تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖ وَأَشۡهِدُواْ ذَوَيۡ عَدۡلٖ مِّنكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا} (2)

وقوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي : إذا قاربن انقضاء العدة ، لأنهن لو خرجن من العدة ، لم يكن الزوج مخيرًا بين الإمساك والفراق . { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أي : على وجه المعاشرة [ الحسنة ] ، والصحبة الجميلة ، لا على وجه الضرار ، وإرادة الشر والحبس ، فإن إمساكها على هذا الوجه ، لا يجوز ، { أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أي : فراقًا لا محذور فيه ، من غير تشاتم ولا تخاصم ، ولا قهر لها على أخذ شيء من مالها .

{ وَأَشْهِدُوا } على طلاقها ورجعتها { ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } أي : رجلين مسلمين عدلين ، لأن في الإشهاد المذكور ، سدًا لباب المخاصمة ، وكتمان كل منهما ما يلزمه بيانه .

{ وَأَقِيمُوا } أيها الشهداء { الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } أي : ائتوا بها على وجهها ، من غير زيادة ولا نقص ، واقصدوا بإقامتها وجه الله وحده{[1137]}  ولا تراعوا بها قريبًا لقرابته ، ولا صاحبًا لمحبته ، { ذَلِكُمْ } الذي ذكرنا لكم من الأحكام والحدود { يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } فإن من يؤمن بالله ، واليوم الآخر ، يوجب له ذلك{[1138]}  أن يتعظ بمواعظ الله ، وأن يقدم لآخرته من الأعمال الصالحة ، ما يتمكن منها ، بخلاف من ترحل الإيمان عن قلبه ، فإنه لا يبالي بما أقدم عليه من الشر ، ولا يعظم مواعظ الله لعدم الموجب لذلك ، ولما كان الطلاق قد يوقع في الضيق والكرب والغم ، أمر تعالى بتقواه ، وأن{[1139]}  من اتقاه في الطلاق وغيره فإن الله يجعل له فرجًا ومخرجًا .

فإذا أراد العبد الطلاق ، ففعله على الوجه الشرعي ، بأن أوقعه طلقة واحدة ، في غير حيض ولا طهر قد وطئ فيه{[1140]}  فإنه لا يضيق عليه الأمر ، بل جعل الله له فرجًا وسعة يتمكن بها من مراجعة النكاح{[1141]}  إذا ندم على الطلاق ، والآية ، وإن كانت في سياق الطلاق والرجعة ، فإن العبرة بعموم اللفظ ، فكل من اتقى الله تعالى ، ولازم مرضاة الله في جميع أحواله ، فإن الله يثيبه في الدنيا والآخرة .

ومن جملة ثوابه أن يجعل له فرجًا ومخرجًا من كل شدة ومشقة ، وكما أن من اتقى الله جعل له فرجًا ومخرجًا ، فمن لم يتق الله ، وقع في الشدائد والآصار والأغلال ، التي لا يقدر على التخلص منها والخروج من تبعتها ، واعتبر ذلك بالطلاق ، فإن العبد إذا لم يتق الله فيه ، بل أوقعه على الوجه المحرم ، كالثلاث ونحوها ، فإنه لا بد أن يندم ندامة لا يتمكن من استدراكها{[1142]}  والخروج منها .


[1137]:- في ب: وجه الله تعالى.
[1138]:- في ب: فإن الإيمان بالله، واليوم الآخر يوجب لصاحبه.
[1139]:- في ب: ووعد من.
[1140]:- في ب: ولا طهر أصابها فيه
[1141]:- في ب: يتمكن بها من الرجوع إلى النكاح.
[1142]:- في ب: لا يتمكن من استداركها.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖ وَأَشۡهِدُواْ ذَوَيۡ عَدۡلٖ مِّنكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا} (2)

وقوله : فإذَا بَلَغْنَ أجَلَهُنّ يقول تعالى ذكره : فإذا بلغ المطلقات اللواتي هنّ في عدة أجلهنّ وذلك حين قرب انقضاء عددهنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ يقول : فأمسكوهنّ برجعة تراجعوهن ، إن أردتم ذلك بمعروف يقول : بما أمرك الله به من الإمساك وذلك باعطائها الحقوق التي أوجبها الله عليه لها من النفقة والكسوة والمسكن وحُسن الصحبة ، أو فارقوهنّ بمعروف ، أو اتركوهنّ حتى تنقضي عددهنّ ، فتبين منكم بمعروف ، يعني بإيفائها ما لها من حق قبله من الصداق والمتعة على ما أوجب عليها لها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ بن عبد الأعلى ، قال : ثني المحاربي عبد الرحمن بن محمد ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قوله : فإذَا بَلَغْنَ أجَلَهُنّ يقول : إذا انقضت عدتها قبل أن تغتسل من الحيضة الثالثة ، أو ثلاثة أشهر إن لم تكن تحيض ، يقول : فراجع إن كنت تريد المراجعة قبل أن تنقضي العدّة بإمساك بمعروف ، والمعروف أن تحسن صحبتها أوْ تَسْريحٌ بإحْسانٍ والتسريح بإحسان : أن يدعها حتى تمضي عدتها ، ويعطيها مهرا إن كان لها عليه إذا طلقها ، فذلك التسريح بإحسان ، والمُتعة على قدر الميسرة .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : فإذَا بَلَغْنَ أجَلَهُن قال : إذا طلقها واحدة أو ثنتين ، يشاء أن يمسكها بمعروف ، أو يسرّحها بإحسان .

وقوله : وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وأشهدوا على الإمساك إن أمسكتموهنّ ، وذلك هو الرجعة ذوي عدل منكم ، وهما اللذان يرضى دينهما وأمانتهما .

وقد بيّنا فيما مضى قبل معنى العدل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، وذكرنا ما قال أهل العلم فيه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : إن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها ، أشهد رجلين كما قال الله : وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ عند الطلاق وعند المراجعة ، فإن راجعها فهي عنده على تطليقتين ، وإن لم يراجعها فإذا انقضت عدتها فقد بانت منه بواحدة ، وهي أملك بنفسها ، ثم تتزوّج من شاءت ، هو أو غيره .

حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ قال : على الطلاق والرجعة .

وقوله : وأقِيمُوا الشّهادَةَ لِلّهِ يقول : وأشهدوا على الحقّ إذا استشهدتم ، وأدّوها على صحة إذا أنتم دُعيتم إلى أدائها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : وأقِيمُوا الشّهادَةَ لِلّهِ قال : أشهدوا على الحقّ .

وقوله : ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللّهِ واليَوْمِ الاَخِرِ يقول تعالى ذكره : هذا الذي أمرتكم به ، وعرّفتكم من أمر الطلاق ، والواجب لبعضكم على بعض عند الفراق والإمساك عظة منا لكم ، نعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الاَخر ، فيصدّق به .

وعُنِي بقوله : مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللّهِ من كانت صفته الإيمان بالله ، كالذي :

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللّهِ وَاليَوْم الاَخِرِ قال : يؤمن به .

وقوله : وَمَنْ يَتّق اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا يقول تعالى ذكره : من يخف الله فيعمل بما أمره به ، ويجتنب ما نهاه عنه ، يجعل له من أمره مخرجا بأن يعرّفه بأن ما قضى فلا بدّ من أن يكون ، وذلك أن المطلق إذا طلّق ، كما ندبه الله إليه للعدّة ، ولم يراجعها في عدتها حتى انقضت ثم تتبعها نفسه ، جعل الله له مخرجا فيما تتبعها نفسه ، بأن جعل له السبيل إلى خطبتها ونكاحها ، ولو طلقها ثلاثا لم يكن له إلى ذلك سبيل .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖ وَأَشۡهِدُواْ ذَوَيۡ عَدۡلٖ مِّنكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا} (2)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{فإذا بلغن أجلهن} يعني به انقضاء العدة قبل أن تغتسل {فأمسكوهن} إذا راجعتموهن {بمعروف} يعني طاعة الله {أو فارقوهن بمعروف} يعني طاعة الله في غير إضرار فهذا هو الإحسان {وأشهدوا} على الطلاق والمراجعة {ذوي عدل منكم}. ثم قال للشهود {وأقيموا الشهادة لله} على وجهها {ذلكم} الذي ذكر الله تعالى من الطلاق والمراجعة {يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر} يعني يصدق بالله أنه واحد لا شريك له، وبالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، فليفعل ما أمره الله.

ثم قال: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"فإذَا بَلَغْنَ أجَلَهُنّ "يقول تعالى ذكره: فإذا بلغ المطلقات اللواتي هنّ في عدة أجلهنّ وذلك حين قرب انقضاء عددهنّ "فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ" يقول: فأمسكوهنّ برجعة تراجعوهن، إن أردتم ذلك "بمعروف" يقول: بما أمرك الله به من الإمساك وذلك بإعطائها الحقوق التي أوجبها الله عليه لها من النفقة والكسوة والمسكن وحُسن الصحبة، "أو فارقوهنّ بمعروف"، أو اتركوهنّ حتى تنقضي عددهنّ، فتبين منكم بمعروف، يعني بإيفائها ما لها من حق قبله من الصداق والمتعة على ما أوجب عليه لها...

وقوله: "وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ": وأشهدوا على الإمساك إن أمسكتموهنّ، وذلك هو الرجعة "ذوي عدل منكم"، وهما اللذان يرضى دينهما وأمانتهما...

وقوله: "وأقِيمُوا الشّهادَةَ لِلّهِ" يقول: وأشهدوا على الحقّ إذا استشهدتم، وأدّوها على صحة إذا أنتم دُعيتم إلى أدائها...

وقوله: "ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللّهِ واليَوْمِ الآخِرِ" يقول تعالى ذكره: هذا الذي أمرتكم به، وعرّفتكم من أمر الطلاق، والواجب لبعضكم على بعض عند الفراق والإمساك عظة منا لكم، نعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الاَخر، فيصدّق به.

وعُنِي بقوله: "مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللّهِ" من كانت صفته الإيمان بالله...

وقوله: "وَمَنْ يَتّق اللّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجا" يقول تعالى ذكره: من يخف الله فيعمل بما أمره به، ويجتنب ما نهاه عنه، يجعل له من أمره مخرجا بأن يعرّفه بأن ما قضى فلا بدّ من أن يكون، وذلك أن المطلق إذا طلّق، كما ندبه الله إليه للعدّة، ولم يراجعها في عدتها حتى انقضت ثم تتبعها نفسه، جعل الله له مخرجا فيما تتبعها نفسه، بأن جعل له السبيل إلى خطبتها ونكاحها، ولو طلقها ثلاثا لم يكن له إلى ذلك سبيل.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

(فاذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف) معناه فاذا قاربن أجلهن الذي هو الخروج عن عدتهن، لأنه لا يجوز أن يكون المراد فإذا انقضى أجلهن، لأنه عند انقضاء أجلهن لا يملك رجعتها. وقد ملكت نفسها...

(يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) فالوعظ: معنى يدعو إلى الحق بالترغيب والترهيب. وإنما أضاف الوعظ إلى من يؤمن بالله واليوم الآخر دون غيره، لأنه الذي ينتفع به دون الكافر الجاحد لذلك...

جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :

يريد بالبلوغ ههنا مقاربة البلوغ، لا انقضاء الأجل، لأن الأجل لو انقضى- وهو انقضاء العدة -لم يجز لهم إمساكهن. وهذا إجماع لا خلاف فيه...

.

قال أبو عمر: في قول الله- عز وجل: {وأشهدوا ذوي عدل منكم}، وقوله: {ممن ترضون من الشهداء}، دليل على أنه لا يجوز أن يقبل إلا العدل الرضي، وان من جهلت عدالته لم تجز شهادته حتى تعلم الصفة المشترطة. وقد اتفقوا في الحدود، والقصاص، وكذلك كل شهادة، وبالله التوفيق. (س: 22/33)...

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

(فأمسكوهن بمعروف) أي: راجعوهن بمعروف، ومعناه: على أمر الله تعالى. ويقال: المعروف هاهنا: هو أن يراجعها ليمسكها لا أن يراجعها فيطلقها، فيطول العدة عليها على ما كان يفعله أهل الجاهلية...

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

{ومن يتق الله يجعل له مخرجا} من الإشكالات والشبه...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

... {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} لوجهه خالصاً، وذلك أن تقيموها لا للمشهود له ولا للمشهود عليه، ولا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الظلم...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

«المفارقة بالمعروف»: هو أداء المهر والتمتيع ودفع جميع الحقوق والوفاء بالشروط وغير ذلك... وقوله تعالى: {ذلكم يوعظ به} إشارة إلى إقامة الشهادة، وذلك أن جميع فصول الأحكام والأمور فإنما تدور على إقامة الشهادة...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف، وأشهدوا ذوي عدل منكم، وأقيموا الشهادة لله. ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر. ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب. ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره. قد جعل الله لكل شيء قدرا)...

وبلوغ الأجل آخر فترة العدة. وللزوج ما دامت المطلقة لم تخرج من العدة -على آجالها المختلفة التي سبق بيانها- أن يراجعها فتعود إلى عصمته بمجرد مراجعتها -وهذا هو إمساكها- أو أن يدع العدة تمضي فتبين منه ولا تحل له إلا بعقد جديد كالزوجة الجديدة. وسواء راجع أم فارق فهو مأمور بالمعروف فيهما. منهي عن المضارة بالرجعة، كأن يراجعها قبيل انتهاء العدة ثم يعود فيطلقها الثانية ثم الثالثة ليطيل مدة بقائها بلا زواج! أو أن يراجعها ليبقيها كالمعلقة، ويكايدها لتفتدي منه نفسها -وكان كلاهما يقع عند نزول هذه السورة...

وفي حالتي الفراق أو الرجعة تطلب الشهادة على هذه وذاك. شهادة اثنين من العدول. قطعا للريبة...

(وأقيموا الشهادة لله).. فالقضية قضية الله، والشهادة فيها لله، هو يأمر بها، وهو يراقب استقامتها، وهو يجزي عليها. والتعامل فيها معه لا مع الزوج ولا الزوجة ولا الناس! (ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر). والمخاطبون بهذه الأحكام هم المؤمنون المعتقدون باليوم الآخر. فهو يقول لهم: إنه يعظهم بما هو من شأنهم. فإذا صدقوا الإيمان به وباليوم الآخر فهم إذن سيتعظون ويعتبرون. وهذا هو محك إيمانهم، وهذا هو مقياس دعواهم في الإيمان! (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب).. مخرجا من الضيق في الدنيا والآخرة،

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والإمساك: اعتزام المراجعة عبر عنه بالإمساك للإيماء إلى أن المطلقة الرجعية لها حكم الزوجة فيما عدا الاستمتاع فكأنه لما راجعها قد أمسكها أن لا تفارقه فكأنه لم يفارقها لأن الإِمساك هو الضن بالشيء وعدم التفريط فيه...

وأنه إذا لم يراجعها فكأنه قد أعاد فراقها وقسا قلبه. ومن أجل هذه النكتة جعل عدم الإمساك فراقاً جديداً في قوله: {أو فارقوهن بمعروف}. والأمر في {فأمسكوهن} {أو فارقوهن} للإِباحة، و {أو} فيه للتخيير. والباء في {بمعروف} للملابسة أي ملابسة كل من الإِمساك والفراق للمعروف. والمعروف: هو ما تعارفه الأزواج من حسن المعاملة في المعاشرة وفي الفراق...

وتقديم الإِمساك أعني المراجعة على إمضاء المفارقة، إيماء إلى أنه أرضى لله تعالى وأَوفَقُ بمقاصد الشريعة مع ما تقدم من التعبير عن المراجعة بالإمساك، ففهم أن المراجعة مندوب إليها لأن أبْغض الحلال إلى الله الطلاق...

{وَأَقِيمُواْ الشهادة لله}. عطف على {وأشهدوا ذوي عدل منكم}. والخطاب موجه لكل من تتعلق به الشهادة من المشهود عليهم والشهود كلٌ يأخذ بما هو حظه من هذين الخطابين...

فالكل مأمورون بإقامة الشهادة...

ولمّا كان أمر الطلاق غير خال من حرج وغم يعرض للزوجين وأمر المراجعة لا يخلو في بعض أحواله من تحمل أحدهما لبعض الكره من الأحوال التي سببت الطلاق، أعلمهما الله بأنه وعد المتقين الواقفين عند حدوده بأن يجعل لهم مخرجاً من الضائقات، شبه ما هم فيه من الحرج بالمكان المغلق على الحالّ فيه وشبه ما يمنحهم الله به من اللطف وإجراء الأمور على ما يلائم أحوالهم بجعلِ منفذ في المكان المغلق يتخلص منه المتضائق فيه...

ولما كان من دواعي الفراق والخلاف بين الزوجين ما هو من التقتير في الإِنفاق لضيق ذات اليد فكان الإحجام عن المراجعة عارضاً كثيراً للناس بعد التطليق، أُتبع الوعد بجعل المخرَج للمتقين بالوعد بمخرج خاص وهو مخرج التوسعة في الرزق...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

إنّ هذه الآية تطرح أهمّ الأواصر المرتبطة بالحياة الزوجية وأكثرها نضجاً، وهي: إمّا أن يعيش الرجل مع المرأة بإحسان ومعروف وتوافق، أو أن ينفصلا بإحسان. فالانفصال ينبغي أن يتمّ بعيداً عن الهياج والعربدة، وعلى أصول صحيحة، ويجب أن تحفظ فيه الحقوق واللياقات لكي تكون أرضية صالحة ومهيّأة للعودة والرجوع إذا ما قرّرا الرجوع إلى الحياة المشتركة فيما بعد، فإنّ العودة إذا تمّت في جو مظلم ملبّد بالخلافات والتعديّات، فسوف لا تكون عودة موفّقة تستطيع الاستمرار مدّة طويلة. هذا إضافة إلى أنّ الانفصال بالطريقة غير اللائقة قد يترك آثاراً، ليس فقط على الزوج والزوجة، وإنّما قد تتعدّى إلى عشيرة وأقرباء كلّ منهما، وتقطع طريق المساعدة لهما في المستقبل. ومن اللطيف حقّاً أن تحاط كلّ الصداقات والعلاقات المشتركة بين الناس بجوّ من الإحسان والاحترام المتبادل للحقوق والشعور بالمسؤولية، وحتّى لو وقع الطلاق فيجب أن يتمّ أيضاً بإحسان ودون مشاكل، فإنّ ذلك يعتبر بحدّ ذاته نوعاً من الانتصار والموفّقية لكلا الطرفين. ويتّضح ممّا سبق أنّ الإمساك بالمعروف والطلاق بالمعروف له معنى واسع يشمل جميع الواجبات والمستحبّات والآداب والأخلاق التي تقتضيها تلك العلاقة...

ولتأكيد الأحكام السابقة جميعاً تقول الآية الكريمة: (ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر)...

هذا التعبير دليل على الأهمية القصوى التي يولّيها القرآن الكريم لأحكام الطلاق، التي إذا تجاوزها أحد ولم يتّعظ بها فكأنّه أنكر الإيمان بالله واليوم الآخر...