تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإٖ فِي مَسۡكَنِهِمۡ ءَايَةٞۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖۖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ} (15)

{ 15 - 21 } { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ }

سبأ قبيلة معروفة في أداني اليمن ، ومسكنهم بلدة يقال لها " مأرب " ومن نعم اللّه ولطفه بالناس عموما ، وبالعرب خصوصا ، أنه قص في القرآن أخبار المهلكين والمعاقبين ، ممن كان يجاور العرب ، ويشاهد آثاره ، ويتناقل الناس أخباره ، ليكون ذلك أدعى إلى التصديق ، وأقرب للموعظة فقال : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ } أي : محلهم الذي يسكنون فيه { آيَةٌ } والآية هنا : ما أدرَّ اللّه عليهم من النعم ، وصرف عنهم من النقم ، الذي يقتضي ذلك منهم ، أن يعبدوا اللّه ويشكروه . ثم فسر الآية بقوله { جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ } وكان لهم واد عظيم ، تأتيه سيول كثيرة ، وكانوا بنوا سدا محكما ، يكون مجمعا للماء ، فكانت السيول تأتيه ، فيجتمع هناك ماء عظيم ، فيفرقونه على بساتينهم ، التي عن يمين ذلك الوادي وشماله . وتُغِلُّ لهم تلك الجنتان العظيمتان ، من الثمار ما يكفيهم ، ويحصل لهم به الغبطة والسرور ، فأمرهم اللّه بشكر نعمه التي أدرَّها عليهم من وجوه كثيرة ، منها : هاتان الجنتان اللتان غالب أقواتهم منهما .

ومنها : أن اللّه جعل بلدهم ، بلدة طيبة ، لحسن هوائها ، وقلة وخمها ، وحصول الرزق الرغد فيها .

ومنها : أن اللّه تعالى وعدهم - إن شكروه - أن يغفر لهم وَيرحمهم ، ولهذا قال : { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ }

ومنها : أن اللّه لما علم احتياجهم في تجارتهم ومكاسبهم إلى الأرض المباركة ، - الظاهر أنها : [ قرى صنعاء قاله غير واحد من السلف ، وقيل : إنها ] الشام - هيأ لهم من الأسباب ما به يتيسر وصولهم إليها ، بغاية السهولة ، من الأمن ، وعدم الخوف ، وتواصل القرى بينهم وبينها ، بحيث لا يكون عليهم مشقة ، بحمل الزاد والمزاد .

ولهذا قال : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ } أي : [ سيرا ] مقدرا يعرفونه ، ويحكمون عليه ، بحيث لا يتيهون عنه { لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ } أي : مطمئنين في السير ، في تلك الليالي والأيام ، غير خائفين . وهذا من تمام نعمة اللّه عليهم ، أن أمنهم من الخوف .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإٖ فِي مَسۡكَنِهِمۡ ءَايَةٞۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖۖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ} (15)

10

وفي قصة آل داود تعرض صفحة الإيمان بالله والشكر على أفضاله وحسن التصرف في نعمائه . والصفحة المقابلة هي صفحة سبأ . وقد مضى في سورة النمل ما كان بين سليمان وبين ملكتهم من قصص . وهنا يجيء نبؤهم بعد قصة سليمان . مما يوحي بأن الأحداث التي تتضمنها وقعت بعد ما كان بينها وبين سليمان من خبر .

يرجح هذا الفرض أن القصة هنا تتحدث عن بطر سبأ بالنعمة وزوالها عنهم وتفرقهم بعد ذلك وتمزقهم كل ممزق . وهم كانوا على عهد الملكة التي جاء نبؤها في سورة النمل مع سليمان في ملك عظيم ، وفي خير عميم . ذلك إذ يقص الهدهد على سليمان : ( إني وجدت امرأة تملكهم ، وأوتيت من كل شيء ، ولها عرش عظيم . وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ) . . وقد أعقب ذلك إسلام الملكة مع سليمان لله رب العالمين . فالقصة هنا تقع أحداثها بعد إسلام الملكة لله ؛ وتحكي ما حل بهم بعد إعراضهم عن شكره على ما كانوا فيه من نعيم .

وتبدأ القصة بوصف ما كانوا فيه من رزق ورغد ونعيم ، وما طلب إليهم من شكر المنعم بقدر ما يطيقون :

( لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال . كلوا من رزق ربكم واشكروا له . بلدة طيبة ورب غفور ) . .

وسبأ اسم لقوم كانوا يسكنون جنوبي اليمن ؛ وكانوا في أرض مخصبة ما تزال منها بقية إلى اليوم . وقد ارتقوا في سلم الحضارة حتى تحكموا في مياه الأمطار الغزيرة التي تأتيهم من البحر في الجنوب والشرق ، فأقاموا خزاناً طبيعياً يتألف جانباه من جبلين ، وجعلوا على فم الوادي بينهما سداً به عيون تفتح وتغلق ، وخزنوا الماء بكميات عظيمة وراء السد ، وتحكموا فيها وفق حاجتهم . فكان لهم من هذا مورد مائي عظيم . وقد عرف باسم : " سد مأرب " .

وهذه الجنان عن اليمين والشمال رمز لذلك الخصب والوفرة والرخاء والمتاع الجميل ، ومن ثم كانت آية تذكر بالمنعم الوهاب . وقد أمروا أن يستمتعوا برزق الله شاكرين :

( كلوا من رزق ربكم واشكروا له ) . .

وذكروا بالنعمة . نعمة البلد الطيب وفوقها نعمة الغفران على القصور من الشكر والتجاوز عن السيئات .

( بلدة طيبة ورب غفور ) . .

سماحة في الأرض بالنعمة والرخاء . وسماحة في السماء بالعفو والغفران . فماذا يقعدهم عن الحمد والشكران ? ولكنهم لم يشكروا ولم يذكروا :