{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا } أي : ريحًا عظيمة ، من قوتها وشدتها ، لها صوت مزعج ، كالرعد القاصف . فسخرها اللّه عليهم { سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } { نحسات } فدمرتهم وأهلكتهم ، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم . وقال هنا : { لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } الذي اختزوا به وافتضحوا بين الخليقة . { وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ } أي : لا يمنعون من عذاب اللّه ، ولا ينفعون أنفسهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِيَ أَيّامٍ نّحِسَاتٍ لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أَخْزَىَ وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فأرسلنا على عاد ريحا صرصرا .
واختلف أهل التأويل في معنى الصرصر ، فقال بعضهم : عني بذلك أنها ريح شديدة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ريحا صَرصَرا قال : شديدة .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد رِيحا صَرْصَرا شديدة السّموم عليهم .
وقال آخرون : بل عنى بها أنها باردة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحا صَرْصَرا قال : الصرصر : الباردة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : رِيحا صَرْصَرا قال : باردة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ رِيحا صَرْصَرا قال : باردة ذات الصوت .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : رَيحا صَرْصَرا يقول : ريحا فيها برد شديد .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول مجاهد ، وذلك أن قوله : صَرْصَرا إنما هو صوت الريح إذا هبّت بشدّة ، فسُمع لها كقول القائل : صرر ، ثم جعل ذلك من أجل التضعيف الذي في الراء ، فقال ثم أبدلت إحدى الراءات صادا لكثرة الراءات ، كما قيل في ردّده : ردرده ، وفي نههه : نهنهه ، كما قال رؤبة :
فالْيَوْمَ قَدْ نَهْنَهَنِي تَنَهْنُهِي *** وأوّلُ حِلْمٍ لَيْسَ بالمُسَفّهِ
وكما قيل في كففه : كفكفه ، كما قال النابغة :
أُكَفْكِفُ عَبْرَةً غَلَبَتْ عُداتِي *** إذَا نَهْنَهْتُها عادَتْ ذُباحا
وقد قيل : إن النهر الذي يسمى صرصرا ، إنما سمي بذلك لصوت الماء الجاري فيه ، وإنه «فعلل » من صرر نظير الريح الصرصر .
وقوله : في أيّامٍ نَحِساتٍ اختلف أهل التأويل في تأويل النحسات ، فقال بعضهم : عُني بها المتتابعات . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : في أيّامٍ نَحِساتٍ قال : أيام متتابعات أنزل الله فيهنّ العذاب .
وقال آخرون : عِني بذلك المشائيم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : أيّامٍ نَحِساتٍ قال : مشائيم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في أيّامٍ نَحِساتٍ أيام والله كانت مشؤومات على القوم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : النحسات : المشؤومات النكدات .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في أيّامٍ نَحِساتٍ قال : أيام مشؤومات عليهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : أيام ذات شرّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد قوله : أيّامٍ نَحِساتٍ قال : النحس : الشرّ أرسل عليهم ريح شرّ ليس فيها من الخير شيء .
وقال آخرون : النحسات : الشداد . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في أيّامٍ نَحِساتٍ قال : شداد .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال عنى بها : أيام مشائيم ذات نحوس ، لأن ذلك هو المعروف من معنى النحس في كلام العرب .
وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار غير نافع وأبي عمرو في أيّامٍ نَحِساتٍ بكسر الحاء ، وقرأه نافع وأبو عمرو : «نَحْساتٍ » بسكون الحاء . وكان أبو عمرو فيما ذكر لنا عنه يحتج لتسكينه الحاء بقوله : يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٌ وأن الحاء فيه ساكنة .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان ، قد قرأ بكلّ واحدة منهما قرّاء علماء مع اتفاق معنييهما ، وذلك أن تحريك الحاء وتسكينها في ذلك لغتان معروفتان ، يقال هذا يومٌ نَحْسٌ ، ويومٌ نَحِسٌ ، بكسر الحاء وسكونها قال الفرّاء : أنشدني بعض العرب :
أبلِغْ جُذَاما وَلَخْما أنّ إخْوَتُهمْ *** طَيّا وَبهْرَاءَ قَوْمٌ نَصْرُهُمْ نَحِسُ
وأما من السكون فقول الله يَوْمِ نَحْسٍ ومنه قول الراجز :
يَوْمَيْنِ غَيْمَيْنِ وَيَوْما شَمْسا *** نَجْمَيْنِ بالسّعْدِ وَنجْما نَحْسا
فمن كان في لغته : «يَوْمٍ نَحْسٍ » قال : «في أيّامٍ نَحْساتٍ » ، ومن كان في لغته : يَوْمِ نَحْسٍ قال : في أيّامٍ نَحِساتٍ ، وقد قال بعضهم : النحْس بسكون الحاء : هو الشؤم نفسه ، وإن إضافة اليوم إلى النحس ، إنما هو إضافة إلى الشؤم ، وإن النحِس بكسر الحاء نعت لليوم بأنه مشؤوم ، ولذلك قيل : في أيّامٍ نَحِساتٍ لأنها أيام مشائيم .
وقوله : لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخَزْيِ في الحَياةِ الدّنْيا يقول جلّ ثناؤه : ولعذابنا إياهم في الاَخرة أخزى لهم وأشدّ إهانة وإذلالاً وهُمْ لا يُنْصَرُونَ يقول : وهم يعني عادا لا ينصرهم من الله يوم القيامة إذا عذّبهم ناصر ، فينقذهم منه ، أو ينتصر لهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فأرسل الله عليهم الريح فأهلكتهم، فذلك قوله تعالى: {فأرسلنا} فأرسل الله.
{عليهم ريحا صرصرا} يعني باردة.
{في أيام نحسات} يعني شدادا، وكانت ريح الدبور فأهلكتهم، فذلك قوله: {لنذيقهم} يعني لكي نعذبهم.
{عذاب الخزي} يعني الهوان {في الحياة الدنيا} فهو الريح.
{ولعذاب الآخرة أخزى} يعني أشد وأكثر إهانة من الريح التي أهلكتهم في الدنيا.
{وهم لا ينصرون} يعني لا يسمعون من العذاب.
قال عبد الله: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى يقول: الصرصر، الريح الباردة التي لها صوت.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فأرسلنا على عاد ريحا صرصرا، واختلف أهل التأويل في معنى الصرصر؛
فقال بعضهم: عني بذلك أنها ريح شديدة... [عن مجاهد].
وقال آخرون: بل عنى بها أنها باردة...
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول مجاهد، وذلك أن قوله: صَرْصَرا إنما هو صوت الريح إذا هبّت بشدّة، فسُمع لها...
"في أيّامٍ نَحِساتٍ" اختلف أهل التأويل في تأويل النحسات؛
فقال بعضهم: عُني بها المتتابعات...
وقال آخرون: عِني بذلك المشائيم...
وقال آخرون: معنى ذلك: أيام ذات شرّ...
وقال آخرون: النحسات: الشداد...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال عنى بها: أيام مشائيم ذات نحوس؛ لأن ذلك هو المعروف من معنى النحس في كلام العرب...
"لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخَزْيِ في الحَياةِ الدّنْيا": ولعذابنا إياهم في الآخرة أخزى لهم وأشدّ إهانة وإذلالاً.
"وهُمْ لا يُنْصَرُونَ": وهم يعني عادا لا ينصرهم من الله يوم القيامة إذا عذّبهم ناصر، فينقذهم منه، أو ينتصر لهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي عذابا يُذلّهم، ويفضحهم عند الخلق جميعا.
قوله تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى} عليهم أذلّ وأفضح وأشد من عذاب الدنيا. وقوله تعالى: {وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} يحتمل لا ينصرون بقوتهم التي كانت لهم واعتمدوا عليها بقولهم: {من أشد منا قوة}، ويحتمل لا يُنصرون بالأصنام التي عبدوها على رجاء النصر لهم والشفاعة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أضاف العذاب إلى الخزي وهو الذل والاستكانة على أنه وصف للعذاب، كأنه قال: عذاب خزي، كما تقول: فعل السوء، تريد: الفعل السيء، والدليل عليه قوله تعالى: {وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى} وهو من الإسناد المجازي، ووصف العذاب بالخزي: أبلغ من وصفهم به، ألا ترى إلى البون بين قوليك: هو شاعر، وله شعر شاعر...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
لا ريب أن الأيام التي أوقع الله سبحانه فيها العقوبة بأعدائه وأعداء رسله كانت أياما نحسات عليهم؛ لأن النحس أصابهم فيها، وإن كانت أيام خير لأوليائه المؤمنين وهذا كيوم القيامة،فان اليوم المذكور بحسب ما يقع فيه، وكم لله من نعمة على أوليائه في هذا اليوم، وان كان له فيه بلايا ونقم على أعدائه، كما يقع ذلك في غيره من الأيام، فسعود الأيام ونحوسها: إنما هو لسعود الأعمال، وموافقتها لمرضاة الرب، ونحوس الأعمال: إنما هو مخالفتها لما جاءت به الرسل.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الريح: تموُّج في الهواء يحدث من تعاكس الحرارة والبرودة، وتنتقل موجاته كما تنتقل أمواج البحر والريح الذي أصاب عاداً هو الريح الدَّبور، وهو الذي يهبّ من جهة مغرب الشمس، سميت دبوراً بفتح الدال وتخفيف الباء؛ لأنها تهبّ من جهة دُبر الكعبة قال النبي صلى الله عليه وسلم {نُصِرتُ بالصبا وأهلكتْ عاد بالدبور} وإنما كانت الريح التي أصابت عاداً بهذه القوة بسبب قوة انضغاط في الهواء غير معتاد فإن الانضغاط يصير الشيء الضعيف قوياً، كما شوهد في عصرنا أن الأجسام الدقيقة من أجزاء كيمياوية تسمى الذَّرة تصير بالانضغاط قادرة على نسف مدينة كاملة، وتسمى الطاقة الذَّرية، وقد نُسف بها جزء عظيم من بلاد اليابان في الحرب العامة.
والصرصر: الريح العاصفة التي يكون لها صرصرة، أي دويّ في هبوبها من شدة سرعة تنقلها. وتضعيف عينه للمبالغة في شدتها بين أفراد نوعها كتضعيف كبكب للمبالغة في كَبّ. وأصله صَرَّ أي صاح، وهو وصف لا يؤنث لفظه؛ لأنه لا يجري إلا على الريح وهي مقدرة التأنيث.
والنحسات بفتح النون وسكون الحاء: جمع نَحس بدون تأنيث؛ لأنه مصدر أو اسم مصدر لفعل نَحِس كَعَلِم، كقوله تعالى: {في يوم نحس مستمر} [القمر: 19].
وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بسكون الحاء. ويجوز كسر الحاء وبه قرأ البقية على أنه صفة مشبهة من (نَحِس) إذا أصابه النحْس إصابة سوء أو ضر شديد. وضده البخت في أوهام العامة، ولا حقيقة للنحس ولا للبخت ولكنهما عارضان للإنسان، فالنحس يَعرض له من سوء خِلقه مزاجه أو من تفريطه أو من فساد بيئته أو قومِه. وبعض النوعين أمور اتفاقية وربما كان بعضها جزاءً من الله على عمل خيرٍ أو شر من عباده أو في دينه كما حل بعاد وأهل الجاهلية. وعامة الأمم يتوهمون النحس والبخت من نوع الطِّيرَة ومن التشاؤم والتيمّن، ومنه الزجر والعيافة عند العرب في الجاهلية ومنه تَطَلُّع الحدثَان من طوالع الكواكب والأيامِ عند معظم الأمم الجاهلة أو المختلَّة العقيدة. وكل ذلك أبطله الإسلام، أي كشف بطلانه، بما لم يسبقه تعليم من الأديان التي ظهرت قبل الإِسلام.
فمعنى وصف الأيام بالنحسات: أنها أيام سوء شديد أصابهم وهو عذاب الريح، وليس المراد أن تلك الأيام من كل عام هي أيام نحس على البشر لأن ذلك لا يستقيم لاقتضائه أن تكون جميع الأمم حلّ بها سوء في تلك الأيام.
واللام في {لنُذِيقَهُم} للتعليل وهي متعلقة ب (أرسلنا). والإِذاقة تخييل لمكنية، شُبه العذاب بطعام هُيِّئ لهم على وجه التهكم
والإِذاقة: تخييل من ملائمات الطعام المشبه به.
وجملة {ولَعَذَابُ الآخِرَةِ أخزى} احتراس لئلا يحسِب السامعون أن حظ أولئك من العقاب هو عذاب الإِهلاك بالريح فعطف عليه الإِخبار بأن عذاب الآخرة أخزَى، أي لهم ولكل من عذّب عذاباً في الدنيا لغضب الله عليه. وأخْزى: اسم تفضيل جرى على غير قياس، وقياسه أن يقال: أشد إخزاء لأنه لا يقال: خَزاه، بمعنى أخزاه، أي أهانه، ومثل هذا في صوغ اسم التفضيل كثير في الاستعمال.