{ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ } بعمل المعاصي { بَعْدَ إِصْلَاحِهَا } بالطاعات ، فإن المعاصي تفسد الأخلاق والأعمال والأرزاق ، كما قال تعالى : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } كما أن الطاعات تصلح بها الأخلاق ، والأعمال ، والأرزاق ، وأحوال الدنيا والآخرة .
{ وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } أي : خوفا من عقابه ، وطمعا في ثوابه ، طمعا في قبولها ، وخوفا من ردها ، لا دعاء عبد مدل على ربه قد أعجبته نفسه ، ونزل نفسه فوق منزلته ، أو دعاء من هو غافل لاَهٍ .
وحاصل ما ذكر اللّه من آداب الدعاء : الإخلاص فيه للّه وحده ، لأن ذلك يتضمنه الخفية ، وإخفاؤه وإسراره ، وأن يكون القلب خائفا طامعا لا غافلا ، ولا آمنا ولا غير مبال بالإجابة ، وهذا من إحسان الدعاء ، فإن الإحسان في كل عبادة بذل الجهد فيها ، وأداؤها كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه ، ولهذا قال : { إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } في عبادة اللّه ، المحسنين إلى عباد اللّه ، فكلما كان العبد أكثر إحسانا ، كان أقرب إلى رحمة ربه ، وكان ربه قريبا منه برحمته ، وفي هذا من الحث على الإحسان ما لا يخفى .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنّ رَحْمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إصْلاحِها لا تشركوا بالله في الأرض ولا تعصوه فيها وذلك هو الفساد فيها . وقد ذكرنا الرواية في ذلك فيما مضى وبيّنا معناه بشواهده . بعدَ إصْلاحِها يقول : بعد إصلاح الله إياها لأهل طاعته بابتعاثه فيهم الرسل دعاة إلى الحقّ ، وإيضاحه حججه لهم . وَادْعُوهُ خَوْفا وَطَمَعا يَقُولُ : وأخلصوا له الدعاء والعمل ، ولا تشركوا في عملكم له شيئا غيره من الاَلهة والأصنام وغير ذلك ، وليكن ما يكون منكم في ذلك خوفا من عقابه وطمعا في ثوابه وإن من كان دعاؤه إياه على غير ذلك فهو بالاَخرة من المكذّبين ، لأن من لم يخف عقاب الله ولم يَرْج ثوابه لم يبال ما ركب من أمر يسخطه الله ولا يرضاه . إنّ رَحمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ يقول تعالى ذكره : إن ثواب الله الذي وعد المحسنين على إحسانهم في الدنيا قريب منهم . وذلك هو رحمته لأنه ليس بينهم وبين أن يصيروا إلى ذلك من رحمته وما أعدّ لهم من كرامته ، إلاّ أن تفارق أرواحهم أجسادهم ولذلك من المعنى ذكر قوله : قَريبٌ وهو من خبر الرحمة والرحمة مؤنثة ، لأنه أريد به القرب في الوقت لا في النسب والأوقات بذلك المعنى ، إذا رفعت أخبارا للأسماء أجرتها العرب مجرى الحال فوحدتها مع الواحد والاثنين والجميع وذكّرتها مع المؤنث ، فقالوا : كرامة الله بعيد من فلان ، وهي قريب من فلان ، كما يقولون : هند قريب منا ، والهندان منا قريب ، والهندات منا قريب ، لأن معنى ذلك : هي في مكان قريب منا ، فإذا حذفوا المكان وجعلوا القريب خلفا منه ، ذكروه ووحدوه في الجمع ، كما كان المكان مذكرا وموحدا في الجمع . وأما إذا أنثوه أخرجوه مثنى مع الاثنين ومجموعا مع الجميع فقالوا : هي قريبة ، منا ، وهما منا قريبتان ، كما قال عروة بن الورد :
عَشِيّةَ لا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَرِيبَةٌ ***فَتَدْنُو وَلا عَفْراءُ مِنْكَ بَعِيدُ
فأنّث قريبة ، وذكّر بعيدا على ما وصفت . ولو كان القريب من القرابة في النسب لم يكن مع المؤنث إلاّ مؤنثا ومع الجمع إلاّ مجموعا . وكان بعض نحويي البصرة يقول : ذُكّر قريب وهو صفة للرحمة ، وذلك كقول العرب : ريح خريق ، وملحفة جديد ، وشاة سديس . قال : وإن شئت قلت : تفسير الرحمة ههنا المطر ونحوه ، فلذلك ذكر كما قال : وَإنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا فذكّر لأنه أراد الناس ، وإن شئت جعلته كبعض ما يذكرون من المؤنث ، كقول الشاعر :
***وَلا أرْضَ أبْقَلَ إبْقالَهَا ***
وقد أنكر ذلك من قيله بعض أهل العربية ، ورأى أنه يلزمه إن جاز أن يذكر قريبا توجيها منه للرحمة إلى معنى المطر أن يقول : هند قام ، توجيها منه لهند وهي امرأة إلى معنى إنسان ، ورأى أن ما شبه به قوله : إنّ رَحْمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ بقوله : وإنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنوا غير مشبهة ، وذلك أن الطائفة فيما زعم مصدر بمعنى الطيف ، كما الصيحة والصياح بمعنى ، ولذلك قيل : وأخَذَ الّذِينَ ظَلَمُوا الصّيْحَةُ .
عُطف النّهي عن الفساد في الأرض على جملة { إنه لا يحب المعتدين } [ الأعراف : 55 ] عَطْفاً على طريقة الاعتراض ، فإنّ الكلام لمّا أنبأ عن عناية الله بالمسلمين وتقريبه إياهم إذ أمرهم بأن يدعوه وشرّفهم بذلك العنوان العظيم في قوله : { ربكم } [ الأعراف : 55 ] ، وعرّض لهم بمحبّته إياهم دون أعدائهم المعتدين ، أعقبه بما يحول بينهم وبين الإدلال على الله بالاسترسال فيما تُمليه عليهم شهواتهم من ثوران القوتين الشّهوية والغَضبيّة ، فإنّهما تجنيان فساداً في الغالب ، فذكَّرهم بترك الإفساد ليكون صلاحهم منزّهاً عن أن يخالطه فساد ، فإنّهم إن أفسدوا في الأرض أفسدوا مخلوقات كثيرة وأفسدوا أنفسهم في ضمن ذلك الإفساد ، فأشبه موقعَ الاحتراس ، وكذلك دأب القرآن أن يعقِّب التّرغيب بالتّرهيب ، وبالعكس ، لئلاّ يقع النّاس في اليأس أو الأمْن .
والاهتمامُ بدرء الفساد كان مَقَاماً هنا مقتضياً التّعجيل بهذا النّهي مُعترضاً بين جملتي الأمر بالدّعاء .
وفي إيقاع هذا النّهي عقب قوله { إنه لا يحب المعتدين } [ الأعراف : 55 ] تعريض بأنّ المعتدين وهم المشركون مفسدون في الأرض ، وإرْباءُ للمسلمين عن مشابهتهم ، أي لا يليق بكم وأنتم المقرّبون من ربّكم ، المأذونُ لكم بدعائه ، أن تكونوا مثل المبعدين منه المبغضين .
والإفساد في الأرض والإصلاح تقدّم الكلام عليهما عند قوله تعالى : { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون } في سورة البقرة ( 11 ) ، وبيّنّا هنالك أصول الفساد وحقائق الإصلاح ، ومر هنالك القول في حذف مفعول { تفسدوا } ممّا هو نظير ما هنا .
و { الأرض } هنا هي الجسم الكُروي المعبّر عنه بالدّنيا .
والإفساد في كلّ جزء من الأرض هو إفساد لمجموع الأرض ، وقد يكون بعض الإفساد مؤدّياً إلى صلاح أعظم ممّا جرّه الإفساد من المضرّة ، فيترجّح الإفساد إذا لم يمكن تحصيل صلاح ضروري إلاّ به ، فقد قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير ، ونهى أبو بكر رضي الله عنه عن قطع شجر العدوّ ، لاختلاف الأحوال .
والبعدية في قوله : { بعد إصلاحها } بعديةٌ حقيقيةٌ ، لأنّ الأرض خلقت من أوّل أمرها على صلاح قال الله تعالى : { وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها } [ فصلت : 10 ] على نظام صالح بما تحتوي عليه ، وبخاصة الإنسان الذي هو أشرف المخلوقات التي جعلها الله على الأرض ، وخلق له ما في الأرض ، وعزّز ذلك النّظام بقوانين وضعها الله على ألْسِنَةِ المرسلين والصّالحين والحكماء من عباده ، الذين أيّدهم بالوحي والخطاب الإلهي ، أو بالإلهام والتّوفيق والحكمة ، فعلموا النّاس كيف يستعملون ما في الأرض على نظام يحصل به الانتفاع بنفع النّافع وإزالة ما في بعض النّافع من الضرّ وتجنّب ضرّ الضار ، فذلك النّظامُ الأصلي ، والقانُونُ المعزّزُ له ، كلاهما إصلاح في الأرض ، لأنّ الأوّل إيجاد الشّيء صالحاً ، والثّاني جعل الضّار صالحاً بالتّهذيب أو بالإزالة ، وقد مضَى في قوله تعالى : { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون } في سورة البقرة ( 11 ) ، أنّ الإصلاح موضوع للقدر المشترك بين إيجاد الشّيء صالحاً وبين جعل الفاسد صالحاً . فالإصلاح هنا مصدر في معنى الاسم الجامد ، وليس في معنى الفعل ، لأنّه أريد به إصلاح حاصل ثابت في الأرض لا إصلاح هو بصدد الحصول ، فإذا غُيّر ذلك النّظام فأفْسِد الصّالحُ ، واستُعمل الضّار على ضرّه ، أو استبقى مع إمكان إزالته ، كان إفساداً بعد إصلاح ، كما أشار إليه قوله تعالى : { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } [ الأنفال : 73 ] .
والتّصريح بالبعدية هنا تسجيل لفظاعة الإفساد بأنّه إفساد لما هو حسن ونافع ، فلا معذرة لفاعله ولا مساغ لفعله عند أهل الأرض .
عود إلى أمر الدّعاء لأنّ ما قبله من النّهي عن الإفساد أشبه الاحتراس المعترض بين أجزاء الكلام ، وأعيد الأمر بالدّعاء ليبنى عليه قوله : { خوفاً وطمعاً } قصداً لتعليم الباعث على الدّعاء بعد أن عُلّموا كيفيته ، وهذا الباعث تنطوي تحته أغراض الدّعاء وأنواعه ، فلا إشكال في عطف الأمر بالدّعاء على مِثله لأنّهما مختلفان باختلاف متعلّقاتهما .
والخوف تقدّم عند قوله تعالى : { إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله } [ البقرة : 229 ] .
والطّمع تقدّم في قوله : { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم } في سورة البقرة ( 75 ) .
وانتصاب { خوفاً وطمعاً } هنا على المفعول لأجله ، أي أنّ الدّعاء يكون لأجل خوف منه وطمع فيه ، فحذف متعلِّق الخوف والطّمع لدلالة الضّمير المنصوب في { ادعوه } .
والواو للتّقسيم للدّعاء بأنّه يكون على نوعين :
فالخوف من غضبه وعقابه ، والطّمع في رضاه وثوابه ، والدّعاء لأجل الخوف نحو الدّعاء بالمغفرة ، والدّعاء لأجل الطّمع نحو الدّعاء بالتّوفيق وبالرّحمة . وليس المراد أنّ الدّعاء يشتمل على خوف وطمع في ذاته كما فسرّ به الفخر في السّؤال الثّالث لأنّ ذلك وإن صحّ في الطّمع لا يصحّ في الخوف إلاّ بسماجة . وفي الأمر بالدّعاء خوفاً وطمعاً دليل على أنّ من حظوظ المكلّفين في أعمالهم مراعاة جانب الخوف من عقاب اللَّه والطّمعِ في ثوابه ، وهذا ممّا طفحت به أدلّة الكتاب والسنّة ، وقد أتى الفخر في السّؤال الثّاني في تفسير الآية بكلام غيْر مُلاق للمعروف عند علماء الأمّة ، ونزع به نزعة المتصوّفة الغلاة . وتعقبّه يطول ، فدونك فانظره إن شئت .
وقد شمل الخوف والطّمع جميع ما تتعلّق به أغراض المسلمين نحوّ ربّهم في عاجلهم وآجلهم ، ليدعُوا الله بأن ييسِر لهم أسباب حصول ما يطمعون ، وأن يجنبهم أسباب حصول ما يخافون . وهذا يقتضي توجّه همّتهم إلى اجتناب المنهيات لأجل خوفهم من العقاب ، وإلى امتثال المأمورات لأجل الطّمع في الثّواب ، فلا جرم أنّه اقتضى الأمرَ بالإحسان ، وهو أن يعبدُوا الله عبادة من هو حاضر بين يديه فيستحيي من أن يعصيه ، فالتّقدير : وادعوه خوفاً وطمعاً وأحسنوا بقرينة تعقيبه بقوله : { إن رحمة الله قريب من المحسنين } . وهذا إيجاز .
وجملة : { إن رحمة الله قريب من المحسنين } واقعة موقع التّفريع على جملة { وادعوه } ، فلذلك قرنت ب { إن } الدّالة على التّوكيد ، وهو لمجرّد الاهتمام بالخبر ، إذ ليس المخاطبون بمتردّدين في مضمون الخبر ، ومن شأن ( إن ) إذا جاءت على هذا الوجه أن تفيد التّعليل وربط مضمون جملتها بمضمون الجملة التي قبلها ، فتغني عن فاء التّفريع ، ولذلك فُصلت الجملة عن التي قبلها فلم تعطف لإغناء ( إنّ ) عن العاطف .
و { رحمة الله } : إحسانه وإيتاؤه الخبر .
والقرب حقيقته دُنُّو المكان وتجاوره ، ويطلق على الرّجاء مجازاً يقال : هذا قريب ، أي ممكن مرجو ، ومنه قوله : { إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً } [ المعارج : 6 ، 7 ] فإنّهم كانوا ينكرون الحشر وهو عند الله واقع لا محالة ، فالقريب هنا بمعنى المرجو الحصول وليس بقرب مكان . ودلّ قوله { قريب من المحسنين } على مقدّر في الكلام ، أي وأحسنوا لأنّهم إذا دَعوا خوفاً وطعماً فقد تهيَّأوا لنبذ ما يوجب الخوف ، واكتساب ما يوجب الطّمع ، لئلا يكون الخوف والطّمع كاذبين ، لأنّ من خاف لا يُقدم على المخوف ، ومن طمع لا يَترك طلب المطموع ، ويتحقّق ذلك بالإحسان في العمل ويلزم من الإحسان ترك السَيِّئات ، فلا جرم تكون رحمة الله قريباً منهم ، وسكت عن ضد المحسنين رفقاً بالمؤمنين وتعريضاً بأنّهم لا يظن بهم أن يسيئوا فتبعد الرّحمة عنهم .
وعدم لحاق علامة التّأنيث لوصفِ { قريب } مع أنّ موصوفه مؤنّث اللّفظ ، وجَّهه علماء العربيّة بوجوه كثيرة ، وأشار إليها في « الكشاف » .
وجلّها يحوم حول تأويل الاسم المؤنّث بما يرادفه من اسمٍ مذكّر ، أو الاعتذارِ بأنّ بعض الموصوف به غيرُ حقيقي التّأنيث كما هنا ، وأحسنها عندي قول الفراء وأبي عبيدة : أنّ قريباً أو بعيداً إذا أطلق على قرابة النّسب أو بُعد النّسب فهو مع المؤنّث بتاء ولا بُدّ ، وإذا أطلق على قُرب المسافة أو بُعدها جاز فيه مطابقة موصوفه وجاز فيه التّذكير على التّأويل بالمكان ، وهو الأكثر ، قال الله تعالى : { وما هي من الظالمين ببعيد } [ هود : 83 ] وقال : { وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً } [ الأحزاب : 63 ] . ولمّا كان إطلاقه في هذه الآية على وجه الاستعارة من قرب المسافة جرى على الشّائع في استعماله في المعنى الحقيقي ، وهذا من لطيف الفروق العربيّة في استعمال المشترك إزالة للإبهام بقدر الإمكان .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها}، وذلك أن الله [إذا] بعث نبيا إلى الناس فأطاعوه، صلحت الأرض وصلح أهلها، وأن المعاصي فساد المعيشة وهلاك أهلها، يقول: لا تعملوا في الأرض بالمعاصي بعد الطاعة، {وادعوه خوفا} من عذابه، {وطمعا} في رحمته، فمن فعل ذلك وهو محسن، فذلك قوله: {إن رحمت الله قريب من المحسنين}، يعني بالرحمة المطر، يقول: الرحمة لهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله:"وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إصْلاحِها" لا تشركوا بالله في الأرض ولا تعصوه فيها وذلك هو الفساد فيها. وقد ذكرنا الرواية في ذلك فيما مضى وبيّنا معناه بشواهده. "بعدَ إصْلاحِها "يقول: بعد إصلاح الله إياها لأهل طاعته بابتعاثه فيهم الرسل دعاة إلى الحقّ، وإيضاحه حججه لهم. "وَادْعُوهُ خَوْفا وَطَمَعا" يَقُولُ: وأخلصوا له الدعاء والعمل، ولا تشركوا في عملكم له شيئا غيره من الآلهة والأصنام وغير ذلك، وليكن ما يكون منكم في ذلك خوفا من عقابه وطمعا في ثوابه وإن من كان دعاؤه إياه على غير ذلك فهو بالآخرة من المكذّبين، لأن من لم يخف عقاب الله ولم يَرْج ثوابه لم يبال ما ركب من أمر يسخطه الله ولا يرضاه. "إنّ رَحمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ" يقول تعالى ذكره: إن ثواب الله الذي وعد المحسنين على إحسانهم في الدنيا قريب منهم. وذلك هو رحمته لأنه ليس بينهم وبين أن يصيروا إلى ذلك من رحمته وما أعدّ لهم من كرامته، إلاّ أن تفارق أرواحهم أجسادهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} بعد ما خلقها طاهرة عن جميع أنواع المعاصي والفواحش وسفك الدماء وغير ذلك. ويقال: {بعد إصلاحها} بعد ما أعطاكم أسبابا تقدرون على الإصلاح. وجائز أن يكون المراد بإصلاح الأرض أهلها. وقوله تعالى: {وادعوه خوفا وطمعا} قال بعضهم: {خوفا} لما كان في العبادة من التقصير {وطمعا} في التجاوز والقبول؛ لأنه لا أحد يقدر أن يعبد ربه حق عبادته... ويجب على كل مؤمن أن يكون في كل فعل الخير خائفا راجيا، الخوف للتقصير والرجاء للقبول. وقال بعضهم: خوفا من عذابه ونقمته وطمعا في جنّته. [وقوله تعالى] {إن رحمة الله قريب من المحسنين} قال أهل التأويل: إن الجنة {قريب من المحسنين} ويقولون: أراد بالقريب الوقوع فيها والنزول. ويحتمل أن يكون المراد بالرحمة صفته فيكون تأويله: إن منفعة رحمة {الله قريب من المحسنين} وقال الحسن: إن رحمة الله، وهي الجنة قريب من الخائفين. وقال بعضهم في قوله تعالى: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} أي إجابة الله قريب ممّن استجاب دعاءه. ويحتمل ما ذكرنا من منفعة رحمة الله {قريب} ممّن ذكر. ثم {المحسنين} يحتمل {المحسنين} إلى أنفسهم أو {المحسنين} إلى خلقه، أو {المحسنين} إلى نعم الله، أي أحسنوا صحبة نعمه بالقيام لشكرها واجتناب الكفران بها...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله عز وجل: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} فيه أربعة أقاويل: أحدها: لا تفسدوها بالكفر بعد إصلاحها بالإيمان. والثاني: لا تفسدوها بالظلم بعد إصلاحها بالعدل. والثالث: لا تفسدوها بالمعصية بعد إصلاحها بالطاعة، قاله الكلبي. والرابع: لا تفسدوها بقتل المؤمن بعد إصلاحها ببقائه، قاله الحسن...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
نهى الله تعالى في هذه الآية عن الفساد في الأرض وهو الإضرار بما تمنع الحكمة منه يقال: أفسد الحر التفاحة إذا أخرجها إلى حال الضرر بالتغيير.
والإصلاح: النفع بما تدعو إليه الحكمة ولذلك لم تكن الآلام في النار إصلاحا لأهلها، لأنه لا نفع لهم فيها... والخوف هو الانزعاج بما لا يؤمن.
والأمن: سكون النفس إلى انتفاء المضار، والخوف يكون بالعصيان. والأمن بالإيمان.
والطمع: توقع المحبوب، ونقيضه اليأس وهو: القطع بانتفاء المحبوب...
والإحسان هو: النفع الذي يستحق به الحمد. والإساءة هي الضرر الذي يستحق به الذم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ولا تفسدوا في الأرض...} ألفاظ عامة تتضمن كل إفساد قلَّ أو كثر بعد إصلاح، قل أو كثر، والقصد بالنهي هو على العموم وتخصيص شيء دون شيء في هذا تحكم إلا أن يقال على وجهة المثال...
{وادعوه خوفاً وطمعاً} أمر بأن يكون الإنسان في حالة ترقب وتحزن وتأميل الله عز وجل حتى يكون الرجاء والخوف كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامة وإن انفرد أحدهما هلك الإنسان، وقد قال كثير من العلماء ينبغي أن يغلب الخوف الرجاء طول الحياة، فإذا جاء الموت غلب الرجاء، وقد رأى كثير من العلماء أن يكون الخوف أغلب على المرء بكثير، وهذا كله احتياط.
{ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قوله: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} معناه ولا تفسدوا شيئا في الأرض، فيدخل فيه المنع من إفساد النفوس بالقتل وبقطع الأعضاء، وإفساد الأموال بالغصب والسرقة ووجوه الحيل، وإفساد الأديان بالكفر والبدعة، وإفساد الأنساب بسبب الإقدام على الزنا واللواطة وسبب القذف، وإفساد العقول بسبب شرب المسكرات، وذلك لأن المصالح المعتبرة في الدنيا هي هذه الخمسة: النفوس والأموال والأنساب والأديان والعقول. فقوله: {ولا تفسدوا} منع عن إدخال ماهية الإفساد في الوجود، والمنع من إدخال الماهية في الوجود يقتضي المنع من جميع أنواعه وأصنافه، فيتناول المنع من الإفساد في هذه الأقسام الخمسة، وأما قوله: {بعد إصلاحها} فيحتمل أن يكون المراد بعد أن أصلح خلقتها على الوجه المطابق لمنافع الخلق والموافق لمصالح المكلفين، ويحتمل أن يكون المراد بعد إصلاح الأرض بسبب إرسال الأنبياء وإنزال الكتب كأنه تعالى قال: لما أصلحت مصالح الأرض بسبب إرسال الأنبياء وإنزال الكتب وتفصيل الشرائع فكونوا منقادين لها، ولا تقدموا على تكذيب الرسل وإنكار الكتب والتمرد عن قبول الشرائع، فإن ذلك يقتضي وقوع الهرج والمرج في الأرض، فيحصل الإفساد بعد الإصلاح، وذلك مستكره في بداهة العقول.
المسألة الثانية: هذه الآية تدل على أن الأصل في المضار الحرمة والمنع على الإطلاق. إذا ثبت هذا فنقول: إن وجدنا نصا خاصا دل على جواز الإقدام على بعض المضار قضينا به تقديما للخاص على العام وإلا بقي على التحريم الذي دل عليه هذا النص. واعلم أنا كنا قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} أن هذه الآية تدل على أن الأصل في المنافع واللذات الإباحة والحل، ثم بينا أنه لما كان الأمر كذلك دخل تحت تلك الآية جميع أحكام الله تعالى، فكذلك في هذه الآية أنها تدل على أن الأصل في المضار والآلام، الحرمة. وإذا ثبت هذا كان جميع أحكام الله تعالى داخلا تحت عموم هذه الآية، وجميع ما ذكرناه من المباحث واللطائف في تلك الآية فهي موجودة في هذه الآية، فتلك الآية دالة على أن الأصل في المنافع الحل، وهذه الآية دالة على أن الأصل في جميع المضار الحرمة، وكل واحدة من هاتين الآيتين مطابقة للأخرى مؤكدة لمدلولها مقررة لمعناها، وتدل على أن أحكام جميع الوقائع داخلة تحت هذه العمومات.
قوله: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} يدل على أن الدعاء لا بد وأن يكون مقرونا بالتضرع وبالإخفاء، ثم بين في قوله {وادعوه خوفا وطمعا} أن فائدة الدعاء هو أحد هذين الأمرين، فكانت الآية الأولى في بيان شرط صحة الدعاء، والآية الثانية في بيان فائدة الدعاء ومنفعته.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم والدعوة إلى غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
تفسير قوله تعالى: {إن رحمة الله قريب من المحسنين}. فيه تنبيه ظاهر على أن فعل هذا المأمور به هو الإحسان المطلوب منكم، ومطلوبكم أنتم من الله هو رحمته القريبة من المحسنين الذين فعلوا ما أمروا به من دعائه خوفا وطمعا، فقرب مطلوبكم منكم (وهو الرحمة) بحسب أدائكم لمطلوبه منكم (وهو الإحسان) الذي هو في الحقيقة إحسان إلى أنفسكم. فإن الله تعالى هو الغني الحميد، وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم.
وقوله: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} له دلالة بمنطوقه، ودلالة بإيمائه وتعليله، ودلالة بمفهومه. فدلالته بمنطوقه: على قرب الرحمة من أهل الإحسان، ودلالته بتعليله وإيمائه: على أن هذا القرب مستحق بالإحسان فهو السبب في قرب الرحمة منهم، ودلالته بمفهومه: على بعد الرحمة من غير المحسنين. فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة. وإنما اختص أهل الإحسان بقرب الرحمة منهم لأنها إحسان من الله أرحم الراحمين وإحسانه تعالى إنما يكون لأهل الإحسان؛ لأن الجزاء من جنس العمل فكما أحسنوا بأعمالهم أحسن إليهم برحمته. وأما من لم يكن من أهل الإحسان فإنه لما بعد عن الإحسان بعدت عنه الرحمة بعدا ببعد وقربا بقرب، فمن تقرب بالإحسان تقرب الله إليه برحمته ومن تباعد عن الإحسان تباعد الله عنه برحمته. والله سبحانه يحب المحسنين وببغض من ليس من المحسنين، ومن أحبه الله فرحمته أقرب شيء منه ومن أبغضه فرحمته أبعد شيء منه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
البشر سادة هذه الأرض، وهم منها كالقلب من الجسد والعقل من النفس، فإذا صلحوا صلح كل شيء وإذا فسدوا فسد كل شيء. وأشد الفساد الكبر والعتو، الداعيان إلى الظلم والعلو، ألم تر إلى هؤلاء الإفرنج كيف أصلحوا كل ما في الأرض من معدن ونبات وحيوان، وعجزوا عن إصلاح نفس الإنسان، بمعاداتهم أكمل الأديان، فحولت دولهم كل ما اهتدى إليه علماؤهم من وسائل العمران، إلى إفساد نوع الإنسان، وتعادي شعوبه بالتنازع على الملك والسلطان، وإباحة الكفر والفسوق والعصيان وبذل ثروة العاملين من شعوبهم، في سبيل التنكيل بالمخالفين لهم، والجناية على أعدائهم ولو بالجناية على أنفسهم. روى أبو الشيخ عن أبي بكر بن عياش أنه سئل عن قوله: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} فقال إن الله بعث محمدا إلى أهل الأرض وهم في فساد فأصلحهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم فمن دعا إلى خلاف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو من المفسدين في الأرض اه. والإفساد بعد الإصلاح أظهر قبحا من الإفساد على الإفساد، فإن وجود الإصلاح أكبر حجة على المفسد إذ هو لم يحفظه ويجري على سننه. فكيف إذا هو أفسده وأخرجه عن وضعه؟ ولذلك خصه بالذكر، وإلا فالإفساد مذموم ومنهي عنه في كل حال، فحجة الله على الخلوف والخلائف من المسلمين المفسدين، لما كان من إصلاح السلف الصالحين، أظهر من حجته على الكافرين، الذين هم أحسن حالا من سلفهم الغابرين.
ومن العبرة في الآية أن الماديين من البشر يعدون الرحمة ضعفا في النفس تجب مقاومته بالتعليم والتربية أي بإفساد الفطرة الإلهية التي أودع فيها الرب الرحيم جزءا من مائة جزء من رحمته يتراحم بها خلقه ويتعاطفون، وقاعدة التربية المادية: أن أمور الحياة كلها تجارة يقصد بها الربح العاجل، فإذا رأيت امرأ أو امرأة أو طفلا أو عشيرة أو أمة عرضة للآلام والهلاك ولم يكن لك ربح وفائدة خاصة من دفع الهلاك عنهم فلا تكلف نفسك ذلك، وإن كان لك أو لقومك ربح من ظلم فرد من الأفراد أو شعب من الشعوب وإشقائه بالاستعباد وإفساد الأخلاق وإرهاق الأجساد، فافعل ذلك وتوسل إليه بكل الوسائل التي يدلك عليها العلم وتمكنك منها القوة، بل هم يربون أولادهم على أن لا ينالوا منهم شيئا إلا بعمل يعملونه لهم، وليطبعوا في أنفسهم ملكة طلب الربح من كل عمل، وهذا حسن إذا لم ينزعوا منها عواطف الرحمة وحب الإحسان بمراغمة الفطرة وإفسادها. على هذه القاعدة قام بناء الاستعمار الإفرنجي في العالم فكل دولة أوروبية تستولي على شعب من الشعوب تعنى أشد العناية بإفساد أخلاقه وإذلال نفسه واستنزاف ثروته، وكل ما تعمله في بلاده من عمل عمراني كتعبيد الطرق وإصلاح ري الأرض فلأجل توفير ربحها منها، وتمكينها من سوق جيوشها التي تستعبد بها أهلها.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...فذكَّرهم بترك الإفساد ليكون صلاحهم منزّهاً عن أن يخالطه فساد، فإنّهم إن أفسدوا في الأرض أفسدوا مخلوقات كثيرة وأفسدوا أنفسهم في ضمن ذلك الإفساد، فأشبه موقعَ الاحتراس، وكذلك دأب القرآن أن يعقِّب التّرغيب بالتّرهيب، وبالعكس، لئلاّ يقع النّاس في اليأس أو الأمْن.
والاهتمامُ بدرء الفساد كان مَقَاماً هنا مقتضياً التّعجيل بهذا النّهي مُعترضاً بين جملتي الأمر بالدّعاء.
.. والإفساد في كلّ جزء من الأرض هو إفساد لمجموع الأرض، وقد يكون بعض الإفساد مؤدّياً إلى صلاح أعظم ممّا جرّه الإفساد من المضرّة، فيترجّح الإفساد إذا لم يمكن تحصيل صلاح ضروري إلاّ به، فقد قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير، ونهى أبو بكر رضي الله عنه عن قطع شجر العدوّ، لاختلاف الأحوال.
والبعدية في قوله: {بعد إصلاحها} بعديةٌ حقيقيةٌ، لأنّ الأرض خلقت من أوّل أمرها على صلاح قال الله تعالى: {وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها} [فصلت: 10] على نظام صالح بما تحتوي عليه، وبخاصة الإنسان الذي هو أشرف المخلوقات التي جعلها الله على الأرض، وخلق له ما في الأرض، وعزّز ذلك النّظام بقوانين وضعها الله على ألْسِنَةِ المرسلين والصّالحين والحكماء من عباده، الذين أيّدهم بالوحي والخطاب الإلهي، أو بالإلهام والتّوفيق والحكمة، فعلموا النّاس كيف يستعملون ما في الأرض على نظام يحصل به الانتفاع بنفع النّافع وإزالة ما في بعض النّافع من الضرّ وتجنّب ضرّ الضار، فذلك النّظامُ الأصلي، والقانُونُ المعزّزُ له، كلاهما إصلاح في الأرض، لأنّ الأوّل إيجاد الشّيء صالحاً، والثّاني جعل الضّار صالحاً بالتّهذيب أو بالإزالة، وقد مضَى في قوله تعالى: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} في سورة البقرة (11)، أنّ الإصلاح موضوع للقدر المشترك بين إيجاد الشّيء صالحاً وبين جعل الفاسد صالحاً. فالإصلاح هنا مصدر في معنى الاسم الجامد، وليس في معنى الفعل، لأنّه أريد به إصلاح حاصل ثابت في الأرض لا إصلاح هو بصدد الحصول، فإذا غُيّر ذلك النّظام فأفْسِد الصّالحُ، واستُعمل الضّار على ضرّه، أو استبقى مع إمكان إزالته، كان إفساداً بعد إصلاح، كما أشار إليه قوله تعالى: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} [الأنفال: 73].
والتّصريح بالبعدية هنا تسجيل لفظاعة الإفساد بأنّه إفساد لما هو حسن ونافع، فلا معذرة لفاعله ولا مساغ لفعله عند أهل الأرض.
عود إلى أمر الدّعاء لأنّ ما قبله من النّهي عن الإفساد أشبه الاحتراس المعترض بين أجزاء الكلام، وأعيد الأمر بالدّعاء ليبنى عليه قوله: {خوفاً وطمعاً} قصداً لتعليم الباعث على الدّعاء بعد أن عُلّموا كيفيته، وهذا الباعث تنطوي تحته أغراض الدّعاء وأنواعه، فلا إشكال في عطف الأمر بالدّعاء على مِثله لأنّهما مختلفان باختلاف متعلّقاتهما.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
.. ذكرنا أن من الاعتداء في الدعاء، أن ينصرف عن العمل في الدنيا كاسبا متكلا على الدعاء كما يفعل الرهبان، وإنما يجب مع ذكر الله أن يندمج مصلحا في الأرض منتجا مثمرا فإن ذلك فيه إرضاء لله؛ لأن فيه خيرا للعباد ونفعا لهم، و (خير الناس أنفعهم للناس).
وإن الله تعالى في وسط الأمر بالدعاء نهى عن الإفساد في الأرض، ويتضمن ذلك العمل فيها بالإنتاج والإنماء يقول تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها}.
إصلاح الأرض: خلقها صالحة لأن يعيش عليها الإنسان في زرعها وغرسها، ومستمتعا بكل حلالها وطيباتها، وقد أرسل الرسل منذرين ومبشرين، وهداة إلى الحق ومصلحين وعاملين للخير.
وإفسادها إشاعة الظلم، وإفساد ما تنتج، والتعدي التعاون على الإثم والعدوان وقطع الأشجار وحرق الثمار، وجاء في القرطبي (تجارة الحكام من الفساد في الأرض).
وترى أنه قد جاء النهي عن الفساد، ولم يجئ الأمر بالإصلاح؛ وذلك لأن الله تعالى تولى جعل الأرض صالحة لأن يعيش فيها أهلها آمنين مطمئنين بأن جعلها مهادا، وجعل الجبال أوتادا، وأنزل من السماء ماء فأخرج به ثمرات كل شيء: أخرج به حبا متراكبا، وغروسا ذات ثمار يانعة، فهو – سبحانه وتعالى – تولى ما به صلاح ذات الأرض، وأرسل الرسل تصلح ما بين الناس بالحق، وأجرى على أيديهم شرائع تهديهم إلى الرشاد، وتأخذهم إلى الحق إن استقاموا على الطريقة، وإذا عرفنا معنى الإصلاح الذي كان من الله تعالى في الأرض، عرفنا معنى الإفساد الذي يكون بعد الإصلاح الأزلي الذي قرره الله تعالى فيكون الإفساد تخريب العامر، وقطع القائم وإهلاك الحرث والنسل، وتعطيل شرائع الله، وإشاعة الأخلاق الفاسدة، وإثارة الغرائز الفتاكة والقاتلة لكل فضيلة بين الناس، وفتح باب الرشا وأكل السحت.
وقوله: {بعد إصلاحها}، تقرير لواقع الأمور؛ لأن الفساد لا يكون إلا تقويضا لصالح، وإنه في وسط تلك المعرفة القائمة بين الصلاح والفساد، مع الامتناع عن الثاني يكون الالتجاء إلى الله تعالى؛ ولذا قال تعالى: {وادعوه خوفا وطمعا}...