القول في تأويل قوله تعالى : خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ( 7 ) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ( 8 )
( خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ ) يقول : ذليلة أبصارهم خاشعة ، لا ضرر بها ( يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ ) وهي جمع جدث ، وهي القبور ، وإنما وصف جلّ ثناؤه بالخشوع الأبصار دون سائر أجسامهم ، والمراد به جميع أجسامهم ، لأن أثر ذلة كل ذليل ، وعزّة كل عزيز ، تتبين في ناظريه دون سائر جسده ، فلذلك خصّ الأبصار بوصفها بالخشوع .
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله ( خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ ) قال أهل التأويل .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( خَاشِعًا أَبْصَارُهُمْ ) : أي ذليلة أبصارهم .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( خَاشِعًا أَبْصَارُهُمْ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة وبعض المكيين الكوفيين ( خُشَّعًا ) بضم الخاء وتشديد الشين ، بمعنى خاشع ؛ وقرأه عامة قرّاء الكوفة وبعض البصريين ( خَاشِعًا أَبْصَارُهُمْ ) بالألف على التوحيد اعتبارا بقراءة عبد الله ، وذلك أن ذلك في قراءة عبد الله ( خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ ) ، وألحقوه وهو بلفظ الاسم في التوحيد ، إذ كان صفة بحكم فَعَلَ ويَفْعَل في التوحيد إذا تقدّم الأسماء ، كما قال الشاعر :
وشَبابٍ حَسَنٍ أوْجُهُهمْ *** مِنْ إيادِ بنِ نزارِ بْنِ مَعَد
فوحد حَسَنا وهو صفة للأوجه ، وهي جمع ؛ وكما قال الآخر :
يَرْمي الفِجاجَ بِها الرُّكبانَ مُعْترِضًا *** أعْناقَ بُزَّلِها مُرْخَى لَها الجُدُلُ
فوحد معترضا ، وهي من صفة الأعناق ، والجمع والتأنيث فيه جائزان على ما بيَّنا .
وقوله ( كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ) يقول تعالى ذكره : يخرجون من قبورهم كأنهم في انتشارهم وسعيهم إلى موقف الحساب جراد منتَشر .
وقرأ جمهور القراء : «خشعاً » وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة والحسن وقتادة . وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي : «خاشعاً » ، وهي قراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري ، وهو إفراد بمعنى الجمع ، ونظيره قول الشاعر [ الحارث بن أوس الإيادي ] : [ الرمل ]
وشباب حسن أوجههم . . . من إياد بن نزار بن معد{[10761]}
ورجح أبو حاتم هذه القراءة وذكر أن رجلاً من المتطوعة قال قبل أن يستشهد : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فسألته عن «خشعاً وخاشعاً » فقال : «خاشعاً » بالألف ، وفي مصحف أبيّ بن كعب وعبد الله : «خاشعة » .
وخص الأبصار بالخشوع لأنه فيها أظهر منه في سائر الجوارح ، وكذلك سائر ما في نفس الإنسان من حياء أو صلف أو خوف ونحوه إنما يظهر في البصر . و : { الأجداث } جمع جدث وهو القبر ، وشبههم بالجراد المنتشر ، وقد شبههم في أخرى ب { الفراش المبثوث }{[10762]} [ القارعة : 4 ] ، وفيهم من كل هذا شبه ، وذهب بعض المفسرين إلى أنهم أولاً كالفراش حين يموجون بعض في بعض ثم في رتبة أخرى كالجراد إذا توجهوا نحو المحشر والداعي ، وفي الحديث : إن مريم بنت عمران دعت للجراد فقالت : اللهم اعشها بغير رضاع وتابع بينها بغير شباع .
ورابعها : { خشعاً أبصارهم } أي ذليلة ينظرون من طرف خفي لا تثبت أحداقهم في وجُوه الناس ، وهي نظرة الخائف المفتضح وهو كناية لأن ذلة الذليل وعزة العزيز تَظهران في عيونهما .
وخامسها : تشبيههم بالجراد المنتشر في الاكتظاظ واستتار بعضهم ببعض من شدة الخوف زيادة على ما يفيده التشبيه من الكثرة والتحرك .
وسادسها : وصفهم بمهطعين ، والمُهطع : الماشي سريعاً مادًّا عنقه ، وهي مشيئة مذعور غير ملتف إلى شيء ، يقال : هطع وأهطع .
وسابعها : قولهم : { هذا يوم عسر } وهو قولٌ من أثر ما في نفوسهم من خوف . و { عسر } : صفة مشبهة من العُسر وهو الشدة والصعوبة . ووصف اليوم ب { عسر } وصف مجازي عقلي باعتبار كونه زماناً لأمور عسرة شديدة من شدة الحساب وانتظار العذاب .
وأبهم { شيء نكر } للتهويل ، وذلك هو أهوال الحساب وإهانة الدفع ومشاهدة ما أُعد لهم من العذاب .
وانتصب { خشعاً أبصارهم } على الحال من الضمير المقدر في { يدع الداع } وإمّا من ضمير { يخرجون } مقدماً على صاحبه .
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم وأبو جعفر { خشعاً } بصيغة جمع خاشع . وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف { خَاشِعاً } بصيغة اسم الفاعل . قال الزجاج : « لك في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيدُ والتذكيرُ نحو خاشعاً أبصارُهم . ولك التوحيد والتأنيث نحو قراءة ابن مسعود { خاشعة أبصارهم } ولك الجمع نحو { خشعاً أبصارهم } اهـ .
و { أبصارهم } فاعل { خشعاً } ولا ضير في كون الوصف الرافع للفاعل على صيغة الجمع لأن المحْظور هو لحاق علامة الجمع والتثنية للفعل إذا كان فاعله الظاهر جمعاً أو مثنى ، وليس الوصف كذلك ، كما نبه عليه الرضِيُّ على أنه إذا كان الوصف جمعاً مكسَّراً ، وكان جارياً على موصوف هو جمع ، فرفع الاسم الظاهر الوصف المجموع أولى من رفعه بالوصف المجموع المفرد على ما اختاره المبرد وابن مالك كقول امرىء القيس :
وقوله : { يقول الكافرون } إظهار في مقام الإِضمار لوصفهم بهذا الوصف الذميم وفيه تفسير الضمائر السابقة .
والأجداثُ : جمع جَدث وهو القبر ، وقد جعل الله خروج الناس إلى الحشر من مواضع دفنهم في الأرض ، كما قال : { منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى } [ طه : 55 ] فيعاد خلق كل ذات من التراب الذي فيه بقية من أجزاء الجسم وهي ذرات يعلمها الله تعالى .
والجراد : اسم جمع واحدُهُ جرادة وهي حشرة ذات أجنحة أربعة مطوية على جنبيها وأرجل أربعة ، أصفر اللون .
والمنتشر : المنبثّ على وجه الأرض . والمراد هنا : الدَّبَى وهو فراخ الجراد قبل أن تظهر له الأجنحة لأنه يخرج من ثُقببٍ في الأرض هي مَبيضاتُ أصوله فإذا تم خلقه خرج من الأرض يزحف بعضه فوق بعض قال تعالى : { يوم يكون الناس كالفراش المبثوث } [ القارعة : 4 ] . وهذا التشبيه تمثيلي لأنه تشبيه هيئة خروج الناس من القبور متراكمين بهيئة خروج الجراد متعاظلاً يسير غير ساكن .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.