وحكمه العام ، كما ذكره الله في قوله : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } عموما ، سواء أفاء الله في وقت رسوله أو بعده ، لمن يتولى من بعده أمته{[1034]}
{ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } وهذه الآية نظير الآية التي في سورة الأنفال ، في{[1035]} قوله : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } .
خمس لله ولرسوله يصرف في مصالح المسلمين [ العامة ] ، وخمس لذوي القربى ، وهم : بنو هاشم وبنو المطلب ، حيث كانوا يسوى [ فيه ] بين ، ذكورهم وإناثهم ، وإنما دخل بنو المطلب في خمس الخمس ، مع بني هاشم ، ولم يدخل بقية بني عبد مناف ، لأنهم شاركوا بني هاشم في دخولهم الشعب ، حين تعاقدت قريش على هجرهم وعداوتهم{[1036]} فنصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بخلاف غيرهم ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ، في بني عبد المطلب : " إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام "
وخمس لفقراء اليتامى ، وهم : من لا أب له ولم يبلغ ، وخمس للمساكين ، وسهم لأبناء السبيل ، وهم الغرباء المنقطع بهم في غير أوطانهم .
وإنما قدر الله هذا التقدير ، وحصر الفيء في هؤلاء المعينين ل { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً } أي : مدوالة واختصاصا { بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } فإنه لو لم يقدره ، لتداولته الأغنياء الأقوياء ، ولما حصل لغيرهم من العاجزين منه شيء ، وفي ذلك من الفساد ، ما لا يعلمه إلا الله ، كما أن في اتباع أمر الله وشرعه من المصالح ما لا يدخل تحت الحصر ، ولذلك أمر الله بالقاعدة الكلية والأصل العام ، فقال : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } وهذا شامل لأصول الدين وفروعه ، ظاهره وباطنه ، وأن ما جاء به الرسول يتعين على العباد الأخذ به واتباعه ، ولا تحل مخالفته ، وأن نص الرسول على حكم الشيء كنص الله تعالى ، لا رخصة لأحد ولا عذر له في تركه ، ولا يجوز تقديم قول أحد على قوله ، ثم أمر بتقواه التي بها عمارة القلوب والأرواح [ والدنيا والآخرة ] ، وبها السعادة الدائمة والفوز العظيم ، وبإضاعتها الشقاء الأبدي والعذاب السرمدي ، فقال : { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } على من ترك التقوى ، وآثر اتباع الهوى .
القول في تأويل قوله تعالى : { مّآ أَفَآءَ اللّهُ عَلَىَ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىَ فَلِلّهِ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِه مِنْ أهْلِ القُرَى الذي ردّ الله عزّ وجلّ على رسوله من أموال مشركي القرى .
واختلف أهل العلم في الذي عني بهذه الآية من الألوان ، فقال بعضهم : عني بذلك الجزية والخراج .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة بن خالد ، عن مالك بن أوس بن الحدثان ، قال : قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه : { إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ وَالمَساكِينِ }حتى بلغ { عَلِيمٌ حَكِيمٌ }ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قال : { وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فأنّ لِلّهِ خُمْسَهُ وللرّسُول وَلِذِي القُرْبَى . . . }الآية ، ثم قال : هذه الآية لهؤلاء ، ثم قرأ : { ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِه مِنْ أهْلِ القُرَى }حتى بلغ { للْفُقَراءِ والّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ والّذِينَ جاءوا مِنْ بَعْدِهُمْ }ثم قال : استوعبت هذه الآية المسلمين عامة ، فليس أحد إلا له حق ، ثم قال : لئن عشت ليأتين الراعي وهو يسير حُمُرَه نصيبُه ، لم يعرق فيها جبينه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، قال : حدثنا معمر في قوله : { ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِه مِنْ أهْلِ القُرَى } حتى بلغني أنها الجزية ، والخراج : خَراج أهل القرى .
وقال آخرون : عني بذلك الغنيمة التي يصيبها المسلمون من عدوّهم من أهل الحرب بالقتال عنوة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن رومان { ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِه مِنْ أهْلِ القُرَى فَلِلّهِ وَلِلرّسُولِ }ما يوجف عليه المسلمون بالخيل والركاب ، وفتح بالحرب عنوة ، { فَلِلّهِ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى والْيَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ كَيْلا يَكُونَ دُولَةً بَينَ الأغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرّسُولَ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْه فانْتَهُوا } قال : هذا قسم آخر فِيما أصيب بالحرب بين المسلمين على ما وضعه الله عليه .
وقال آخرون : عني بذلك الغنيمة التي أوجف عليها المسلمون بالخيل والركاب ، وأخذت بالغلبة ، وقالوا كانت الغنائم في بدوّ الإسلام لهؤلاء الذين سماهم الله في هذه الاَيات دون المرجفين عليها ، ثم نسخ ذلك بالآية التي في سورة الأنفال . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : { ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِه مِنْ أهْلِ القُرَى فَلِلّهِ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى والْيَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ }قال : كان الفيء في هؤلاء ، ثم نسخ ذلك في سورة الأنفال ، فقال : { وَاعْلَمُوا أنّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى والْيَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ }فنسخت هذه ما كان قبلها في سورة الأنفال ، وجعل الخمس لمن كان له الفيء في سورة الحشر ، وكانت الغنيمة تقسم خمسة أخماس ، فأربعة أخماس لمن قاتل عليها ، ويقسم الخمس الباقي على خمسة أخماس ، فخمس لله وللرسول ، وخمس لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ، وخمس لليتامى ، وخمس للمساكين ، وخمس لابن السبيل فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما هذين السهمين : سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسهم قرابته ، فحملا عليه في سبيل الله صدقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : عني بذلك : ما صالح عليه أهل الحرب المسلمين من أموالهم ، وقالوا قوله { ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِه مِنْ أهْلِ القُرَى فَلِلّهِ وللرّسُولِ . . . }الاَيات ، بيان قسم المال الذي ذكره الله في الآية التي قبل هذه الآية ، وذلك قوله : { ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِه مِنْهُمْ فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلا رِكاب }وهذا قول كان يقوله بعض المتفقهة من المتأخرين .
والصواب من القول في ذلك عندي أن هذه الآية حكمها غير حكم الآية التي قبلها ، وذلك أن الآية التي قبلها مال جعله الله عزّ وجلّ لرسوله صلى الله عليه وسلم خاصة دون غيره ، لم يجعل فيه لأحد نصيبا ، وبذلك جاء الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، عن مالك بن أوس بن الحدثان ، قال : أرسل إليّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فدخلت عليه ، فقال : إنه قد حضر أهل أبيات من قومك وإنا قد أمرنا لهم برضخ ، فاقسمه بينهم ، فقلت : يا أمير المؤمنين مر بذلك غيري ، قال : اقبضه أيها المرء فبينا أنا كذلك ، إذ جاء يرفأ مولاه ، فقال : عبد الرحمن بن عوف ، والزبير ، وعثمان ، وسعد يستأذنون ، فقال : ائذن لهم ثم مكث ساعة ، ثم جاء فقال : هذا عليّ والعباس يستأذنان ، فقال : ائذن لهما فلما دخل العباس قال : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الغادر الخائن الفاجر ، وهما جاءا يختصمان فيما أفاء الله على رسوله من أعمال بني النضير ، فقال القوم : اقض بينهما يا أمير المؤمنين ، وأرح كلّ واحد منهما من صاحبه ، فقد طالت خصومتهما ، فقال : أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السموات والأرض ، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا نُورَثُ ما تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ » قالوا : قد قال ذلك ثم قال لهما : أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك ؟ قالا : نعم قال : فسأخبركم بهذا الفيء إن الله خصّ نبيه صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعطه غيره ، فقال : { وَما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلا رِكاب }فكانت هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، فوالله ما احتازها دونكم ، ولا استأثر بها دونكم ، ولقد قسمها عليكم حتى بقي منها هذا المال ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله منه سنتهم ، ثم يجعل ما بقي في مال الله .
فإذَا كانت هذه الآية التي قبلها مضت ، وذكر المال الذي خصّ الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولم يجعل لأحد معه شيئا ، وكانت هذه الآية خبرا عن المال الذي جعله الله لأصناف شتى ، كان معلوما بذلك أن المال الذي جعله لأصناف من خلقه غير المال الذي جعله للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة ، ولم يجعل له شريكا .
وقوله : { وَلِذي القُرْبى }يقول : ولذي قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب واليتامى ، وهم أهل الحاجة من أطفال المسلمين الذين لا مال لهم والمساكين : وهم الجامعون فاقة وذلّ المسئلة وابن السبيل : وهم المنقطع بهم من المسافرين في غير معصية الله عزّ وجلّ .
وقد ذكرنا الرواية التي جاءت عن أهل التأويل بتأويل ذلك فيما مضى من كتابنا .
وقوله : { كَيْلا يَكُونَ دُولَةً بَينَ الأغْنِياءِ مِنْكُمْ }يقول جلّ ثناؤه . وجعلنا ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى لهذه الأصناف ، كيلا يكون ذلك الفيء دُولة يتداوله الأغنياء منكم بينهم ، يصرفه هذا مرّة في حاجات نفسه ، وهذا مرّة في أبواب البرّ وسُبُل الخير ، فيجعلون ذلك حيث شاءوا ، ولكننا سننا فيه سنة لا تُغير ولا تُبدّل .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار سوى أبي جعفر القارىء كَيْلا يَكُونَ دُولَةً نصبا على ما وصفت من المعنى ، وأن في يكون ذكر الفيء . وقوله : دُولَةً نصب خبر يكون ، وقر ذلك أبو جعفر القارىء : «كَيْلا يَكُونَ دُولَةٌ » على رفع الدولة مرفوعة بيكون ، والخبر قوله : بين الأغنياء منكم وبضمّ الدال من دُولة قرأ جميع قرّاء الأمصار ، غير أنه حُكي عن أبي عبد الرحمن الفتح فيها .
وقد اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى ذلك ، إذا ضمت الدال أو فُتحت ، فقال بعض الكوفيين : معنى ذلك : إذا فتحت الدولة وتكون للجيش يهزم هذا هذا ، ثم يهزم الهازم ، فيقال : قد رجعت الدولة على هؤلاء قال : والدولة برفع الدال في الملك والسنين التي تغير وتبدّل على الدهر ، فتلك الدولة والدول . وقال بعضهم : فرق ما بين الضمّ والفتح أن الدولة : هي اسم الشيء الذي يتداول بعينه ، والدولة الفعل .
والقراءة التي لا أستجيز غيرها في ذلك : كَيْلا يَكْونَ بالياء دُولَةً بضم الدال ونصب الدولة على المعنى الذي ذكرت في ذلك لإجماع الحجة عليه ، والفرق بين الدّولة والدّولة بضم الدال وفتحها ما ذكرت عن الكوفيّ في ذلك .
وقوله : { وَما آتاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ }يقول تعالى ذكره : وما أعطاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء عليه من أهل القرى فخذوه ، { وَما نهاكُمْ عَنْهُ }من الغَلول وغيره من الأمور { فانْتَهُوا } ، وكان بعض أهل العلم يقول نحو قولنا في ذلك غير أنه كان يوجه معنى قوله { وَمَا آتاكُمُ الرّسُولُ فخُذُوهُ }إلى ما آتاكم من الغنائم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن الحسن ، في قوله : { وَمَا آتاكُمُ الرّسُولُ فخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا } ، قال : يؤتيهم الغنائم ويمنعهم الغلول .
وقوله : { وَاتّقُوا اللّهَ } يقول : وخافوا الله ، واحذروا عقابه في خلافكم على رسوله بالتقدّم على ما نهاكم عنه ، ومعصيتكم إياه ، { إنّ الله شَدِيدُ العِقابِ } يقول : إن الله شديد عقابه لمن عاقبه من أهل معصيته لرسوله صلى الله عليه وسلم .
{ مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاغنيآء مِنكُمْ } .
جمهور العلماء جعلوا هذه الآية ابتداء كلام ، أي على الاستئناف الابتدائي ، وأنها قصد منها حكم غير الحكم الذي تضمنته الآية التي قبلها . ومن هؤلاء مالك وهو قول الحنفية فجعلوا مضمون الآية التي قبلها أموالَ بني النضير خاصة ، وجعلوا الآية الثانية هذه إخباراً عن حكم الأَفيَاء التي حصلت عند فتح قرىً أخرى بعد غزوة بني النضير . مثل قريظة سنة خمس ، وفَدكٍ سنة سبع ، ونحوهما فعيّنته هذه الآية للأصناف المذكورة فيها ، ولا حق في ذلك لأهل الجيش أيضاً وهذا الذي يجري على وفاق كلام عمر بن الخطاب في قضائه بين العباس وعلي فيما بأيديهما من أموال بني النضير على احتمال فيه ، وهو الذي يقتضيه تغيير أسلوب التعْبير بقوله هنا : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } بعد أن قال في التي قبلها { وما أفاء الله على رسوله منهم } [ الحشر : 6 ] فإن ضمير { منهم } راجع ل { الذين كفروا من أهل الكتاب } [ الحشر : 2 ] وهم بنو النضير لا محالة . وعلى هذا القول يجوز أن تكون هذه الآية نزلت عقب الآية الأولى ، ويجوز أن تكون نزلت بعد مدة فإن فتح القُرى وقع بعد فتح النضير بنحو سنتين .
ومن العلماء من جعل هذه الآية كلمة وبياناً للآية التي قبلها ، أي بياناً للإِجمال الواقع في قوله تعالى : { فما أوجفتم عليه من خيل } الآية [ الحشر : 6 ] ، لأن الآية التي قبلها اقتصرت على الإِعلام بأن أهل الجيْش لا حقّ لهم فيه ، ولم تبين مستحقَّه وأشعر قولُه { ولكن الله يسلط رسله على من يشاء } [ الحشر : 6 ] أنه مَالٌ لله تعالى يضعه حيث شاء على يد رسوله صلى الله عليه وسلم فقد بيّن الله له مستحقّيه من غير أهل الجيش . فموقع هذه الآية من التي قبلها موقع عطف البيان . ولذلك فصلت .
وممن قال بهذا الشافعيّ وعليه جرى تفسير صاحب « الكشاف » . ومقتضى هذا أن تكون أموال بني النضير مما يُخَمّس ولم يرو أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمّسها بل ثبت ضدُّه ، وعلى هذا يكون حكم أموال بني النضير حكماً خاصاً ، أو تكون هذه الآية ناسخة للآية التي قبلها إن كانت نزلت بعدها بمدة .
قال ابن الفرس : آية { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } . وهذه الآية من المشكلات إذا نُظرت مع الآية التي قبلها ومع آية الغنيمة من سورة الأنفال . ولا خلاف في أن قوله تعالى : { وما أفاء الله على رسوله منهم الآية } [ الحشر : 6 ] إنما نزلت فيما صار لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال الكفار بغير إيجاف ، وبذلك فسّرها عُمر ولم يخالفه أحد .
وأما آية الأنفال فلا خلاف أنها نزلت فيما صار من أموال الكفار بإيجاف ، وأما الآية الثانية من الحشر فاختلف أهل العلم فيها فمنهم من أضافها إلى التي قبلها ، ومنهم من أضافها إلى آية الأنفال وأنهما نزلتا بحكمين مختلفين في الغنيمة الموجف عليها ، وأن آية الأنفال نسخت آية الحشر .
ومنهم من قال : إنها نزلت في معنى ثالث غير المعنيين المذكورين في الآيتين : واختلف الذاهبون إلى هذا : فقيل نزلت في خراج الأرض والجزية دون بقية الأموال ، وقيل نزلت في حكم الأرض خاصة دون سائر أموال الكفار ( فتكون تخصيصاً لآية الأنفال ) وإلى هذا ذهب مالك . والآية عند أهل هذه المقالة غير منسوخة . ومنهم من ذهب إلى تخيير الإمام اهـ .
والتعريف في قوله تعالى : { من أهل القرى } تعريف العهد وهي قرى معروفة عُدّت منها : قريظة ، وفَدَك ، وقرى عُرينة ، واليُنْبُع ، ووادي القُرى ، والصفراء ، فتحت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم واختلف الناس في فتحها أكان عنوة أو صلحاً أو فَيئاً . والأكثر على أن فَدَك كانت مثل النضير .
ولا يختص جعله للرسول بخصوص ذات الرسول صلى الله عليه وسلم بل مثله فيه أيمة المسلمين .
وتقييد الفيء بفيء القرى جَرى على الغالب لأن الغالب أن لا تفتح إلا القرى لأن أهلها يحاصَرون فيستسلمون ويعطُون بأيديهم إذا اشتد عليهم الحصار ، فأما النازلون بالبوادي فلا يُغلبون إلا بعد إيجاف وقتال فليس لقيد { من أهل القرى } مفهوم عندنا ، وقد اختلف الفقهاء في حكم الفيء الذي يحصل للمسلمين بدون إيجاف . فمذهب مالك أنه لا يخمَّس وإنما تخمس الغنائم وهي ما غنمه المسلمون بإيجاف وقتال .
وذهب أبو حنيفة إلى التفصيل بين الأموال غير الأرضين وبين الأرضين . فأما غير الأرضين فهو مخمّس ، وأما الأرضون فالخيار فيها للإِمام بما يراه أصلح إن شاء قسّمها وخمس أهلها فهم أرقاء ، وإن شاء تركها على ملك أهلها وجعل خراجاً عليها وعلى أنفسهم .
وذهب الشافعي إلى أن جميع أموال الحرب مخمّسة وحمل حكم هاته الآية على حكم آية سورة الأنفال بالتخصيص أو بالنسخ .
وذهب أبو حنيفة إلى التفصيل بين الأموال غير الأرضين وبين الأرضين . فأما غير الأرضين فهو مخمّس ، وأما الأرضون فالتفويض فيها للإِمام بما يراه أصلح إن شاء قسّمها وخمس أهلها فهم أرقاء ، وإن شاء أقرّ أهلها بها وجعل خراجاً عليها وعلى أنفسهم .
وهذه الآية اقتضت أن صنفاً مما أفاء الله على المسلمين لم يجعل الله فيه نصيباً للغزاة وبذلك تحصل معارضة بين مقتضاها وبين قصر آية الأنفال التي لم تجعل لمن ذكروا في هذه الآية إلا الخمس ، فقال جمع من العلماء : إن آية الأنفال نسخت حكم هذه الآية . وقال جمع : هذه الآية نسخت آيةَ الأنفال .
وقال قتادة : كانت الغنائم في صدر الإِسلام لهؤلاء الأصناف الخمسة ثم نسخ ذلك بآية الأنفال ، وبذلك قال زيد بن رومان : قال القرطبي ونحوه عن مالك ا ه . على أن سورة الأنفال سابقة في النزول على سورة الحشر لأن الأنفال نزلت في غنائم بدر وسورة الحشر نزلت بعدها بسنتين .
إلا أن يقول قائل : إن آية الأنفال نزلت بعد آية الحشر تجديداً لما شرعه الله من التخميس في غنائم بدر ، أي فتكون آية الحشر ناسخة لما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة مغانم بدر ، ثم نسخت آية الأنفال آية الحشر . فيكون إلحاقها بسورة الأنفال بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وقال القرطبي : قيل إن سورة الحشر نزلت بعد الأنفال ، واتفقوا على أن تخميس الغنائم هو الذي استقر عليه العمل ، أي بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وبالإِجماع .
وليس يبعد عندي أن تكون القرى التي عنتها آية الحشر فتحت بحالة مترددة بين مجرد الفيء وبين الغنيمة ، فشُرع لها حكم خاص بها ، وإذ قد كانت حالتها غير منضبطة تعذر أن نقيس عليها ونُسخ حكمها واستقرّ الأمر على انحصار الفتوح في حالتين : حالة الفيء المجرد وما ليس مجردَ فيء . وسقط حكم آية الحشر بالنسخ أو بالإِجماع . والإِجماع على مخالفة حكم النص يعتبر ناسخاً لأنه يتضمن ناسخاً . وعن معمر أنه قال : بلغني أن هذه الآية أي آية { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } نزلت في أرض الخراج والجزْية .
ومن العلماء من حملها على أرض الكفار إذا أخذت عنوة مثل سواد العراق دون ما كان من أموالهم غير أرض . كل ذلك من الحيرة في الجمع بين هذه الآية وآية سورة الأنفال مع أنها متقدمة على هذه مع ما روي عن عمر في قضية حكمه بين العباس وعلي ، ومع ما فعله عُمر في سواد العراق ، وقد عرفت موقع كل . وستعرف وجه ما فعله عمر في سواد العراق عند الكلام على قوله تعالى : { والذين جاؤوا من بعدهم } [ الحشر : 10 ] .
ومن العلماء من جعل محمل هذه الآية على الغنائم كلها بناء على تفسيرهم الفيء بما يرادف الغنيمة . وزعموا أنها منسوخة بآية الأنفال . وتقدم ما هو المراد من ذكر اسم الله تعالى في عداد من لهم المغانم والفيءُ والأصناف المذكورة في هذه الآية تقدم بيانها في سورة الأنفال .
و { كي لا يكون دولة } الخ تعليل لما اقتضاه لام التمليك من جعله ملكاً لأصناف كثيرة الأفراد ، أي جعلناه مقسوماً على هؤلاء لأجل أن لا يكون الفيء دُولة بين الأغنياء من المسلمين ، أي لئلا يتداوله الأغنياء ولا ينال أهلَ الحاجة نصيب منه .
والمقصود من ذلك . إبطال ما كان معتاداً في العرب قبل الإِسلام من استئثار قائد الجيش بأمور من المغانم وهي : المرباع ، والصفايا ، وما صالح عليه عدوّه دون قتال ، والنشيطة ، والفضول .
قال عبد الله بن عَنمة الضبّيّ يخاطب بِسطام بنَ قيس سيد بني شيبان وقائدَهم في أيامهم :
لك المِرباع منها والصفايا *** وحُكْمك والنشيطَةُ والفُضُول
فالمرباع : ربُع المغانم كان يستأثر به قائد الجيش .
والصفايا : النفيس من المغانم الذي لا نظير له فتتعذر قسمته ، كان يستأثر به قائد الجيش ، وأما حُكمه فهو ما أعطاه العدوُّ من المال إذا نزلوا على حكم أمير الجيش .
والنشيطة : ما يصيبه الجيش في طريقه من مال عدوّهم قبل أن يصلوا إلى موضع القتال .
والفُضُول : ما يبْقى بعد قسمة المغانم مما لا يقبل القسمة على رؤوس الغُزاة مثل بعيرٍ وفرس .
وقد أبطل الإِسلام ذلك كله فجعل الفيء مصروفاً إلى ستة مصارف راجعة فوائدها إلى عموم المسلمين لسدّ حاجاتهم العامة والخاصة ، فإن ما هو لله وللرسول صلى الله عليه وسلم إنما يجعله الله لما يأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم وجعل الخمس من المغانم كذلك لتلك المصارف .
وقد بدا من هذا التعليل أن من مقاصد الشريعة أن يكون المال دُولة بين الأمة الإِسلامية على نظام محكم في انتقاله من كل مال لم يسبق عليه ملك لأحد مثل المَوات ، والفيء ، واللقطات ، والركاز ، أو كان جزءاً معيناً مثل : الزكاة ، والكفارات ، وتخميس المغانم ، والخراج ، والمواريث ، وعقود المعاملات التي بين جانبي مال وعمل مثل : القراض والمغارسة ، والمساقاة ، وفي الأموال التي يظفر بها الظافر بدون عمل وسعي مثل : الفيء والرّكاز ، وما ألقاه البحر ، وقد بينت ذلك في الكتاب الذي سميتُه « مقاصد الشريعة الإِسلامية » .
والدُولة بضم الدال : ما يتداوله المتداولون . والتداول : التعاقب في التصرف في شيء . وخصها الاستعمال بتداول الأموال .
والدَولة بفتح الدال : النوبة في الغلبة والملك . ولذلك أجمع القراء المشهورون على قراءتها في هذه الآية بضم الدال .
وقرأ الجمهور { كي لا يكون دولة } بنصب { دولةً } على أنه خبر { يكون } . واسم { يكون } ضمير عائد إلى ما أفاء الله ، وقرأه هشام عن ابن عامر ، وأبو جعفر برفع { دولةٌ } على أنَّ { يكون } تامة و { دولةٌ } فاعله .
وقرأ الجمهور { يكون } بتحتية في أوله . وقرأه أبو جعفر { تكونَ } بمثناة فوقية جرياً على تأنيث فاعله . واختلف الرواة عن هشام فبعضهم روى عنه موافقة ( أي جعفر ) في تاء { تكون } وبعضهم روى عنه موافقة الجمهور في الياء .
والخطاب في قوله تعالى : { بين الأغنياء منكم } للمسلمين لأنهم الذين خوطبوا في ابتداء السورة بقوله : { ما ظننتم أن يخرجوا } [ الحشر : 2 ] ثم قوله : { ما قطعتم من لينة } [ الحشر : 5 ] وما بعده . وجعله ابن عطية خطاباً للأنصار لأن المهاجرين لم يكن لهم في ذلك الوقت غنى .
والمراد ب { الأغنياء } الذين هم مظنة الغنى ، وهم الغُزاة لأنهم أغنياء بالمغانم والأنفال .
{ وَمَآ ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } .
اعتراض ذيّل به حكم فَيْء بني النضير إذ هو أمر بالأخذ بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ومما جاءت به هذه الآيات في شأن فيْء النضير ، والواو اعتراضية ، والقصد من هذا التذييل إزالة ما في نفوس بعض الجيش من حزازة حرمانهم مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أرض النضير .
والإِيتاء مستعار لتبليغ الأمر إليهم ، جعل تشريعه وتبليغه كإيتاء شيء بأيديهم كما قال تعالى : { خذوا ما آتيناكم بقوة } [ البقرة : 63 و93 ] واستعير الأخذ أيضاً لقبول الأمر والرضى به والعمل .
وقرينة ذلك مقابلته بقوله تعالى : { وما نهاكم عنه فانتهوا } وهو تتميم لنوعي التشريع . وهذه الآية جامعة للأمر باتباع ما يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم من قول وفعل فيندرج فيها جميع أدلة السنة . وفي « الصحيحين » عن ابن مسعود : أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لعن الله الواشمات والمستوشمات " . الحديث . فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب فجاءته فقالت : بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال لها : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله ؟ فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول . فقال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، أما قرأتِ : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } .
وعطف على هذا الأمر تحذير من المخالفة فأمرهم بتقوى الله فيما أمر به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وعطف الأمر بالتقوى على الأمر بالأخذ بالأوامر وترك المنهيات يدل على أن التقوى هي امتثال الأمر واجتناب النهي .
والمعنى : واتقوا عقاب الله لأن الله شديد العقاب ، أي لمن خالف أمره واقتحم نهيه .