في الأرض جميعا . .
وإذن فإن الأوهام لن تملأ حسه تجاه قوى الطبيعة ؛ ولن تقوم بينه وبينها المخاوف . . إنه يؤمن بالله وحده ، ويعبد الله وحده ، ويستعين بالله وحده . وهذه القوى من خلق ربه . وهو يتأملها ويألفها ويتعرف أسرارها ، فتبذل له معونتها ، وتكشف له عن أسرارها . فيعيش معها في كون مأنوس صديق ودود . . وما أروع قول الرسول [ ص ] وهو ينظر إلى جبل أحد : " هذا جبل يحبنا ونحبه " . . ففي هذه الكلمات كل ما يحمله قلب المسلم الأول محمد [ ص ] من ود وألفة وتجاوب بينه وبين الطبيعة في أضخم وأخشن مجاليها .
{ إِيّاكَ نَعْبُدُ وإِيّاكَ نَسْتَعِينُ }
قال أبو جعفر : وتأويل قوله : إِيّاكَ نَعْبُدُ : لك اللهم نخشع ، ونذلّ ، ونستكين ، إقرارا لك يا ربنا بالربوبية لا لغيرك . كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : قال جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد : إياك نعبد ، إياك نوحد ونخاف ونرجو يا ربّنا لا غيرك .
وذلك من قول ابن عباس بمعنى ما قلنا ، وإنما اخترنا البيان عن تأويله بأنه بمعنى نخشع ، ونذل ، ونستكين ، دون البيان عنه بأنه بمعنى نرجو ونخاف ، وإن كان الرجاء والخوف لا يكونان إلا مع ذلة لأن العبودية عند جميع العرب أصلها الذلّة ، وأنها تسمي الطريقَ المُذَلّل الذي قد وطئته الأقدام وذللته السابلة : مُعَبّدا . ومن ذلك قول طَرَفة بن العبد :
تُبارِي عِتَاقا ناجياتٍ وأتْبَعَتْ *** وَظِيفا وَظِيفا فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبّدِ
يعني بالمَوْر : الطريق ، وبالمعبّد : المذلّل الموطوء . ومن ذلك قيل للبعير المذلل بالركوب في الحوائج : مُعَبّد ، ومنه سمي العبد عبدا لذلّته لمولاه . والشواهد من أشعار العرب وكلامها على ذلك أكثر من أن تحصى ، وفيما ذكرناه كفاية لمن وفق لفهمه إن شاء الله تعالى .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ .
قال أبو جعفر : ومعنى قوله : ( وإِيّاكَ نَسْتَعِينُ ) وإيّاك ربنا نستعين على عبادتنا إياك وطاعتنا لك وفي أمورنا كلها لا أحد سواك ، إذ كان من يكفر بك يستعين في أموره معبوده الذي يعبده من الأوثان دونك ، ونحن بك نستعين في جميع أمورنا مخلصين لك العبادة . كالذي :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثني بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس : وإِيّاكَ نَسْتَعِينُ قال : إياك : نستعين على طاعتك وعلى أمورنا كلها .
فإن قال قائل : وما معنى أمر الله عباده بأن يسألوه المعونة على طاعته ؟ أوَ جائز وقد أمرهم بطاعته أن لا يعينهم عليها ؟ أم هل يقول قائل لربه : إياك نستعين على طاعتك ، إلا وهو على قوله ذلك معان ، وذلك هو الطاعة ، فما وجه مسألة العبد ربه ما قد أعطاه إياه ؟ قيل : إن تأويل ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه وإنما الداعي ربه من المؤمنين أن يعينه على طاعته إياه ، داعٍ أن يعينه فيما بقي من عمره على ما كلفه من طاعته ، دون ما قد تَقَضّى ومضى من أعماله الصالحة فيما خلا من عمره . وجازت مسألة العبد ربّه ذلك لأن إعطاء الله عبده ذلك مع تمكينه جوارحه لأداء ما كلفه من طاعته وافترض عليه من فرائضه ، فضل منه جل ثناؤه تفضّل به عليه ، ولطف منه لطف له فيه ، وليس في تركه التفضل على بعض عبيده بالتوفيق مع اشتغال عبده بمعصيته وانصرافه عن محبته ، ولا في بسطه فضله على بعضهم مع إجهاد العبد نفسه في محبته ومسارعته إلى طاعته ، فساد في تدبير ولا جور في حكم ، فيجوز أن يجهل جاهل موضع حكم الله ، وأمره عبده بمسألته عونه على طاعته . وفي أمر الله جل ثناؤه عباده أن يقولوا : ( إيّاكَ نَعْبُدُ وإِيّاكَ نَسْتَعِينُ ) بمعنى مسألتهم إياه المعونة على العبادة أدل الدليل على فساد قول القائلين بالتفويض من أهل القدر ، الذين أحلوا أن يأمر الله أحدا من عبيده بأمر أو يكلفه فرض عمل إلا بعد إعطائه المعونة على فعله وعلى تركه .
ولو كان الذي قالوا من ذلك كما قالوا لبطلت الرغبة إلى الله في المعونة على طاعته ، إذ كان على قولهم مع وجود الأمر والنهي والتكليف حقا واجبا على الله للعبد إعطاؤه المعونة عليه ، سأله عبده ذلك أو ترك مسألة ذلك بل ترك إعطائه ذلك عندهم منه جور . ولو كان الأمر في ذلك على ما قالوا ، لكن القائل : ( إِيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ ) إنما يسأل ربه أن لا يجور . وفي إجماع أهل الإسلام جميعا على تصويب قول القائل : اللهم إنا نستعينك وتخطئتهم قول القائل : اللهم لا تجر علينا ، دليل واضح على خطأ ما قال الذين وصفت قولهم ، إذْ كان تأويل قول القائل عندهم : اللهم إنا نستعينك ، اللهم لا تترك معونتنا التي تَرْكُهَا جور منك .
فإن قال قائل : وكيف قيل : ( إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ ) فقدم الخبر عن العبادة ، وأخرت مسألة المعونة عليها بعدها ؟ وإنما تكون العبادة بالمعونة ، فمسألة المعونة كانت أحق بالتقديم قبل المعان عليه من العمل والعبادة بها . قيل : لما كان معلوما أن العبادة لا سبيل للعبد إليها إلا بمعونة من الله جل ثناؤه ، وكان محالاً أن يكون العبد عابدا إلا وهو على العبادة معانٌ ، وأن يكون معانا عليها إلا وهو لها فاعل كان سواء تقديم ما قدم منهما على صاحبه ، كما سواء قولك للرجل إذا قضى حاجتك فأحسن إليك في قضائها : قضيت حاجتي فأحسنت إليّ ، فقدمت ذكر قضائه حاجتك . أو قلت : أحسنت إليّ فقضيت حاجتي ، فقدمت ذكر الإحسان على ذكر قضاء الحاجة لأنه لا يكون قاضيا حاجتك إلا وهو إليك محسن ، ولا محسنا إليك إلا وهو لحاجتك قاض . فكذلك سواء قول القائل : اللهم إنا إياك نعبد فأعنّا على عبادتك ، وقوله : اللهم أعنا على عبادتك فإنا إياك نعبد .
قال أبو جعفر : وقد ظن بعض أهل الغفلة أن ذلك من المقدّم الذي معناه التأخير ، كما قال امرؤ القيس :
ولَوْ أَنّ ما أسْعَى لأدنَى مَعِيشَةٍ *** كَفانِي ولَمْ أَطْلُبْ قَلِيلٌ مِنَ المَالِ
يريد بذلك : كفاني قليل من المال ولم أطلب كثيرا . وذلك من معنى التقديم والتأخير ، ومن مشابهة بيت امرىء القيس بمعزلٍ من أجل أنه قد يكفيه القليل من المال ويطلب الكثير ، فليس وجود ما يكفيه منه بموجب له ترك طلب الكثير . فيكون نظير العبادة التي بوجودها وجود المعونة عليها ، وبوجود المعونة عليها وجودها ، ويكون ذكر أحدهما دالاّ على الاَخر ، فيعتدل في صحة الكلام تقديم ما قدم منهما قبل صاحبه أن يكون موضوعا في درجته ومرتبا في مرتبته . فإن قال : فما وجه تكراره : إِيّاكَ مع قوله : نَسْتَعِينُ وقد تقدم ذلك قبل نعبد ؟ وهلا قيل : إياك نعبد ونستعين ، إذْ كان المخبر عنه أنه المعبود هو المخبر عنه أنه المستعان ؟ قيل له : إن الكاف التي مع «إيّا » ، هي الكاف التي كانت تتصل بالفعل ، أعني بقوله : نَعْبُدُ لو كانت مؤخرة بعد الفعل . وهي كناية اسم المخاطب المنصوب بالفعل ، فكثُرّتْ ب«إيّا » متقدمة ، إذ كانت الأسماء إذا انفردت بأنفسها لا تكون في كلام العرب على حرف واحد ، فلما كانت الكاف من «إياك » هي كناية اسم المخاطب التي كانت تكون كافا وحدها متصلة بالفعل إذا كانت بعد الفعل ، ثم كان حظها أن تعاد مع كل فعل اتصلت به ، فيقال : اللهم إنا نعبدك ونستعينك ونحمدك ونشكرك وكان ذلك أفصح في كلام العرب من أن يقال : اللهم إنا نعبدك ونستعين ونحمد كان كذلك إذا قدمت كناية اسم المخاطب قبل الفعل موصولة ب«إيّا » ، كان الأفصح إعادتها مع كل فعل . كما كان الفصيح من الكلام إعادتها مع كل فعل ، إذا كانت بعد الفعل متصلة به ، وإن كان ترك إعادتها جائزا . وقد ظن بعض من لم يمعن النظر أن إعادة «إياك » مع «نستعين » بعد تقدمها في قوله : إياكَ نَعْبُدُ بمعنى قول عديّ بن زيد العبادي :
وجاعلُ الشّمْس مِصْرا لا خَفَاءَ به *** بينَ النّهارِ وبينَ اللّيْل قَدْ فَصَلاَ
بينَ الأشَجّ وبينَ قَيْسٍ باذِخٌ *** بَخْ بَخْ لوَالدِه وللمَوْلُودِ
وذلك جهل من قائله ؛ من أجل أن حظ «إياك » أن تكون مكرّرة مع كل فعل لما وصفنا آنفا من العلة ، وليس ذلك حكم «بين » لأنها لا تكون إذا اقتضت اثنين إلاّ تكريرا إذا أعيدت ، إذ كانت لا تنفرد بالواحد . وأنها لو أفردت بأحد الاسمين في حال اقتضائها اثنين كان الكلام كالمستحيل وذلك أن قائلاً لو قال : الشمس قد فصلت بين النهار ، لكان من الكلام خلْفا لنقصان الكلام عما به الحاجة إليه من تمامه الذي يقتضيه «بين » . ولو قال قائل : «اللهم إياك نعبد » لكان ذلك كلاما تاما . فكان معلوما بذلك أن حاجة كل كلمة كانت نظيرة «إياك نعبد » إلى «إياك » كحاجة «نعبد » إليها ، وأن الصواب أن تكرّر معها «إياك » ، إذ كانت كل كلمة منها جملة خبر مبتدأ ، وبينا حكم مخالفة ذلك حكم «بين » فيما وفق بينهما الذي وصفنا قوله .
{ إياك نعبد وإياك نستعين } ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد ، ووصف بصفات عظام تميز بها عن سائر الذوات وتعلق العلم بمعلوم معين خوطب بذلك ، أي يا من هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستعانة ، ليكون أدل على الاختصاص ، وللترقي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود ، فكأن المعلوم صار عيانا والمعقول مشاهدا والغيبة حضورا ، بني أول الكلام على ما هو مبادي حال العارف من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه والنظر في آلائه والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه ، ثم قفى بما هو منتهى أمره وهو أن يخوض لجة الوصول ويصير من أهل المشاهدة فيراه عيانا ويناجيه شفاها .
اللهم اجعلنا من الواصلين للعين دون السامعين للأثر ، ومن عادة العرب التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تطرية له وتنشيطا للسامع ، فيعدل من الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم وبالعكس ، كقوله تعالى { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم } وقوله : { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه } وقول امرئ القيس :
تطاول ليلك بالإثمد *** ونام الخلي ولم ترقد
وبات وباتت له ليلة *** كليلة ذي العائر الأرمد
وذلك من نبأ جاءني *** وخبرته عن أبي الأسود
وإيا ضمير منصوب منفصل ، وما يلحقه من الياء والكاف والهاء حروف زيدت لبيان التكلم والخطاب والغيبة لا محل لها من الإعراب ، كالتاء في أنت والكاف في أرأيتك . وقال الخليل إيا مضاف إليها ، واحتج بما حكاه عن بعض العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب ، وهو شاذ لا يعتمد عليه . وقيل هي الضمائر ، وإيا عمدة فإنها لما فصلت عن العوامل تعذر النطق بها مفردة فضم إليها إيا لتستقل به ، وقيل : الضمير هو المجموع . وقرئ { إياك } بفتح الهمزة و " هياك " بقلبها هاء .
والعبادة : أقصى غاية الخضوع والتذلل ومنه طريق معبد أي مذلل ، وثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة ، ولذلك لا تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى .
والاستعانة : طلب المعونة وهي : إما ضرورية ، أو غير ضرورية والضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه كاقتدار الفاعل وتصوره وحصول آلة ومادة يفعل بها فيها وعند استجماعها يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل . وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي ، أو يقرب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه ، وهذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف والمراد طلب المعونة في المهمات كلها ، أو في أداء العبادات ، والضمير المستكن في الفعلين للقارئ ومن معه من الحفظة ، وحاضري صلاة الجماعة . أو له ولسائر الموحدين . أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها ويجاب إليها ولهذا شرعت الجماعة وقدم .
المفعول للتعظيم والاهتمام به والدلالة على الحصر ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما ( معناه نعبدك ولا نعبد غيرك ) وتقديم ما هو مقدم في الوجود والتنبيه على أن العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولا وبالذات ، ومنه إلى العبادة لا من حيث إنها عبادة صدرت عنه بل من حيث إنها نسبة شريفة إليه ووصلة سنية بينه وبين الحق ، فإن العارف إنما يحق وصوله إذا استغرق في ملاحظة جناب القدس وغاب عما عداه ، حتى إنه لا يلاحظ نفسه ولا حالا من أحوالها إلا من حيث أنها ملاحظة له ومنتسبة إليه ، ولذلك فضل ما حكى الله عن حبيبه حين قال { لا تحزن إن الله معنا } على ما حكاه عن كليمه حين قال : { إن معي ربي سيهدين } . وكرر الضمير للتنصيص على أنه المستعان به لا غير ، وقدمت العبادة على الاستعانة ليتوافق رؤوس الآي ، ويعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة .
وأقول : لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحا واعتدادا منه بما يصدر عنه ، فعقبه بقوله : { وإياك نستعين } ليدل على أن العبادة أيضا مما لا يتم ولا يستتب له إلا بمعونة منه وتوفيق ، وقيل : الواو للحال والمعنى نعبدك مستعينين بك . وقرئ بكسر النون فيهما وهي لغة بني تميم فإنهم يكسرون حروف المضارعة سوى الياء إذا لم ينضم ما بعدها .
إذا أتم الحامِدُ حَمْد ربه يأخذ في التوجه إليه بإظهار الإخلاص له انتقالاً من الإفصاح عن حق الرب إلى إظهار مراعة ما يقتضيه حقه تعالى على عبده من إفراده بالعبادة والاستعانة . فهذا الكلام استئناف ابتدائي .
ومُفَاتَحَة العظماء بالتمجيد عند التوجه إليهم قَبْلَ أن يخاطَبوا طريقة عربية . روى أبو الفرج الأصفهاني عن حسان بن ثابت قال : كنتُ عند النعمان فَنادَمْتُه وأَكَلْتُ معه فبينَا أنا على ذلك معه في قُبَّة إذَا رجلٌ يَرْتجز حولَها :
أَصمَّ أمْ يَسمع ربُّ القبه *** يا أَوْهَبَ النَّاسِ لِعيسٍ صُلْبَه
ضَرَّابَةٍ بالمِشْغَرِ الأذِبَّة *** ذَاتِ هِبابٍ في يَدَيْها خُلْبَـهْ
في لاَحب كأنَّه الأَطِبَّهْ{[60]}
فقال النعمان : أليس بأبي أُمَامَة ؟ ( كنية النابغة ) قالوا : بلى ، قال : فأْذَنوا له فدخل .
والانتقال من أسلوب الحديث بطريق الغائب المبتدإِ من قوله : { الحمد لله } إلى قوله : { ملك يوم الدين } ، إلى أسلوب طريق الخطاب ابتداءً من قوله { إياك نعبد } إلى آخر السورة ، فن بديع من فنون نظم الكلام البليغ عند العرب ، وهو المسمى في علم الأدب العربي والبلاغة التفاتاً . وفي ضابط أسلوب الالتفات رأيان لأئمة علم البلاغة : أحدهما رأي مَن عدا السكاكي من أئمة البلاغة وهو أن المتكلم بعد أن يعبِّر عن ذات بأحد طرق ثلاثة من تكلم أو غيبة أو خطاب ينتقل في كلامه ذلك فيعبر عن تلك الذات بطريق آخر من تلك الثلاثة ، وخالفهم السكاكي فجعل مسمى الالتفات أن يعبِّر عن ذات بطريق من طرق التكلم أو الخطاب أو الغيبة عادلاً عن أحدهما الذي هو الحقيق بالتعبير في ذلك الكلام إلى طريق آخر منها .
ويظهر أثر الخلاف بين الجمهور والسكاكي في المحسِّن الذي يسمى بالتجريد في علم البديع مثل قول علقمة بن عبده في طالع قصيدته :
طَحَا بكَ قلبٌ في الحسان طروب ***
مخاطباً نفسه على طريقة التجريد ، فهذا ليس بالتفات عند الجمهور وهو معدود من الالتفات عند السكاكي ، فتسمية الالتفات التفاتاً على رأي الجمهور باعتبار أن عدول المتكلم عن الطريق الذي سلكه إلى طريق آخر يشبه حالة الناظر إلى شيء ثم يلتفت عنه ، وأما تسميته التفاتاً على رأي السكاكي فتجري على اعتبار الغالب من صور الالتفات دون صورة التجريد ، ولعل السكاكي التزم هذه التسمية لأنها تقررت من قبله فتابع هو الجمهور في هذا الاسم . ومما يجب التنبه له أن الاسم الظاهر معتبر من قبيل الغائب على كلا الرأيين ، ولذلك كان قوله تعالى : { إياك نعبد } التفاتاً على كلا الرأيين لأن ما سبق من أول السورة إلى قوله { إياك نعبد } تعْبير بالاسم الظاهر وهو اسم الجلالة وصفاته .
ولأهل البلاغة عناية بالالتفات لأن فيه تجديدَ أسلوب التعْبير عن المعنى بعينه تحاشياً من تكرر الأسلوب الواحد عدة مرار فيحصل بتجديد الأسلوب تجديد نشاط السامع كي لا يمل من إعادة أسلوب بعينه .
قال السكاكي في « المفتاح » بعد أن ذكر أن العرب يستكثرون من الالتفات : « أَفتراهم يحسنون قِرى الأشباح فيخالفون بين لون ولون وطَعْم وطَعْم ولا يحسنون قِرى الأرواح فيخالفون بين أسلوب وأسلوب » . فهذه فائدة مطردة في الالتفات . ثم إن البلغاء لا يقتصرون عليها غالباً بل يراعون للالتفات لطائف ومناسبات ولم يزل أهل النقد والأدب يستخرجون ذلك من مغاصه .
وما هنا التفاتٌ بديع فإن الحامد لما حمد الله تعالى ووصفه بعظيم الصفات بلغت به الفكرة منتهاهَا فتخيل نفسه في حضرة الربوبية فخاطب ربه بالإقبال ، كعكس هذا الالتفاتتِ في قول محمد بن بشير الخارجي ( نسبَة إلى بني خارجة قبيلة ) :
ذُممتَ ولم تُحمد وأدركتُ حاجةً *** تولَّى سواكم أَجرَها واصطناعها
أَبى لك كَسْبَ الحمدِ رأيٌ مقصِّرُ *** ونفسٌ أضاق اللَّهُ بالخير باعها
إذا هي حثتْه على الخير مــرة *** عصاها وإنْ هَمَّت بشرَ أطاعها
فخاطبه ابتداء ثم ذكر قصور رأيه وعدم انطباع نفسه على الخير فالتفت من خطابه إلى التعبير عنه بضمير الغيبة فقال : إذا هي حثته فكأنه تخيله قد تضاءل حتى غاب عنه ، وبعكس ذلك قوله تعالى : { والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي } [ العنكبوت : 23 ] لاعتبار تشنيع كفر المتحدَّث عنهم بأنهم كفروا بآيات صاحب ذلك الاسم الجليل ، وبعد تقرر ذلك انتقل إلى أسلوب ضمير المتكلم إذ هو الأصل في التعبير عن الأشياء المضافة إلى ذات المتكلم . ومما يزيد الالتفات وقعاً في الآية أنه تخلص من الثناء إلى الدعاء ولا شك أن الدعاء يقتضي الخطاب فكان قوله : { إياك نعبد } تخلصاً يجىء بعده : { اهدنا الصراط } ونظيره في ذلك قول النابغة في رثاء النعمان الغساني :
أبى غفلتي أَني إذا ما ذكرتـه *** تحرك داء في فُؤَادِيَ داخـــل
وأن تِلاَدِي إنْ نظرتُ وشكَّتِي *** ومُهري وما ضَمَّت إليَّ الأنامـل
حِباؤُك والعيسُ العتاقُ كأنهـا *** هِجان المَهى تُزْجى عليها الرحائل
وأبو الفتح ابن جني يسمى الالتفات « شَجاعة العربية » كأنه عنى أنه دليل على حدة ذهن البليغ وتمكنه من تصريف أساليب كلامه كيف شاء كما يتصرف الشجاع في مجال الوغي بالكر والفر .
و ( إياك ) ضمير خطاب في حالة النصب . والأظهر أن كلمة إيا جعلت ليَعْتَمِد عليها الضمير عند انفصاله ولذلك لزمتها الضمائر نحو : إياي تعني ، وإيَّاك أعني ، وإيَّاهم أرجو . ومن هنالك التزم في التحذير لأن الضمير انفصل عند التزام حذف العامل . ومن النحاة من جعل ( إيَّا ) ضميراً منفصلاً ملازماً حالة واحدة وجعل الضمائر التي معه أضيفت إليه للتأكيد . ومنهم من جعل ( إيَّا ) هو الضمير وجعل ما بعده حروفاً لبيان الضمير . ومنهم من جعل ( إيَّا ) اعتماداً للضمير كما كانت أيٌّ اعتماداً للمنادى الذي فيه ال . ومنهم من جعل ( إيَّا ) اسماً ظاهراً مضافاً للمضمَرات .
والعبادة فعل يدل على الخضوع أو التعظيم الزائدين على المتعارف بين الناس . وأما إطلاقها على الطاعة فهو مجاز .
والعبادة في الشرع أخص فتُعرَّف بأنها فعل ما يرضي الرب من خضوع وامتثال واجتناب ، أو هي فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيماً لربه ، وقال الرازي في تفسير قوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] > ا هـ فهي بهذا التفسير تشمل الامتثال لأحكام الشريعة كلها .
وقد فسر الصوفية العبادة بأنها فعل ما يرضي الرب ، والعبودية بالرضا بما يفعل الرب . فهي أقوى . وقال بعضهم : العبودية الوفاء بالعهود ، وحفظ الحدود ، والرضا بالموجود . والصبر على المفقود . وهذه اصطلاحات لا مشاحة فيها .
قال الفخر : ( ( مراتب العبادة ثلاث : الأولى أن يعبد الله طمعاً في الثواب وخوفاً من العقاب وهي العبادة ، وهي درجة نازلة ساقطة لأنه جعل الحق وسيلة لنيل المطلوب . الثانية أن يعبد الله لأجل أن يتشرف بعبادته والانتساب إليه بقبول تكاليفه وهي أعلى من الأولى إلا أنها ليست كاملة لأن المقصود بالذات غير الله . الثالثة أن يعبد الله لكونه إلها خالقاً مستحقاً للعبادة وكونه هو عبداً له ، وهذه أعلى المقامات وهو المسمى بالعبودية ) ) ا هـ .
قلت ولم يسم الإمام المرتبة الثالثة باسم والظاهر أنها ملحقة في الاسم بالمرتبة الثالثة أعني العبودية لأن الشيخ ابن سينا قال في « الإشارات » : ( ( العارف يريد الحق لا لشيء غيره ولا يُؤْثِر شيئاً على عرفانه وتعبُّدُه له فقط ولأنه مستحق للعبادة ولأنها نسبة شريفة إليه لا لرغبة أو رهبة ) ) ا هـ فجعلهما حالة واحدة .
وما ادعاه الفخر في سقوط الدرجة الأولى ونزول مرتبتها قد غلب عليه فيه اصطلاح غلاة الصوفية وإلا فإن العبادة للطمع والخوف هي التي دعا إليها الإسلام في سائر إرشاده ، وهي التي عليها جمهور المؤمنين وهي غاية التكليف ، كيف وقد قال تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] فإن بلغ المكلف إلى المرتبتين الأخريين فذلك فضل عظيم وقليل ما هم ، على أنه لا يخلو من ملاحظة الخوف والطمع في أحوال كثيرة ، نعم إن أفاضل الأمة متفاوتون في الاحتياج إلى التخويف والإطماع بمقدار تفاوتهم في العلم بأسرار التكليف ومصالحه وتفاوتهم في التمكن من مغالبة نفوسهم ، ومع ذلك لا محيص لهم عن الرجوع إلى الخوف في أحوال كثيرة والطمع في أحوال أكثر . وأعظم دليل على ما قلنا أن الله تعالى مدح في كتابه المتقين في مواضع جمة ودعا إلى التقوى ، وهل التقوى إلا كاسمهما بمعنى الخوف والاتقاء من غضب الله قال تعالى : { ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } [ الإسراء : 57 ] .
والمرتبة الثالثة هي التي أشار لها قوله صلى الله عليه وسلم لمن قال له كيف تُجهد نفسك في العبادة وقد غَفَر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال : " أفلا أكون عبداً شكوراً " لأن من الظاهر أن الشكر هنا على نعمة قد حصلت فليس فيه حظ للنفس بالطمع في المزيد لأن الغفران العام قد حصل له فصار الشكر لأجل المشكور لا غير وتمحض أنه لا لخوف ولا طمع{[61]} .
واعلم أن من أهم المباحث البحثَ عن سر العبادة وتأثيرها وسر مشروعيتها لنا وذلك أن الله تعالى خلق هذا العالم ليكون مظهراً لكمال صفاته تعالى : الوجود ، والعلم ، والقدرة . وجعل قبول الإنسان للكمالات التي بمقياسها يَعلم نسبة مبلغ علمه وقدرته من علم الله تعالى وقدرته ، وأودع فيه الروح والعقل اللذين بهما يزداد التدرج في الكمال ليكون غير قانع بما بلغه من المراتب في أوج الكمال والمعرفة ، وأرشده وهداه إلى ما يستعين به على مرامه ليحصل له بالارتقاء العاجل رُقيّ آجل لا يضمحل ، وجعل استعداده لقبول الخيرات كلها عاجلها وآجلها متوقفاً على التلقين من السَّفَرَة الموحَى إليهم بأصول الفضائل . ولما توقف ذلك على مراقبة النفس في نَفَرَاتها وشَرَدَاتها وكانت تلك المراقبة تحتاج إلى تذكر المُجازي بالخير وضده ، شُرعت العبادة لِتَذَكُّرِ ذلك المُجازي لأن عدم حضور ذاته واحتجابَه بسُبحات الجلال يُسَرِّب نسيانَه إلى النفوس ، كما أنه جعل نظامه في هذا العالم متصلَ الارتباط بين أفراده فأمرهم بلزوم آداب المعاشرة والمعاملة لئلا يفسُد النظام ، ولمراقبة الدوام على ذلك أيضاً شُرعت العبادة لتذكِّرَ به ، على أن في ذلك التذكر دوامَ الفكر في الخالق وشؤونه وفي ذلك تخلق بالكمالات تدريجاً فظهر أن العبادة هي طريق الكمال الذاتي والاجتماعي مَبدأً ونهايةً ، وبه يتضح معنى قوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] فالعبادة على الجملة لا تخرج عن كونها محقِّقة للمقصد من الخلق ، ولما كان سرُّ الخلق والغايةُ منه خفيةَ الإدراكِ عَرَّفنا الله تعالى إياها بمظهرها وما يحققها جمعاً لعظيم المعاني في جملة واحدة وهي جملة : { إلا ليعبدون } ، وقريب من هذا التقرير الذي نحوناه وأقل منه قول الشيخ ابن سينا في « الإشارات » : ( ( لما لم يكن الإنسان بحيث يستقل وحده بأمر نفسه إلا بمشاركة آخر من بني جنسه وبمعاوضة ومعارضة تجريان بينهما يُفرغ كل واحد منهما لصاحبه عن مهم لو تولاه بنفسه لازدحم على الواحد كثير وكانَ مما يتعسر إنْ أمكن ، وجب أن يكون بين الناس معاملة وعدل يحفَظه شرعٌ يَفرِضه شارع متميزٌ باستحقاق الطاعة ووجب أن يكون للمحسن والمسيء جزاء من عند القدير الخبير ، فوجب معرفة المُجازي والشارع وأن يكون مع المعرفة سبب حافظ للمعرفة ففُرِضت عليهم العبادة المذكِّرة للمعبود ، وكررت عليهم ليُسْتَحْفَظ التذكيرُ بالتكرير ) ) ا هـ .
لا شك أن داعي العبادة التعظيم والإجلال وهو إما عن محبة أو عن خوف مجرد ، وأهمه ما كان عن محبة لأنه يرضي نفس فاعله قال :
أهابكِ إجلالاً وما بككِ قدرةٌ *** عليّ ولكن ملء عين حبيبها
وهي تستلزم الخوف من غضب المحبوب قال محمود الوراق أو منصور الفقيه :
تَعصي الإله وأنتَ تُظهر حبَّه *** هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأَطَعْتَـه *** إن المحبَّ لمن يُحِب مطيع
ولذلك قال تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } [ آل عمران : 31 ] فذلك يشعر بأن اتباع الشريعة يوجب محبة الله وأن المحب يود أن يحبه حبيبه كما قال المتنبي :
أنت الحبيب ولكني أعوذ به *** من أن أكون مُحباً غير محبوب
وإلى هذا النوع ترجع عبادة أكثر الأمم ، ومنها العبادة المشروعة في جميع الشرائع لأنها مبنية على حب الله تعالى ، وكذلك عبادة المشركين أصنامهم قال تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله } [ البقرة : 165 ] . ومن الأمم من عبدت عن خوف دون محبة وإنما هو لاتقاء شر كما عبدت بعض الأمم الشياطين وعبدت المانوية من المجوس المعبود ( أهْرُمُنْ ) وهو عندهم رب الشر والضر ويرمزون إليه بعنصر الظُلمة وأنه تولد من خاطر سوء خطر للرب ( يَزْدَان ) إله الخير ، قال المعري :
فَكَّرَ يَزْدَانُ على غِرة *** فَصِيغَ من تفكيره أَهْرُمُنْ
والحصر المستفاد من تقديم المعمول في قوله تعالى : { إياك نعبد } حصر حقيقي لأن المؤمنين الملقَّنين لهذا الحمد لا يعبدون إلا الله . وزعم ابن الحاجب في « إيضاح المفصل » في شرح ديباجة « المفصل » عند قول الزمخشري « اللهََ أحمد » أن التقديم لا يفيد إلا الاهتمام دون حصر وأن قوله تعالى : { إياك نعبد } تقديم المفعول للاهتمام دون قصر وأن تمسكهم بقوله : { بل الله فاعْبُد } [ الزمر : 66 ] ضعيف لورود : { فاعبد الله مخلصا له الدين } [ الزمر : 2 ] وإبطال رأيه مقرر في كتب علم المعاني .
وأنا أرى استدلاله بورود قوله تعالى : { فاعبد الله } لا يليق بمقامه العلمي إذ لا يظن أن محامل الكلام متماثلة في كل مقام ، { وإياك نستعين } جملة معطوفة على جملة { إياك نعبد } وإنما لم تفصل عن جملة { إياك نعبد } بطريقة تعداد الجمل مقام التضرع ونحوه من مقامات التعداد والتكرير كلاً أو بعضاً للإشارة إلى خطور الفعلين جميعاً في إرادة المتكلمين بهذا التخصيص ، أي نخصك بالاستعانة أيضاً مع تخصيصك بالعبادة .
والاستعانةُ طلب العون . والعون والإعانة تسهيل فعلِ شيء يشُق ويعسُر على المستعين وحدَه ، فهي تحصل بإعداد طريق تحصيله من إعارة آلة ، أو مشاركة بعمل البدن كالحمل والقَوْد ، أو بقول كالإرشاد والتعليم ، أو برأي كالنصيحة . قال الحريري في المقامة : « وخُلُقي نعم العون » ، أو بمال كدفع المغرم ، بحيث يحصل الأمر بعسير من جهود المستعين والمعين .
وأما الاستعانة بالله فهي طلب المعونة على ما لا قِبل للبشر بالإعانة عليه ولا قبل للمستعين بتحصيله بمفرده ، ولذلك فهي مشعرة بأن المستعين يصرف مقدرته لتحصيل الفعل ويطلب من الله العون عليه بتيسير ما لا قِبل لقدرة المستعين على تحصيله بمفرده ، فهذه هي المعونة شرعاً .
وقد فسرها العلماء بأنها هي خَلْق ما به تمامُ الفعل أو تيسيرُه ، فتنقسم قسمين ضرورية أي ما يتوقف الفعل عليها فلا يحصل بدونها أي لا يحصل بدون توفر متعلقها وهي إعطاء الاقتدار للفاعل وتصوره للفعل وحصول المادة والآلة ، ومجموع هاته الأربعة يعبر عنه بالاستطاعة ، ويعبر عنها بسلامة الأسباب والآلات وبها يصح تكليف المستطيع .
القسم الثاني المعونة غير الضرورية وينبغي أن تخص باسم الإعانة وهي إيجاد المُعين ما يتيسر به الفعل للمُعان حتى يسهل عليه ويقرب منه كإعداد الراحلة في السفر للقادر على المشي . وبانضمام هذا المعنى للمعنى الأول تتم حقيقة التوفيق المعرف عندهم بأنه خلق القدرة والداعية إلى الطاعة ، وسمى الراغب هذا القسم الثاني بالتوفيق ولا تعارض بين كلامه وبين تعريفهم إياه لما علمت من أنه لا يحصل إلا بعد حصول المعونة بالمعنى الأول فتم التوفيق ؛ والمقصود هنا الاستعانة على الأفعال المهمة كلها التي أعلاها تلقي الدين وكلِّ ما يعسر على المرء تذليله من توجهات النفوس إلى الخير وما يستتبع ذلك من تحصيل الفضائل . وقرينة هذا المقصود رسمه في فاتحة الكتاب ووقوعُ تخصيص الإعانة عقب التخصيص بالعبادة . ولذلك حذف متعلِّق { نستعين } الذي حقه أن يذكر مجروراً بعلى ، وقد أفاد هذا الحذفُ الهامُّ عموم الاستعانة المقصورة على الطلب من الله تأدباً معه تعالى ، ومن توابع ذلك وأسبابه وهي المعارف والإرشادات والشرائع وأصول العلوم فكلها من الإعانة المطلوبة وكلها من الله تعالى فهو الذي ألهمنا مبادىء العلوم وكلفنا الشرائع ولقننا النطق ، قال : { ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين } [ البلد : 8 10 ] فالأول إيماء إلى طريق المعارف وأصلُها المحسوسات وأعلاها المبصرات ، والثاني إيماء إلى النطق والبيان للتعليم ، والثالث إلى الشرائع .
والحصر المستفاد من التقديم في قوله : { وإياك نستعين } حصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بالاستعانات المتعارفة بين الناس بعضهم ببعض في شؤونهم ، ومعنى الحصر هنا لا نستعين على عظائم الأمور التي لا يستعان فيها بالناس إلا بالله تعالى . ويفيد هذا القصر فيهما التعريض بالمشركين الذين يعبدون غير الله ويستعينون بغيره لأنهم كانوا فريقين منهم من عبد غير الله على قصد التشريك إلا أَن وَلَعه واستهتاره بغير الله تعالى أنساه عبادة الله تعالى كما عبدت سَبأ الشمسَ وعبد الفُرس النورَ والظلمة ، وعبدَ القِبط العِجل وألَّهوا الفراعنة ، وعبدت أمم السودان الحيوانات كالثعابين . ومن المشركين من أشرك مع عبادة الله عبادة غيره وهذا حال معظم العرب ممن عبد الأصنام أو عبد الكواكب ، فقد عبدت ضبة وتَيْم وعُكْل الشمسَ ، وعبدت كنانةُ القمَر ، وعبدت لخم وخزاعةُ وبعض قريش الشِّعْرى ، وعبدت تميم الدبَران ، وعبدت طيىء الثُريا ، وهؤلاء كلهم جعلوا الآلهة بزعمهم وسيلة يتقربون بها إلى الله تعالى ، فهؤلاء جمعوا العبادة والاستعانة بهم لأنَّ جَعْلَهم وسيلة إلى الله ضربٌ من الاستعانة ، وإنما قلنا إن استفادة الرد على المشركين ونحوهم بطريق التعريض أي بطريق عُرض الكلام لأن القصر الحقيقي لا يصلح أن يكون لرد الاعتقاد إلا تعريضاً لأن معناه حاصل على الحقيقة كما أشار إليه السلكوتي في « حاشية التفسير » .
فإن قلت كيف أمرنا بأن لا نعبد إلا الله ولا نستعين إلا به حسبما تشير إليه هذه الآية ، وقد ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علَّم عبد الله بن عباس قال له « إذا سَأَلْتَ فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله » فلم يأت بصيغة قصر . قلت قد ذكر الشيخ الجد قدس الله روحه في تعليقه على هذا الحديث أن ترك طريقة القصر إيماء إلى أن المَقام لا يقبل الشركة وأن من حق السؤال أن لا يكون إلا لله القادر العليم ، وقد قال علماء البلاغة إذا كان الفعل مقصوراً في نفسه فارتكاب طريق القصر لغو من الكلام ا هـ .
وأقول تقفيةً على أثره إن مقام الحديث غير مقام الآية فمقام الحديث مقام تعليم خاص لمن نشأ وشب وترجل في الإسلام فتقرُّرُ قصر الحكم لديه على طَرَف الثمام ولذلك استغنى عنه وأما مقام هذه الآية فمقام مفتَتح الوحي والتشريع واستهلال الوعظ والتقريع ، فناسب تأكيد الحكم بالقصر مع التعريض بحال الشرك الشنيع على أن تعليق الأمر بهما في جواب الشرط على حصول أيّ سؤال وأية استعانة يفيد مفاد القصر تعريضاً بالمشركين وبراءة من صنيعهم فقد كانوا يستعينون بآلهتهم . ومن ذلك الاستقسام بالأزلام الموضوعة عند الآلهة والأصنام .
وضميرا { نعبد ونَستعين } يعودَان إلى تالي السورة ذاكراً معه جماعة المؤمنين . وفي العدول عن ضمير الواحد إلى الإتيان بضمير المتكلم المشارَك الدلالة على أن هذه المحامد صادرة من جماعات ، ففيه إغاظة للمشركين إذ يعلمون أن المسلمين صاروا في عِزة ومَنَعة ، ولأنه أبلغ في الثناء من أعبد وأستعين لئلا تخلو المناجاة عن ثناء أيضاً بأن المحمود المعبود المستعان قد شهد له الجماعات وعرفوا فضله ، وقريب من هذا قول النابغة في رثاء النعمان بن الحارث الغساني :
قعودا له غسان يرجون أوْبَة *** وتُركٌ ورهطُ الأعجمين وكابُل
إذ قصد من تعداد أصناف من الأمم الكناية عن عظمة النعمان وكثرة رعيته . فكَأَنَّ الحامد لما انتقل من الحمد إلى المناجاة لم يغادر فرصة يقتنص منها الثناء إلا انتهزها .
ووجهه تقديم قوله { إياك نعبد } على قوله : { وإياك نستعين } أن العبادة تقرُّب للخالق تعالى فهي أجدر بالتقديم في المناجاة ، وأما الاستعانة فهي لنفع المخلوق للتيسير عليه فناسب أن يقدِّم المناجي ما هو من عزمه وصنعه على ما يسأله مما يعين على ذلك ، ولأن الاستعانة بالله تتركب على كونه معبوداً للمستعين به ولأن من جملة ما تطلب الإعانة عليه العبادة فكانت متقدمة على الاستعانة في التعقل . وقد حصل من ذلك التقديم أيضاً إيفاء حق فواصل السورة المبنية على الحرف الساكن المتماثل أو القريب في مخرج اللسان .
وأعيد لفظ { إياك } في الاستعانة دون أن يعطف فعل { نستعين } على { نعبد } مع أنهما مقصودان جميعاً كما أنبأ عنه عطف الجملة على الجملة لأن بين الحصرين فرقاً ، فالحصر في { إياك نعبد } حقيقي والقصر في { إياك نستعين ادعائي فإن المسلم قد يستعين غير الله تعالى كيف وقد قال تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى } [ المائدة : 2 ] ولكنه لا يستعين في عظائم الأمور إلا بالله ولا يعد الاستعانة حقيقة إلا الاستعانة بالله تعالى .