تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۖ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَٰلِكُمۡ أَن تَبۡتَغُواْ بِأَمۡوَٰلِكُم مُّحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَۚ فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا تَرَٰضَيۡتُم بِهِۦ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡفَرِيضَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (24)

{ وَ } من المحرمات في النكاح { الْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ } أي : ذوات الأزواج . فإنه يحرم نكاحهن ما دمن في ذمة الزوج حتى تطلق وتنقضي عدتها . { إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي : بالسبي ، فإذا سبيت الكافرة ذات الزوج حلت للمسلمين بعد أن تستبرأ . وأما إذا بيعت الأمة المزوجة أو وهبت فإنه لا ينفسخ نكاحها لأن المالك الثاني نزل منزلة الأول ولقصة بريرة حين خيرها النبي صلى الله عليه وسلم .

وقوله : { كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي : الزموه واهتدوا به فإن فيه الشفاء والنور وفيه تفصيل الحلال من الحرام .

ودخل في قوله : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } كلُّ ما لم يذكر في هذه الآية ، فإنه حلال طيب . فالحرام محصور والحلال ليس له حد ولا حصر لطفًا من الله ورحمة وتيسيرًا للعباد .

وقوله : { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } أي : تطلبوا من وقع عليه نظركم واختياركم من اللاتي أباحهن الله لكم حالة كونكم { مُحْصِنِينَ } أي : مستعفين عن الزنا ، ومعفين نساءكم .

{ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } والسفح : سفح الماء في الحلال والحرام ، فإن الفاعل لذلك لا يحصن زوجته لكونه وضع شهوته في الحرام فتضعف داعيته للحلال فلا يبقى محصنا لزوجته . وفيها دلالة على أنه لا يزوج غير العفيف لقوله تعالى : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } . { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ } أي : ممن تزوجتموها { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي : الأجور في مقابلة الاستمتاع . ولهذا إذا دخل الزوج بزوجته تقرر عليه صداقها { فَرِيضَةً } أي : إتيانكم إياهن أجورهن فرض فرضه الله عليكم ، ليس بمنزلة التبرع الذي إن شاء أمضاه وإن شاء رده . أو معنى قوله فريضة : أي : مقدرة قد قدرتموها فوجبت عليكم ، فلا تنقصوا منها شيئًا .

{ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } أي : بزيادة من الزوج أو إسقاط من الزوجة عن رضا وطيب نفس [ هذا قول كثير من المفسرين ، وقال كثير منهم : إنها نزلت في متعة النساء التي كانت حلالا في أول الإسلام ثم حرمها النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يؤمر بتوقيتها وأجرها ، ثم إذا انقضى الأمد الذي بينهما فتراضيا بعد الفريضة فلا حرج عليهما ، والله أعلم ]{[205]} .

{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : كامل العلم واسعه ، كامل الحكمة : فمن علمه وحكمته شرع لكم هذه الشرائع وحد لكم هذه الحدود الفاصلة بين الحلال والحرام .


[205]:زيادة من هامش ب، والزيادة غير واضحة، وقد أتممتها من طبعة السلفية.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۖ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَٰلِكُمۡ أَن تَبۡتَغُواْ بِأَمۡوَٰلِكُم مُّحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَۚ فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا تَرَٰضَيۡتُم بِهِۦ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡفَرِيضَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (24)

ثم بين - سبحانه - نوعا سابعا من المحرمات فقال : { والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } .

وقوله { والمحصنات } من الإِحصان وهو فى اللغة بمعنى المنع . يقال : هذه درع حصينة ، أى مانعة صاحبها من الجراحة . ويقال : هذا موضع حصين ، أى مانع من يريده بسوء . ويقال امرأة حصينة أى مانعة نفسها من كل فاحشة بسبب عفتها أو حريتها أو زواجها .

قال الراغب : ويقال حصان للمرأة العفيفة ولذات الحرمة . قال - تعالى - : { وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } وقال - تعالى - { فَإِذَآ أُحْصِنَّ } أى تزوجن . وأحصن زوجن والحصان فى الجملة : المرأة المحسنة إما بعفتها أو بتزوجها أو يمانع من شرفها وحريتها . والمراد بالمحصنات هنا : ذوات الأزواج من النساء .

وقوله { والمحصنات مِنَ النسآء } معطوف على قوله { وَأُمَّهَاتُكُمُ } فى قوله - تعالى - : فى آية المحرمات السابقة { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } إلخ .

والمعنى : وكما حرم عليكم نكاح أمهاتكم وبناتكم إلخ ، فقد حرم عليكم - أيضا - نكاح ذوات الأزواج من النساء قبل مفارقة أزواجهن لهن ، لكى لا تختلط المياه فتضيع الأنساب .

وقوله { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } استثناء من تحريم نكاح ذوات الأزواج .

والمراد به : النساء المسبيات اللاتى أصابهن السبى ولهن أزواج فى دار الحرب ، فانه يحل لمالكهن وطؤهن بعد الاستبراء ، لارتفاع النكاح بينهن وبين أزواجهن بمجرد السبى . و بسبيهن وحدهن دون أزواجهن .

أى : وحرم الله - تعالى - عليكم نكاح ذوات الأزواج من النساء ، إلا ما ملكتموهن بسبى فسباؤكم لهن هادم لنكاحهن السابق فى دار الكفر ، ومبيح لكم نكاحهن بعد استبرائهن .

قال القرطبى ما ملخصه : فالمراد بالمحصنات هاهنا ذوات الأزواج . أى هن محرمات إلا ما ملكت اليمين بالسبى من أرض الحرب ، فإن تلك حلال للذى تقع فى سهمه وإن كان لها زوج ، وهو قول الشافعى فى أن السباء يقطع العصمة . وقاله ابن وهب وابن عبد الحكم وروياه عن مالك ، وقال به أشهب يدل عليه ما رواه مسلم فى صحيح عن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا يوم حنين إلى أوطاس فلقوا العدو فقاتلوهم وظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا . فكان ناس من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وقد تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين . فأنزل الله - عز وجل - فى ذلك { والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } أى فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن ، وهذا نص صحيح صريح فى أن الآية نزلت بسبب تحرج أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم عن وطء المسبيات ذوات الأزواج فأنزل الله فى جوابهم { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } . وبه قال مالك وابو حنيفة وأصحابه والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور ، وهو الصحيح - إن شاء الله تعالى - .

وقيل إن المراد بالمحصنات هنا : ذوات الأزواج - كما تقدم - ، ولما ملكت أيمانكم : مطلق ملك اليمين . فكل من انتقل إليه ملك أمة ببيع أو هبة أو سباء أو غير ذلك وكانت متزوجة كان ذلك الانتقال مقتضيا لطلاقها وحلها لمن انتلقت إليه .

وهذا القول ضعيف ، لأن عائشة - رضى الله عنها - اشترت بريرة وأعتقتها وكانت ذات زوج ، ثم خيرها النبى صلى الله عليه وسلم بين فسخ نكاحها من زوجها وبين بقائها على هذا النكاح ، فدل ذلك على أن بيع الأمة ليس هادما للعصمة ، لأنه لو كان هادما لها ما خير النبى صلى الله عليه وسلم بريرة .

أخرج البخارى عن عائشة - " رضى الله عنها - قالت : اشتريت بريرة . فاشترط أهلها ولاءها . فذكرت ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال : " أتقيها فإن الولاء لمن أعطى الورق " .

قالت : فأعتقتها . قال : فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخيرها فى زوجها ، فقالت : لو أعطانى كذا وكذا مابت عنده . فاختارت نفسها " .

وقوله - تعالى - { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } ساقه - سبحانه - لتأكيده تحريم نكاح الأنواع التى سبق ذكرها .

وقوله { كِتَابَ } مصدر كتب ، وهو مصدر مؤكد بعامله أى : كتب الله عليكم تحريم هذه الأنواع التى سبق ذكرها وفرضه فرضا ، فليس لكم أن تفعلوا شيئا مما حرمه الله عليكم ، وإنما الواجب عليكم أن تقفوا عند حدوده وشرعه .

وقيل : إن قوله { كِتَابَ } منصوب على الإِغراء . أى : الزموا كتابا لله الذى هو حجة عليكم إلى يوم القيامة ولا تخالفوا شيئا من أوامره أو نواهيه .

وعليه فيكون المراد بالكتاب هنا القرآن الكريم الذى شرع الله فيه ما شرع من الأحكام .

وإلى هنا تكون هذه الآيات الثلاث قد بينت خمسة عشر نوعا من الأنكحة المحرمة .

أما الآية الأولى وهى قوله - تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } الخ فقد بينت نوعا واحدا .

وأما الآية الثانية وهى قوله - تعالى - : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } الخ فقد بينت ثلاثة عشر نوعا .

وأما الآية الثانية وهى قوله - تعالى - : { والمحصنات مِنَ النسآء } . الخ فقد بينت نوعا واحدا .

قال الفخر الرازى عند تفسيره لقوله - تعالى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } . . . الآية : اعلم أنه - تعالى - نص على تحريم أربعة عشر صنفا من النساء : سبعة منهن من جهة النسب وهن : الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخلات وبنات الأخ وبنات الأخت .

وسبعة أخرى لا من جهة النسب وهن : الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة ، وأمهات النساء والربائب بنات النساء بشرط أن يكون قد دخل بالنساء ، وأزواج الأبناء والآباء إلا أن أزواج الأبناء مذكورة ها هنا ، وأزواج الآباء مذكورة فى الآية المتقدمة ، - وهى قوله { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء } والجمع بين الاختين .

هذا ، وبعد أن بين - سبحانه - المحرمات من النساء ، عقب ذلك بإيراد جملة كريمة بين فيها ما يحل نكاحه من النساء فقال - تعالى - : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } .

و { مَّا } هنا المراد بها عموم النساء .

وكلمة { وَرَاءَ } هنا بمعنى غير أو دون كما فى قول بعضهم : ( وليس وراء الله للمرء مذهب ) .

واسم الإِشارة { أُحِلَّ لَكُمْ } يعود إلى ما تقدم من المحرمات .

والجملة الكريمة معطوفة على قوله { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } الخ .

ومن قرأ { أُحِلَّ لَكُمْ } ببناء الفعل للفاعل جعلها معطوفة على كتب المقدر فى قوله { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ . . . } .

والمعنى : حرمت عليكم هؤلاء المذكورات ، وأحل لكم نكاح ما سواهن من النساء .

قال القرطبى : قوله - تعالى { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } قرأ حمزة والكسائى وعاصم فى رواية حفص { وَأُحِلَّ لَكُمْ } ردا على { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ } وقرأ الباقون بالفتح ردا على قوله - تعالى - { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } .

وهذا يقتضى ألا يحرم من النساء إلا من ذكر ، وليس كذلك ؛ فإن الله - تعالى - قدر حرم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من لم يذكر فى الآية فيضم إليها . قال - تعالى - : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } روى مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها " وقد قيل : إن تحريم الجمع بين المرأة وعمتها - أو خالتها - فى معنى الجمع بين الأختين ؛ أو لأن الخالة فى معنى الوالدة والعمة فى معنى الوالد والصحيح الأول : لأن الكتاب والسنة كالشئ الواحد فكأنه قال : " أحللت لكم ما وراء من ذكرنا فى الكتاب وما وراء ما أكملت به البيان على لسان محمد صلى الله عليه وسلم " .

ثم رفع - سبحانه - من شأن المرأة وكرمها بأن جعل إيتاءها المهر شرطا لاستحلال نكاحها إعزازا لها فقال - تعالى - { أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } .

وقوله : { تَبْتَغُواْ } من الابتغاء بمعنى الطلب الشديد .

وقوله : { مُّحْصِنِينَ } من الإِحصان وهو هنا بمعنى العفة وتحصين النفس ومنعها عن الوقوع فيما يغضب الله - تعالى - .

وقوله : { مُسَافِحِينَ } من السفاح بمعنى الزنا والمسافح : هو الزانى . ولفظ السفاح مأخوذ من السفح وهو صب الماء وسيلانه . به الزنا ؛ لأن الزانى لا غرض له إلا صب النطفة فقط دون نظر إلى الأهداف الشريفة التى شرعها الله وراء النكاح .

وقوله { أَن تَبْتَغُواْ } فى محل نصب بنزع الخافض على أنه مفعول له لما دل عليه الكلام و { مُّحْصِنِينَ } و { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } حالان من فاعل { تَبْتَغُواْ } .

والمعنى : بين لكم - سبحانه - ما حرم عليكم من النساء ، وأحل لكم ما وراء ذلكم ، من أجل أن تطلبوا الزواج من النساء اللائى أحلهن الله لكم أشد الطلب ، عن طريق ما تقدمونه لهن من أموالكم كمهور ، وبذلك تكونون قد أحصنتم أنفسكم ومنعتموها عن السفاح والفجور والزنا .

قال بعضهم : وكان أهل الجاهلية إذا خطب الرجل منهم قال : انكحينى . فإذا أراد الزنا قال : بعض الشفعية : لا حجة فى ذلك ، لأن تخصيص المال كونه الأغلب المتعارف ، فيجوز النكاح على ما ليس بمال . ويؤيد ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل رجلا خطب الواهبة نفسها للنبى صلى الله عليه وسلم ماذا معك من القرآن ؟ قال : معى سورة كذا وكذا وعددهن . قال : تقرؤهن على ظهر قلبك ؟ قال : نعم قال : اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن " .

ووجه التأييد أنه لو كان فى الآية حجة لما خالفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجيب بأن كون القرآن معه لا يوجب كونه بدلا ، والتعليم ليس له ذكر فى الخبر ، فيجوز أن يكون مراده صلى الله عليه وسلم : زوجتك تعظيما للقرآن ولأجل ما معك منه .

ثم قال - تعالى - : { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } .

والاستمتاع : طلب المتعة والتلذذ بما فيه منفعة ولذة .

والمراد بقوله { أُجُورَهُنَّ } أى مهورهن لأنها فى مقابلة الاستمتاع فسميت أجراً .

و { مَا } فى قوله { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ } واقعة على الاستمتاع والعائد فى الخبر محذوف أى فآتوهن أجورهن عليه .

والمعنى : فما انتفعتم وتلذذتم به من النساء عن طريق النكاح الصحيح فآتوهن أجورهن عليه .

ويصح أن يكون { مَا } واقعة على النساء باعتبار الجنس أو الوصف . وأعاد الضمير عليها مفرداً فى قوله { بِهِ } باعتبار لفظها ، وأعاده عليها جمعا فى قوله { مِنْهُنَّ } باعتبار معناها .

ومن فى قوله { مِنْهُنَّ } للتبعيض أو للبيان . والجار والمجرور فى موضع النصب على الحال من ضمير { بِهِ } :

والمعنى : فأى فرد أو الفرد الذى تمتعتم به حال كونه من جنس النساء أو بعضهن فأعطوهن أجورهن على ذلك . والمراد من الأجور : المهور . وسمى المهر أجراً ؛ لأنه بدل عن المنفعة لا عن العين .

وقوله { فَرِيضَةً } مصدر مؤكد لفعل محذوف أى : فرض الله عليكم ذلك فريضة . أو حال من الأجور بمعنى مفروضة . أى : فآتوهن أجورهن حالة كونها مفروضة عليكم .

ثم بين - سبحانه - أنه لا حرج فى أن يتنازل أحد الزوجين لصاحبه عن حقه أو عن جزء منه ما دام ذلك حاصلا بالتراضى فقال - : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } .

أى : لا إثم ولا حرج عليكم فيما تراضيتم به أنتم وهو من إسقاط شئ من المهر أو الإِبراء منه أو الزيادة عليه ما دام ذلك بالتراضى بينكم ومن بعد اتفاقكم على مقدار المهر الذى سميتموه وفرضتموه على أنفسكم .

وقد ذيل - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } لبيان أن ما شرعه هو بمقتضى علمه الذى أحاط بكل شئ ، وبمقتضى حكمته التى تضع كل شئ فى موضعه .

فأنت ترى ان الآية الكريمة مسوقة لبيان بعض الأنواع من النساء اللاتى حرم الله نكاحهن ، ولبيان ما أحله الله منهن بعبارة جامعة ، ثم لبيان أن الله - تعالى - قد فرض على الأزواج الذين يبتغون الزوجات عن طريق النكاح الصحيح الشريف أن يعطوهن مهورهن عوضا عن انتفاعهم بهن ، وأنه لا حرج فى أن يتنازل أحد الزوجين لصاحبه عن حقه أو عن شئ منه ما دام ذلك بسماحة نفس ، ومن بعد تسمية المهر المقدر .

هذا ، وقد حمل بعض الناس هذه الآية على أنها واردة فى نكاح المتعة وهو عبارة عن أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معين لكى يستمتع بها .

قالوا : لأن معنى قوله - تعالى - : { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } : فمن جامعتموهن ممن نكحتموهن نكاح المتعة فآتوهن أجورهن .

ولا شك أن هذا القول بعيد عن الصواب ، لأنه من المعلوم أن النكاح الذى يحقق الإِحصان والذى لا يكون الزوج به مسافحا . هو النكاح الصحيح الدائم المستوفى شرائطه ، والذى وصفه الله بقوله { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } .

وإذاً فقد بطل حمل الآية على أنها فى نكاح المتعة ؛ لأنها تتحدث عن النكاح الصحيح الذى يتحقق معه الإِحصان ، وليس النكاح الذى لا يقصد به إلا سفح الماء وقضاء الشهوة .

قال ابن كثير : وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة ، ولا شك أنه كان مشروعا فى ابتداء الإِسلام ثم نسخ بعد ذلك . وقد روى عن ابن عباس وطائفة من الصحابة القول بإباحتها للضرورة . ولكن الجمهور على خلاف ذلك ، والعمدة ما ثبت فى الصحيحين عن امير المؤمنين على بن أبى طالب قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ، وفى صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة الجهنى عن أبيه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يأ أيها الناس إنى كنت أذنت لكم فى الاستمتاع من النساء ، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة . فمن كانت عنده منهن شئ فليخل سبيله ، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " .

وقال الآلوسى : وقيل الآية فى المتعة ، وهى النكاح إلى أجل معلوم من يوم أو أكثر .

والمراد ، { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ } من استئناف عقد آخر بعد انقضاء الأجل المضروب فى عقد المتعة ، بأن يزيد الرجل فى الأجر وتزيد المرأة فى المدة ، وإلى ذلك ذهبت الإِمامية - من طائفة الشيعة - .

ثم قال : ولا نزاع عندنا فى أنها أحلت ثم حرمت ، والصواب المختار أن التحريم والإِباحة كانا مرتين . فقد كانت حلالا قبل يوم خيبر ثم حرمت يوم خيبر ، ثم أبيحت يوم فتح مكة وهو يوم أوطاس لاتصالهما ، ثم حرمت يومئذ بعد ثلاث تحريما مؤبداً إلى يوم القيامة . . .

وقال بعض العلماء : وهذا النصف وهو قوله - تعالى - { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } قد تعلق به بعض المفسدين الذين لم يفهموا معنى العلاقات المحرمة بين الرجل والمرأة ، فادعوا أنه يبيح المتعة . . والنص بعيد عن هذا المعنى الفاسد بعد من قالوه عن الهداية ؛ لأن الكلام كله فى عقد الزواج فسابقه ولاحقه فى عقد الزواج ، والمتعة حتى على كلامهم لا يسمى عقد نكاح أبدا .

وقد تعلقوا مع هذا بعبارات رووها عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه أباح المتعة فى غزوات ثم نسخها ، وبأن ابن عباس كان يبيحها فى الغزوات وهذا الاستلال باطل ، لأن النبى صلى الله عليه وسلم نسخها ، فكان عليهم عند تعلقهم برواية مسلم أن يأخذوا بها جملة أو يتركوها ، وجملتها تؤدى إلى النسخ لا إلى البقاء .

وإذا قالوا إننا نتفق معكم على الإِباحة ونخالفكم فى النسخ فنأخذ المجمع عليه ونترك غيره قلنا لهم : إن النصوص التى أثبتت الإِباحة هى التى أثبتت النسخ ، وما اتفقنا معكم على الإِباحة ، لأننا نقرر نسخ الإِباحة .

على أننا نقول : إن ترك النبى صلى الله عليه وسلم المتعة لهم قبل الأمر الجازم بالمنع ، ليس من قبيل الإِباحة ، بل هو من قبيل الترك حتى تستأنس القلوب بالإِيمان وتترك عادات الجاهلية ، وقد كان شائعا بينهم اتخاذ الأخدان وهو ما نسميه اتخاذ الخلائل . وهذه هى متعتهم ، فنى القرآن الكريمة والنبى صلى الله عليه وسلم عنها . وإن الترك مدة لا يسمى إباحة وإنما يسمى متعتهم ، فنهى القرآن الكريم والنبى صلى الله عليه وسلم عنها . وإن الترك مدة لا يسمى إباحة وإنما يسمى عفوا حتى تخرج النفوس من جاهليتها ، والذين يستبيحونها باقون على الجاهلية الأولى .

وابن عباس - رضى الله عنه - قد رجع عن فتواه بعد أن قال له إمام الهدى على بن أبى طالب : إنك امرؤ تائه ، لقد نسخا النبى صلى الله عليه وسلم والله لا أوتى بمستمتعين إلا رجمتهما .

وبذلك نرى أن الآية الكريمة واردة فى شأن النكاح الصحيح الذى يحقق الإِحصان ولا يكون الزوج به مسافحا . وأن القول بأنها تدل على نكاح المتعة قول بعيد عن الحق والصواب للأسباب التى سبق ذكرها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۖ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَٰلِكُمۡ أَن تَبۡتَغُواْ بِأَمۡوَٰلِكُم مُّحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَۚ فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا تَرَٰضَيۡتُم بِهِۦ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡفَرِيضَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (24)

قوله عز وجل : { والمحصنات } عطف على المحرمات قبل ، والتحصن : التمنع ، يقال حصن المكان : إذا امتنع ، ومنه الحصن ، وحصنت المرأة : امتنعت بوجه من وجوه الامتناع ، وأحصنت نفسها ، وأحصنها غيرها ، والإحصان تستعمله العرب في أربعة أشياء ، وعلى ذلك تصرفت اللفظة في كتاب الله عز وجل ، فتستعمله في الزواج ، لأن ملك الزوجة منعة وحفظ ، ويستعملون الإحصان في الحرية لأن الإماء كان عرفهن في الجاهلية الزنا ، والحرة بخلاف ذلك ، ألا ترى إلى قولة هند بنت عتبة للنبي عليه السلام ، حين بايعته ، وهل تزني الحرة ؟ قالحرية منعة وحفظ ، ويستعملون الإحصان في الإسلام لأنه حافظ ، ومنه قول النبي عليه السلام «الإيمان قيد الفتك »{[3924]} ومنه قول الهذلي :

فَلَيْسَ كَعَهْدِ الدَّارِ يَا أمَّ مَالِكٍ . . . ولكنْ أَحَاطَتْ بالرِّقابِ السَّلاسِلُ{[3925]}

ومنه قول الشاعر :

قالَتْ هَلُمَّ إلى الحَديثِ فَقُلْتُ لا . . . يَأبى عَلَيْكِ اللَّهُ والإسْلامُ{[3926]}

ومنه قول سحيم :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** كَفى الشَّيْبُ والإسْلامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيا{[3927]}

ومنه قول أبي حية :

رَمَتْني وَسِتْرُ اللّهِ بيني وبينَها . . . فإن أحد الأقوال في الستر أنه أراد به الإسلام ، ويستعملون الإحصان في العفة ، لأنه إذا ارتبط بها إنسان وظهرت على شخص ما وتخلق بها ، فهي منعة وحفظ{[3928]} .

وحيثما وقعت اللفظة في القرآن فلا تجدها تخرج عن هذه المعاني ، لكنها قد تقوى فيها بعض هذه المعاني دون بعض ، بحسب موضع وموضع ، وسيأتي بيان ذلك في أماكنه إن شاء الله .

فقوله في هذه الآية { والمحصنات } ، قال ابن عباس وأبو قلابة وابن زيد ومكحول والزهري وأبو سعيد الخدري : هن ذوات الأزواج ، أي هن محرمات ، إلا ما ملكت اليمين بالسبي ، من أرض الحرب ، فإن تلك حلال للذي تقع في سهمه ، وإن كان لها زوج{[3929]} .

وروى أبو سعيد الخدري : أن الآية نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً إلى أوطاس{[3930]} فلقوا عدواً وأصابوا سبياً لهن أزواج من المشركين ، فتأثم{[3931]} المسلمون من غشيانهن ، فنزلت الآية مرخصة{[3932]} ، وقال عبد الله بن مسعود وسعيد بن المسيب والحسن ابن أبي الحسن وأبيّ بن كعب وجابر بن عبد الله وابن عباس أيضاً : معنى { المحصنات } ذوات الأزواج ، فهن حرام إلا أن يشتري الرجل الأمة ذات الزوج ، فإن بيعها طلاقها ، وهبتها طلاقها والصدقة بها طلاقها ، وأن تعتق طلاقها ، وأن تورث طلاقها ، وتطليق الزوج طلاقها ، وقال ابن مسعود : إذا بيعت الأمة ولها زوج فالمشتري أحقّ ببضعها ، ومذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء أن انتقال الملك في الأمة لا يكون طلاقاً ، ولا طلاق لها إلا الطلاق ، وقال قوم : { المحصنات } في هذه الآية العفائف ، أي كل النساء حرام ، وألبسهن اسم الإحصان ، إذ الشرائع في أنفسها تقتضي ذلك ، { إلا ما ملكت إيمانكم } قالوا : معناه بنكاح أو شراء ، كل ذلك تحت ملك اليمين{[3933]} ، قال بهذا القول أبو العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء ، ورواه عبيده عن عمر رضي الله عنه ، وقال ابن عباس : { المحصنات } العفائف من المسلمين ومن أهل الكتاب .

قال القاضي أبو محمد : وبهذا التأويل يرجع معنى الآية إلى تحريم الزنا ، وأسند الطبري عن عروة أنه قال في تأويل قوله تعالى : { والمحصنات } : هن الحرائر ، ويكون { إلا ما ملكت أيمانكم } معناه بنكاح ، هذا على اتصال الاستثناء ، وإن أريد الإماء فيكون الاستثناء منقطعاً ، وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : كان نساء يأتيننا مهاجرات ، ثم يهاجر أزواجهن فمنعناهن بقوله تعالى : { والمحصنات } الآية .

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول يرجع إلى ما قد ذكر من الأقوال ، وأسند الطبري أن رجلاً قال لسعيد بن جبير : أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية { والمحصنات من النساء } فلم يقل فيها شيئاً ؟ فقال سعيد : كان ابن عباس لا يعلمها وأسند أيضاً عن مجاهد أنه قال : لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل قوله : { والمحصنات }إلى قوله : { حكيماً } .

قال القاضي أبو محمد : ولا أدري كيف نسب هذا القول إلى ابن عباس ولا كيف انتهى مجاهد إلى هذا القول{[3934]} ؟ وروي عن ابن شهاب أنه سئل عن هذه الآية { والمحصنات من النساء } فقال : يروى أنه حرم في هذه الآية ذوات الأزواج والعفائف من حرائر ومملوكات ، ولم يحل شيئاً من ذلك إلا بالنكاح أو الشراء والتملك ، وهذا قول حسن عمم لفظ الإحسان ولفظ ملك اليمين ، وعلى هذا التأويل يتخرج عندي قول مالك في الموطأ ، فإنه قال : هن ذوات الأزواج ، وذلك راجع إلى أن الله حرم الزنا ، ففسر الإحصان بالزواج ، ثم عاد عليه بالعفة{[3935]} .

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة ، «والمحصّنات » بفتح الصاد في كل القرآن ، وقرأ الكسائي كذلك في هذا الموضع وحده ، وقرأ سائر ما في القرآن المحصنات بكسر الصاد «ومحصِنات » كذلك ، وروي عن علقمة أنه قرأ جميع ما في القرآن بكسر الصاد ، ففتح الصاد هو على معنى أحصنهن غيرهن من زوج أو إسلام أو عفة أو حرية . وكسر الصاد هو على معنى أنهن أحصنَّ أنفسهن بهذه الوجوه أو ببعضها ، وقرأ يزيد بن قطيب «والمحصُنات » بضم الصاد ، وهذا على إتباع الضمة الضمة{[3936]} .

وقرأ جمهور الناس «كتاب الله » وذلك نصب على المصدر المؤكد ، وقرأ أبو حيوة ومحمد بن السميفع اليماني «كَتَبَ اللهُ عليكم » على الفعل الماضي المسند إلى اسم الله تعالى ، وقال عبيدة السلماني وغيره : قوله { كتاب الله عليكم } إشارة إلى ما ثبت في القرآن من قوله : { مثنى وثلاث ورباع }{[3937]} وفي هذا بعد ، والأظهر لأن قوله { كتاب الله عليكم } إنما هو إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس وبين ما كانت العرب تفعله ، واختلفت عبارة المفسرين في قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } فقال السدي : المعنى وأحل لكم ما دون الخمس ، أن تبتغوا بأموالكم ، على وجه النكاح ، وقال نحوه عبيدة السلماني ، وقال عطاء وغيره : المعنى «وأحل لكم ما وراء » من حرم من سائر القرابة ، فهن حلال لكم تزويجهن ، وقال قتادة : المعنى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } من الإماء .

قال القاضي أبو محمد : ولفظ الآية يعم جميع هذه الأقوال : وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «وأَحل لكم » بفتح الألف والحاء ، وهذا مناسبة لقوله { كتاب الله } إذ المعنى كتب الله ذلك كتاباً ، وقرأ حمزة والكسائي «وأحِل » بضم الهمزة وكسر الحاء وهذه مناسبة لقوله : { حرمت عليكم } والوراء في هذه الآية ما يعتبر أمره بعد اعتبار المحرمات ، فهن وراء أولئك بهذا الوجه{[3938]} ، و { أن تبتغوا بأموالكم } ، لفظ يجمع التزويج والشراء و { أن } في موضع نصب ، وعلى قراءة حمزة في موضع رفع ، ويحتمل النصب بإسقاط الباء{[3939]} ، و { محصنين } ، معناه متعففين أي تحصنون أنفسكم بذلك { غير مسافحين } ، أي غير زناة ، والسفاح : الزنا ، وهو مأخوذ من سفح الماء أي صبه وسيلانه{[3940]} ، ولزم هذا الاسم الزنا ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع الدفاف{[3941]} في عرس : هذا النكاح لا السفاح ولا نكاح السر . واختلف المفسرون في معنى قوله : { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة } فقال ابن عباس ومجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم : المعنى فإذا استمتعتم بالزوجة ووقع الوطء ولو مرة فقد وجب إعطاء الأجر ، وهو المهر كله ، ولفظة { فما } تعطي أن بيسير الوطء يجب إيتاء الأجر . وروي عن ابن عباس أيضاً ومجاهد والسدي وغيرهم : أن الآية في نكاح المتعة ، وقرأ ابن عباس وأبيّ بن كعب وسعيد بن جبير ، «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهنَّ أجورهن » وقال ابن عباس لأبي نضرة : هكذا أنزلها الله عز وجل ، وروى الحكم بن عتيبة ، أن علياً رضي الله عنه قال : لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقيّ ، وقد كانت المتعة لا ميراث فيها ، وقيل قول الله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن }{[3942]} [ الطلاق : 1 ] وقالت عائشة : نسخها قوله : { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم }{[3943]} ولا زوجية مع الأجل ورفع الطلاق ، والعدة ، والميراث ، وكانت{[3944]} : أن يتزوج الرجل المرأة بشاهدين وإذن الولي إلى أجل مسمى ، وعلى أن لا ميراث بينهما ، ويعطيها ما اتفقا عليه ، فإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل ، وتستبرىء رحمها لأن الولد لاحق فيه بلا شك ، فإن لم تحمل حلت لغيره .

قال القاضي أبو محمد : وفي كتاب النحاس : في هذا خطأ فاحش في اللفظ ، يوهم أن الولد لا يلحق في نكاح المتعة{[3945]} ، وحكى المهدوي عن ابن المسيب : أن نكاح المتعة كان بلا ولي ولا شهود ، وفيما حكاه ضعف ، و { فريضة } نصب على المصدر في موضع الحال{[3946]} .

واختلف المفسرون في معنى قوله : { ولا جناح عليكم } الآية ، فقال القائلون بأن الآية المتقدمة أمر بإيتاء مهور النساء إذا دخل بهن : إن هذه إشارة إلى ما يتراضى به من حط أو تأخير بعد استقرار الفريضة ، فإن ذلك الذي يكون على وجه الرضا جائز ماض ، وقال القائلون بأنه الآية المتقدمة هي أمر المتعة : إن الإشارة بهذه إلى أن ما تراضيا عليه من زيادة في مدة المتعة وزيادة في الأجر جائز سائغ ، وباقي الآية بين .


[3924]:- هذا جزء من حديث رواه البخاري في تاريخه، وأبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة، وأخرجه الإمام أحمد في المسند عن الزبير ومعاوية، قال المناوي: "وسنده جيد ليس فيه إلا أسباط بن الهمذاني وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي، وقد خرج لهما مسلم". المناوي على الجامع جـ3 ص 186، والحديث بتمامه: (الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن). والفتك: أن يأتي الرجل صاحبه وهو غار غافل فيشد عليه فيقتله، والغيلة: أن يخدعه ثم يقتله في موضع خفي. النهاية.
[3925]:- يريد أن تكاليف الشريعة قد قيدت الناس ومنعتهم من فعل المعاصي.
[3926]:- المعنى أن الإسلام قد منعه من الحديث وما يتبعه.
[3927]:- هذا عجز البيت، وصدره كما في الديوان: عُميرة ودّع إن تجهزت غاديا. .......................... ورُوي: عن أبي بكر: "هريرة ودع". والبيت كالبيتين السابقين عليه يدل على أن معنى الإحصان يستعمل في الإسلام لأنه يحفظ المسلم.
[3928]:- ومنه قول الله تعالى: [محصنات غير مسافحات]، وقوله تعالى: [محصنين غير مسافحين]، ومحصنة ومحصِنة وحصان: عفيفة ممتنعة من الفسق، قال حسان في عائشة رضي الله عنها: حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل. ومعنى تُزنّ: تُتَّهم- ومعنى غَرْثَى: جائعة، والمراد أنها لا تغتاب غيرها.
[3929]:- وهذا هو قول الشافعي إذ يرى أن السباء يقطع العصمة، وقاله ابن وهب ابن عبد الحكيم وروياه عن مالك، وقال به أشهب- روى ذلك القرطبي جـ 5 ص 121، واستدل على ذلك بالحديث الآتي الذي رواه أبو سعيد الخدري.
[3930]:- أوطاس: واد بديار هوازن.
[3931]:- تأثّم: تحرج- وقد روي الحديث بلفظ (تحرّج)، في صحيح مسلم.
[3932]:- "أخرج الطيالسي، وعبد الرزاق، والفريابي، وابن شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطحاوي، وابن حبان، والبيهقي في سننه عن أبي سعيد الخدري (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث يوم حنين جيشا إلى أوطاس، فلقوا عدوا فقاتلوهم، فظهروا عليهم، وأصابوا لهم سبايا فكأن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله في ذلك: [والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم] (يقول: إلا ما أفاء الله عليكم، فاستحللنا بذلك فروجهن" (الدر المنثور ج2 ص 138)، قال القرطبي بعد أن روى الحديث: " وهذا نص صحيح صريح في أن الآية نزلت بسبب تحرّج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن وطء المسبيات ذوات الأزواج" ج5 ص 121. ولكن يشترط انقضاء العدة.
[3933]:-لعلّ صحة العبارة: إذ كل ذلك تحت ملك اليمين، وعبارة "البحر المحيط": فيدخل ذلك كله تحت ملك اليمين، قال القرطبي: "فأدخلوا النكاح تحت ملك اليمين. يعني: تملكون عصمتهن بالنكاح، وتملكون الرقبة بالشراء، فكأنهن كلهن ملك اليمين، وما عدا ذلك فزنى، وهذا قول حسن" 5-122.
[3934]:- منهج ابن عطية في هذا التفسير ألا ينقل إلا ما يرتاح إليه، وكان ينقل عن ابن جرير الطبري أو غيره من كبار العلماء ثم يعقب بالنقد إذا كان عقله لا يقبل الكلام المنقول. وقد أخذ ابن تيمية على ابن عطية هذا الاتجاه على اعتبار أن ما يروى عن علماء السلف يجب أن يقبل ما دامت الرواية صحيحة، ولكن ابن عطية على حق في منهجه الذي يحكم العقل إلى جانب النقل.
[3935]:- اختار ابن عطية ما رواه ابن شهاب، وعلّل لاختياره بأنه عمم لفظ الإحصان، ولفظ ملك اليمين، وخرّج عليه قول مالك. أما أبو حيان في "البحر المحيط" فقال: "والذي يقتضيه لفظ الإحصان أن يعلق بالقدر المشترك بين معانيه الأربعة وإن اختلفت جهات الإحصان، ويحمل قوله: [إلا ما ملكت أيمانكم] على ظاهر استعماله في القرآن، وفي السنة، وفي عرف العلماء من أن المراد به: الإماء، ويعود الاستثناء إلى ما صح أن يعود عليه من جهات الإحصان" 3/214.
[3936]:- أي: إتباع ضمة الصاد لضمة الميم، ولم يعتدوا بالحاجز وهو الحاء لأنه ساكن، فهو حاجز غير حصين.
[3937]:- من قوله تعالى: [فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع]. في الآية (3) من سورة (النساء) هذه، فعبيدة السلماني يجعل (كتاب الله) متعلقا بقوله تعالى: [فانكحوا...]، وهذا هو السبب في قول ابن عطية: "وفي هذا بعد"، والظاهر أن [كتاب الله] مصدر مؤكد كما قال ابن عطية، قال أبو حيان: "وما ذهب إليه الكسائي من أنه يجوز تقديم المفعول في باب الإعراب- الظروف والمجرورات مستدلا بهذه الآية، إذ تقدير ذلك عنده: عليكم كتاب الله، أي الزموا كتاب الله- لا يتم دليله لاحتمال أن يكون مصدرا مؤكدا" 3/214.
[3938]:-قال الزجاج: ما وراء ذلكم]: ما دون ذلكم، أي: ما بعده هذه الأشياء التي حرمت، وقال الفراء: [ما وراء ذلكم]: أي ما سوى ذلكم، وقال أبو حيان: وهذه التفاسير بعضها يقرب من بعض.
[3939]:-قال أبو حيان: "وموضع [أن تبتغوا] نصب على أنه بدل اشتمال من [ما وراء ذلكم]. ونقل عن الزمخشري أن [أن تبتغوا] مفعول له، ثم علق على كلام الزمخشري بما يهدم رأيه. راجع "البحر المحيط" 3/ 216.
[3940]:- جاء في لسان العرب: "التسافح والسفاح والمسافحة: الزنة والفجور- وأصل ذلك من الصب". ثم قال: "قال أبو إسحاق: وسمي الزنى سفاحا لأنه كان من غير عقد، كأنه بمنزلة الماء المسفوح الذي لا يحبسه شيء" مادة "سفح"
[3941]:- أي: الضارب بالدف. وفي الحديث: (فصل ما بين الحلال والحرام الصوت والدف- رواه الخمسة إلا أبا داود.
[3942]:- من الآية رقم (1) من سورة (الطلاق)
[3943]:- الآية رقم (5)- ومن الآية رقم (6) من سورة (المؤمنون).
[3944]:- أي: المتعة، وكانت قد أبيحت في صدر الإسلام ثم حرمت، أخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، والبخاري، ومسلم، عن ابن مسعود قال: (كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس معنا نساؤنا فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ورخص لنا أن نتزوج المرأة بالثوب إلى أجل)، وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، ومسلم، عن سبرة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما بين الركن والباب وهو يقول: (يا أيها الناس، إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع، ألا وإن الله حرمها إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا). الدر المنثور 2/140، وفي ابن كثير أن راوي الحديث هو الربيع بن سبرة بن معبد الجهني (تفسير ابن كثير 2/245).
[3945]:- قال القرطبي بعد أن نقل هذا الكلام عن ابن عطية: "هذا هو المفهوم من عبارة النحاس، فإنه قال: وإنما المتعة أن يقول لها: أتزوجك يوما- أو ما أشبه ذلك- على أنه لا عدة عليك، ولا ميراث بيننا، ولا طلاق، ولا شاهد يشهد على ذلك، وهذا هو الزنى بعينه، ولم يبح قط في الإسلام، ولذلك قال عمر: لا أوتى برجل تزوج متعة إلا غيبته تحت الحجارة" القرطبي 5/132.
[3946]:-قال أبو حيان الأندلسي: "أو مصدر على غير المصدر، أي: فآتوهن أجورهن إيتاء، لأن الإيتاء مفروض، أو مصدر مؤكد، أي: فرض ذلك فريضة". البحر المحيط 3/219.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۖ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَٰلِكُمۡ أَن تَبۡتَغُواْ بِأَمۡوَٰلِكُم مُّحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَۚ فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا تَرَٰضَيۡتُم بِهِۦ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡفَرِيضَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (24)

{ والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم كتاب الله عَلَيْكُمْ } .

عطف على { وأن تجمعوا } [ النساء : 23 ] والتقدير : وحُرّمت عليكم المحصنات من النساء إلخ . . . فهذا الصنف من المحرّمات لعارض نظيرَ الجمع بين الأختين .

والمحصنات بفتح الصاد من أحصنها الرجل إذا حفظها واستقّل بها عن غيره ، ويقال : امرأة محصنة بكسر الصاد أحصنت نفسها عن غير زوجها ، ولم يقرأ قوله : { والمحصنات } في هذه الآية إلاَّ بالفتح .

ويقال أحصَنَ الرجُلُ فهو محصِن بكسر الصاد لا غير ، ولا يقال محصَن : ولذلك لم يقرأ أحد : محصَنين غير مسافحين بفتح الصاد ، وقريء قوله : { ومحصنات } بالفتح والكسر وقوله : { فإذا أحصن } [ النساء : 25 ] بضم الهمزة وكسر الصاد ، وبفتح الهمزة وفتح الصاد . والمراد هنا المعنى الأول ، أي وحرّمت عليكم ذوات الأزواج ما دُمن في عصمة أزواجهنّ ، فالمقصود تحريم اشتراك رجلين فأكثر في عصمة امرأة ، وذلك إبطال لنوع من النكاح كان في الجاهلية يسمّى الضِّمَاد ، ولنوع آخر ورد ذكره في حديث عائشة : أن يشترك الرجال في المرأة وهم دون العشرة ، فإذا حملت ووضعت حملها أرسلت إليهم فلا يستطيع أحد منهم أن يمتنع ، فتقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان ، تسمّي من أحبّت باسمه فيلحق به . ونوع آخر يسمّى نكاح الاستبضاع ؛ وهو أن يقول الزوج لامرأته إذا طَهرت من حيضها : أرسلي إلى فلان ، فاستبضعي منه ، ويعتزلها زوجها ولا يمسّها حتّى يتبيّن حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه ، فإذا تبيّن حملها أصابها زوجها . قالت عائشة : وإنما يفعل هذا رغبة في نجابة الولد ، وأحسب أنّ هذا كان يقع بتراض بين الرجلين ، والمقصد لا ينحصر في نجابة الولد ، فقد يكون لبذل مال أو صحبة . فدَلّت الآية على تحريم كلّ عقد على نكاح ذات الزوج ، أي تحريم أن يكون للمرأة أكثر من زوج واحد . وأفادت الآية تعميم حرمتهنّ ولو كان أزواجهنّ مشركين ، ولذلك لزم الاستثناء بقوله : { إلا ما ملكت أيمانكم } أي إلاّ اللائي سبَيتُموهنّ في الحرب ، لأنّ اليمين في كلام العرب كناية عن اليد حين تمسك السيف .

وقد جعل الله السبي هادما للنكاح تقريراً لمعتاد الأمم في الحروب ، وتخويفاً أن لا يناصبوا الإسلام لأنّهم لو رفع عنهم السبي لتكالبوا على قتال المسلمين ، إذ لا شيء يحذره العربي من الحرب أشدّ من سبي نسوته ، ثم من أسره ، كما قال النابغة :

حِذاراً على أن لا تُنال مقادتي *** ولاَ نسوتي حتّى يمُتْن حَرائراً

واتّفق المسلمون على أنّ سبي المرأة دون زوجها يهدم النكاح ، ويُحلّها لمن وقعت في قسمته عند قسمة المغانم . واختلفوا في التي تسبَى مع زوجها : فالجمهور على أنّ سبيها يهدم نكاحها ، وهذا إغضاء من الحكمة التي شرع لأجلها إبقاء حكم الاسترقاق بالأسر .

وأومأت إليها الصلة بقوله : { ملكت أيمانكم } وإلاّ لقال : إلاّ ما تركت أزواجهنّ .

ومن العلماء من قال : إنّ دخول الأمة ذاتِ الزوج في ملك جديد غير ملك الذي زوَّجها من ذلك الزوج يسوّغ لمالكها الجديد إبطال عقد الزوجية بينها وبين زوجها ، كالتي تباع أو توهب أو تورث ، فانتقال الملك عندهم طلاق . وهذا قول ابن مسعود ، وأبَي بن كعب ، وجابر بن عبد الله ، وابن عباس ، وسعيد ، والحسن البصري ، وهو شذوذ ؛ فإنّ مالكها الثاني إنّما اشتراها عالماً بأنّها ذات زوج ، وكأنَّ الحامل لهم على ذلك تصحيح معنى الاستثناء ، وإبقاء صيغة المضيّ على ظاهرها في قوله : { ملكت } أي ما كن مملوكات لهم من قبل . والجواب عن ذلك أن المراد بقوله : { ملكت } ما تجدّد ملكها بعد أن كانت حرّة ذات زوج . فالفعل مستعمل في معنى التجدّد .

وقد نقل عن ابن عباس أنّه تحيّر في تفسير هذه الآية ، وقال : « لو أعلم أحداً يعلم تفسيرها لضربت إليه أكباد الإبل » . ولعلّه يعني من يعلم تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان بعض المسلمين في الزمن الأول يتوهّم أنّ أمة الرجل إذا زوَّجها من زوج لا يحرم على السيّد قِربانها ، مع كونها ذات زوج . وقد رأيت منقولاً عن مالك : أنّ رجلا من ثقيف كان فعل ذلك في زمان عُمر ، وأنّ عمر سأله عن أمته التي زوجّها وهل يطَؤها ، فأنكر ، فقال له : لو اعترفتَ لجعلتُكَ نَكَالاً .

وقوله : { كتاب الله عليكم } تذييل ، وهو تحريض على وجوب الوقوف عند كتاب الله ، ف { عليكم } نائب مناب ( الزَمُوا ) ، وهو مُصيَّر بمعنى اسم الفعل ، وذلك كثير في الظروف والمجرورات المنزَّلة منزلة أسماء الأفعال بالقرينة ، كقولهم : إليك ، ودُونك ، وعَليك . و { كتاب الله } مفعوله مُقدّم عليه عند الكوفيين ، أو يجعل منصوباً ب ( عليكم ) محذوفاً دلّ عليه المذكور بعده ، على أنّه تأكيد له ، تخريجاً على تأويل سيبويه في قول الراجز :

يأيُّها المائِحُ دلوي دُونك *** إنّي رأيت الناس يحمدونك

ويجوز أن يكون { كتاب } مصدراً نائباً مناب فعلِه ، أي كَتَب الله ذلك كتاباً ، و { عليكم } متعلّقاً به .

{ وأحل لكم ما وراء ذالكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين }

عطف على قوله : { حرمت عليكم أمهاتكم } [ النساء : 23 ] وما بعدَه ، وبذلك تلتئم الجمل الثلاث في الخبرية المراد بها الإنشاء ، وفي الفعلية والماضوية .

وقرأ الجمهور : { وأحل لكم } بالبناء للفاعل ، والضمير المستتر عائد إلى اسم الجلالة من قوله : { كتاب الله عليكم } .

وأسند التحليل إلى الله تعالى إظهاراً للمنّة ، ولِذلك خالف طريقة إسناد التحريم إلى المجهول في قوله : { حرمت عليكم أمهاتكم } لأنّ التحريم مشقّة فليس المقام فيه مقام منّة .

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر : { وأحل } بضم الهمزة وكسر الحاء على البناء للنائب على طريقة { حرمت عليكم أمهاتكم } .

والوراء هنا بمعنى غير ودُون ، كقول النابغة :

وليسَ وراءَ اللَّه للمرءِ مذهب

وهو مجاز ؛ لأنّ الوراء هو الجهة التي هي جهة ظهر ما يضاف إليه . والكلام تمثيل لحال المخاطبين بحال السائر يَترك ما وراءه ويتجاوزه .

والمعنى : أحلّ لكم ما عَدا أولئكم المحرّمات ، وهذا أنزِل قبل تحريم ما حرّمته السُّنة نحو ( لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ) ، ونحو ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) .

وقوله : { أن تبتغوا بأموالكم } يجوز أن يكون بدل اشتمال من ( ما ) باعتبار كون الموصول مفعولا ل ( أحَلَّ ) ، والتقدير : أن تبتغوهنّ بأموالكم فإنّ النساء المبَاحات لا تحلّ إلاّ بعد العقد وإعطاء المهور ، فالعقد هو مدلول ( تبتغوا ) ، وبذل المهر هو مدلول ( بأموالكم ) ، ورابط الجملة محذوف : تقديره أن تبتغوه ، والاشتمال هنا كالاشتمال في قول النابغة :

مخافة عمرو أن تكون جياده *** يقدن إلينا بين حاف وناعل

ويجوز أن يجعل { أن تبتغوا } معمولا للام التعليل محذوفةٍ ، أي أحَلَّهُن لتبتغوهنّ بأموالكم ، والمقصود هو عين ما قرّر في الوجه الأول .

و { محصنِين } حال من فاعل ( تبتغوا ) أي محصنين أنفسكم من الزنى ، والمراد متزوّجين على الوجه المعروف . { غير مسافحين } حال ثانية ، والمسافح الزاني ، لأنّ الزنى يسمّى السفاح ، مشتقّا من السفح ، وهو أن يهراق الماء دون حَبْس ، يقال : سَفَح الماءُ . وذلك أنّ الرجل والمرأة يبذل كلّ منهما للآخر ما رامه منه دون قيد ولا رضَى وليّ ، فكأنّهم اشتقّوه من معنى البذل بلا تقيّد بأمرٍ معروف ؛ لأنّ المِعطاء يطلق عليه السَّفَّاح . وكان الرجل إذا أراد من المرأة الفاحشة يقول لها : سافحيني ، فرجع معنى السفاح إلى التباذل وإطلاق العنان ، وقيل : لأنّه بلا عقد ، فكأنّه سَفَح سفحاً ، أي صبّا لا يحجبه شيء ، وغير هذا في اشتقاقه لا يَصحّ ، لأنّه لا يختصّ بالزنى .

{ فما استمتعتم به منهن فئاتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما } .

تفريع على { أن تبتغوا بأموالكم } وهو تفريع لفظي لبيان حقّ المرأة في المهر وأنّه في مقابلة الاستمتاع تأكيداً لما سبقه من قوله تعالى : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } [ النساء : 4 ] سواء عند الجمهور الذين يجعلون الصداق ركنا للنكاح ، أو عند أبي حنيفة الذي يجعله مجرّد حقّ للزوجة أن تطالب به ؛ ولذلك فالظاهر أن تجعل ( ما ) اسم شرط صادقاً على الاستمتاع ، لبيان أنّه لا يجوز إخلاء النكاح عن المهر ، لأنّه الفارق بينه وبين السفاح ، ولذلك قرن الخبر بالفاء في قوله : { فأتوهن أجزرهن فريضة } لأنّه اعتبر جواباً للشرط .

والاستمتاع : الانتفاع ، والسين والتاء فيه للمبالغة ، وسمَّى الله النكاح استمتاعاً لأنّه منفعة دنيوية ، وجميع منافع الدنيا متاع ، قال تعالى : { وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع } [ الرعد : 26 ] .

والضمير المجرور بالباء عائد على ( مَا ) . و ( مِنْ ) تبعيضية ، أي : فإن استمتعتم بشيء منهن فآتوهنّ ؛ فلا يجوز استمتاع بهنّ دون مهر .

أو يكون ( مَا ) صادقة على النساء ، والمجرور بالباء عائداً إلى الاستمتاع المأخوذ من استمتعتم و ( من ) بيانية ، أي فأي امرأة استمتعتم بها فآتوها .

ويجوز أن تجعل ( مَا ) موصولة ، ويكون دخول الفاء في خبرها لمعاملتها معاملة الشرط ، وجيء حينئذ ب ( ما ) ولم يعبر ب ( مَن ) لأنّ المراد جنس النساء لا القصد إلى امرأة واحدة ، على أنّ ( ما ) تجيء للعاقل كثيراً ولا عكس : و { فريضةً } حال من { أجورهن } أي مفروضة ، أي مقدرة بينكم .

والمقصد من ذلك قطع الخصومات في أعظم معاملة يقصد منها الوثاق وحسن السمعة .

وأمّا نكاح التفويض : وهو أن ينعقد النكاح مع السكوت عن المهر ، وهو جائز عند جميع الفقهاء ؛ فجوازه مبني على أنّهم لا يفوّضون إلاّ وهم يعلمون معتاد أمثالهم ، ويكون ( فريضة ) بمعنى تقديراً ، ولذلك قال : { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } ، أي فيما زدتم لهنّ أو أسقطن لكم عن طيب نفس . فهذا معنى الآية بيّنا لا غبار عليه .

وذهب جمع : منهم ابن عباس ، وأُبيّ بن كعب ، وابن جبير : أنّها نزلت في نكاح المتعة لما وقع فيها من قوله : { فما استمتعتم به منهن } . ونكاح المتعة : هو الذي تعاقد الزوجان على أن تكون العصمة بينهما مؤجّلة بزمان أو بحالة ، فإذا انقضى ذلك الأجل ارتفعت العصمة ، وهو نكاح قد أبيح في الإسلام لا محالة ، ووقع النهي عنه يوم خيبر ، أو يوم حنين على الأصحّ . والذين قالوا : حُرّم يوم خيبر قالوا : ثم أبيح في غزوة الفتح ، ثم نهي عنه في اليوم الثالث من يوم الفتح . وقيل : نهي عنه في حجّة الوداع ، قال أبو داود : وهو أصحّ . والذي استخلصناه أنّ الروايات فيها مضطربة اضطراباً كبيراً .

وقد اختلف العلماء في الأخير من شأنه : فذهب الجمهور إلى أنّ الأمر استقرّ على تحريمه ، فمنهم من قال : نسخته آية المواريث لأنّ فيها { ولكم نصف ما ترك أزواجكم ولهن الربع مما تركتم } [ النساء : 12 ] فجعل للأزواج حَظّا من الميراث ، وقد كانت المتعة لا ميراث فيها . وقيل : نسخها ما رواه مسلم عن سَبْرة الجهني ، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسنداً ظهره إلى الكعبة ثالث يوم من الفتح يقول : " أيها الناس إن كنت أذنت لكم في الاستمتاع من هذه النساء إلا أن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة " . وانفراد سبرة به في مِثل ذلك اليوم مغمز في روايته ، على أنّه ثبت أنّ الناس استمتعوا . وعن علي بن أبي طالب ، وعمران بن حصين ، وابن عباس ، وجماعة من التابعين والصحابة أنّهم قالوا بجوازه . قيل : مطْلقاً ، وهو قول الإمَامية ، وقيل : في حال الضرورة عند أصحاب ابن عباس من أهل مكة واليمن .

وروي عن ابن عباس أنّه قال : لولا أنّ عُمر نهى عن المتعة ما زنى إلاَّ شَفى . وعن عمران بن حصين في « الصحيح » أنه قال : « نزلت آية المتعة في كتاب الله ولم ينزل بعدَها آية تنسخها ، وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال رجلٌ برأيه ما شَاء » يعني عُمر بن الخطاب حين نهى عنها في زمن من خلافته بعد أن عملوا بها في معظم خلافته ، وكان ابن عباس يفتي بها ، فلمّا قال له سعيد بن جبير : أتدري ما صنعتَ بفتواك فقد سارت بها الركبان حتّى قال القائل :

قد قلتُ للركب إذْ طال الثَّواءُ بنـا *** يا صاح هل لك في فتوى ابن عبّاس

في بَضَّةِ رخصةِ الأطراف ناعمةٍ *** تَكُونُ مثواكَ حتّى مَرْجعِ النـــاس

أمسك عن الفتوى وقال : إنّما أحللت مثل ما أحلّ الله الميتة والدم ، يريد عند الضرورة . واختلف العلماء في ثبات علي على إباحتها ، وفي رجوعه . والذي عليه علماؤنا أنّه رجع عن إباحتها . أمّا عمران بن حصين فثبت على الإباحة . وكذلك ابن عباس على « الصحيح » . وقال مالك : يُفسخ نكاح المتعة قبل البناء وبعد البناء ، وفسخه بغير طلاق ، وقيل : بطلاق ، ولا حدَّ فيه على الصحيح من المذهب ، وأرجح الأقوال أنّها رخصة للمسافر ونحوه من أحوال الضرورات ، ووجه مخالفتها للمقصد من النكاح ما فيها من التأجيل . وللنظر في ذلك مجال .

والذي يُستخلص من مختلف الأخبار أنّ المتعة أذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين ، ونهى عنها مرتين ، والذي يفهم من ذلك أن ليس ذلك بنسخ مكرّر ولكنّه إناطة إباحتها بحال الاضطرار ، فاشتبه على الرواة تحقيق عذر الرخصة بأنّه نسخ . وقد ثبت أنّ الناس استمتعوا في زمن أبي بكر ، وعمر ، ثم نهى عنها عمر في آخر خلافته . والذي استخلصناه في حكم نكاح المتعة أنّه جائز عند الضرورة الداعية إلى تأجيل مدّة العصمة ، مثل الغربة في سفر أو غزو إذا لم تكن مع الرجل زوجهُ . ويشترط فيه ما يشترط في النكاح من صداق وإشهاد ووليّ حيث يُشترط ، وأنّها تبين منه عند انتهاء الأجل ، وأنّها لا ميراث فيها بين الرجل والمرأة ، إذا مات أحدهما في مدة الاستمتاع ، وأنّ عدّتها حيضة واحدة ، وأنّ الأولاد لاَحقون بأبيهم المستمتِع . وشذّ النحّاس فزعم أنّه لا يلحق الولد بأبيه في نكاح المتعة . ونحن نرى أنّ هذه الآية بمعزل عن أن تكون نازلة في نكاح المتعة ، وليس سياقها سامحا بذلك ، ولكنّها صالحة لاندراج المتعة في عموم { ما استمتعتم } فيُرجع في مشروعية نكاح المتعة إلى ما سمعتَ آنفاً .